الجاحظ وكتابه «الحيوان»: موسوعة الحضارة العربية

في صبيحة أحد الأيام، خرج الصبي البَصْري الحاذق عمرو بن بحر من منزله باكيًا بعدما حاولت أمه إثناءه عن الاهتمام المُفرط بالكتب لصالح نشاط آخر يوفّر لهما قدرًا أوفر من مال حُرما منه منذ ولادته، فقدّمت له بدلاً من الطعام كراريس، ولمّا ذهب إلى الجامع حزينًا حكى لصديقه الثري مويس بن عمران فأعطاه 50 دينارًا اشترى بها أجوال دقيق أوصلها الحمّالون لداره، مؤكدًا لأمه أنه أتى بهذا الطعام بفضل الكراريس، وهنا علم ابن بحر أن الكتب طريقته المثلى ليضمن لنفسه مكانة مرموقة في دياره.

نشأته كانت قاسية؛ وُلد يتيمًا فقيرًا، وعاش على الكفاف مع أمه، واضطر لخوض غمار الحياة العملية مبكرًا فنزل إلى سوق العمل وباع الخبز والسمك، علاوة على أنه كان بشع الخِلقة بسبب بروز عينيه الشديد، فعُرف بـ «الجاحظ» وبلقبٍ آخر لم ينل حظ الأول من الشهرة وهو «الحَدَقي»، إلا أن الله عوّضه عن كل هذا بِهمّة تحصيلٍ للعلم لا تنقطع وبعقل أرشيفي لا ينسى ولسان ساخر لا يرحم.

البصرة أم الدنيا

في تلك الأثناء، كانت الدولة العباسية قد فرغت من عصرها الذهبي الأول (132- 232هـ) الذي تجلّت فيه قوة الدولة ومجدها، واتسعت شرايينها لاستقبال روائع الحضارات الفارسية واليونانية ما كان له بالغ الأثر على حركتي الفكر والأدب، إلا أنه مع دخول الدولة في عصرها الثاني بدأت هيبة الخلفاء في الترنُّح على وقع تغلغل نفوذ الأتراك، غير أن الحركة العلمية واصلت تطورها حتى بلغت ذروتها في عصري هارون الرشيد وابنه المأمون، حيث تحولت مدنًا كالبصرة وبغداد والكوفة إلى أيقونات مضيئة لا تتوقف عن التأليف والترجمة.

مكّن الموقع الجغرافي للبصرة بين البحر من جهة والبادية من ناحية أخرى من أن تأوي بين جناحيها شتّى الجنسيات من ملاَّحين وصيادين أفارقة وآسيويين وأعراب أفنوا أعمارهم في الصحراء، قصدها الفصحاء والخطباء وتكاملت على يد نوابغها علوم النحو والصرف واللغة، ونُقلت إليها حركات الترجمة بقية علوم وآداب الأمم الأخرى، فأصبحت مدرسة للمتكلمين من شيوخ المعتزلة وروّاد الفلسفة، واستضاف جامعها الكبير حلقات درس ومناظرات ساخنة بين المعتزلة والمتكلمين وأصحاب الملل والنحل حوّلتها لجامعات مفتوحة يتبارى إليها طلاب العلم، ووسط هذه الأجواء ترعرع الجاحظ وأغرم بمدينته فاكتفى بها وقال عنها: «الدنيا البصرة»، وعاش فيها حتى مات[1].

لمع نجم عمرو بن بحر المُكنَّى بأبي عثمان، وتتالت روائعه الأدبية التي ذاعت شهرتها بالأوساط الثقافية وزاد عددها عن 200 مؤلف في شتّى المجالات، إلا أنه بنهاية حياته كان يدّخر في جعبته عمله الأيقوني الذي سيُخلِّد اسمه دنيا الأدب؛ كتاب الحيوان، والذي خرج للنور في 7 أجزاء مُكونًا من 89 بابًا جمعت أنواعًا متعددة حفلت بمعظم معارف عصره فلم تترك الطب ولا التاريخ ولا الأدب ولا الفلسفة.

كتاب «الحيوان»

لا نعرف تاريخًا صريحًا لتأليف الكتاب، لكن الأكيد أن أبا عثمان وضَعه في المرحلة الثالثة من حياته العلمية حينما كان مريضًا بالفالج، وهو الداء الذي أصابه آخر 22 عامًا بحياته حتى مات وهو عليه سنة 255 هـ، وكان قد أشار إلى إعداده له في كتابه الشهير «البيان والتبيين» الذي سبقه في النشر والانتشار، وقال به ما دلَّ على أنه كان يجمع مادة الحيوان قبل وضعه هذا المؤلف أو على الأقل خلال كتابته هو الآخر، غير أن إهداءه «الحيوان» لمحمد بن عبد الملك الزيات وزير الخليفة الواثق لقاء منحة قدرها 5 آلاف درهم، أكد أن الكتاب تم وضعه بنهاية عام 233هـ بحد أقصى، وهي السنة التي تم قتل فيها الزيات بأمرٍ من الخليفة المتوكل الذي ورث عرش أخيه.

بالنهاية خرج للنور عقب محاولات عربية خجول لمجاراة فلاسفة اليونان في مضمار الكتابة عن الحيوان، مثل كتب الإبل لأبي حاتم السجستاني (248هـ)، والأصمعي (122-216هـ)، ولأبي عبيدة (110- 209هـ)، وللنضر بن شميل (122-203 هـ)، ولأبي زياد الكلابي ولأحمد بن حاتم الباهلي (231هـ)، وكتب الخيل لابن قتيبة (213- 276هـ)، وابن الأعرابي (215- 231هـ)، ولأبي عبيدة وأبي جعفر محمد بن حبيب البغدادي (245هـ)، وكتب الغنم لأبي الحسن الأخفش (215هـ)، وكتب الوحوش للأصمعي ولأبي زياد أستاذ الجاحظ (119- 215هـ)، إلا أنها جميعًا لم تؤلَّف لأغراض علمية، وأنما أراد لها أصحابها أن يكون همّها البحثي الأول في اللغة، فلم تنشغل بطبع الحيوان وخصائصه، ولا بدقائقه وأحواله، وإنما كانت أقرب للمعاجم اللغوية، لذا اعتُبر الجاحظ بأنه أول واضع لكتاب عربي جامع في علم الحيوان[2].

«أحمد منصور»، أستاذ الأدب بجامعة أسيوط: «الجاحظ وكتابه الحيوان»[3]

بهوى معتزلي يُعلي من قيمة العقل ويرى أنه «زمامٌ على الأعضاء وعيارٌ على الحواس» ووسيلة وحيدة لبلوغ الحقيقة وإرشاد الغير، وبثقافة موسوعية متماهية مع عصرٍ عباسي مجيد، وبنفس مؤمنة تقية تسعى لهداية البشر إلى الخالق بالإقناع عبر أكثر الأدلة على وجوده ثراءً ووفرة؛ المخلوقات، وضع ابن البصرة مؤلَّفه العملاق سعيًا منه وراء غرض أعلنه بنفسه وهو إفهام الناس لـ«مواقع الحجج لله وتصاريف تدبيره، والذي أودع أصناف خلقه من أصناف حكمته»، وهو أمر كان شائعًا، حينها، بين شعراء المعتزلة الذين كانوا يستخدمون ثقافتهم الكونية المختلفة في إثبات وجود الله والدفاع عن وحدانيته محولين إيمانهم الوجداني إلى منطق يقبله أي عقل مخالف. علاوة على أغراض لم يقلها، وإن بثّها بِانتظام بين ثنايا عمله، وهي الانتصار للمعتزلة على غيرهم من الفرق الإسلامية في حربهم الكلامية، وللعرب على الفرس في حربهما الشعبوية[4].

مستندًا إلى مصادر ستة هي الكتاب والسنة والتراث العربي، وبعض أقوال أهل الفرس والهند، ومقابلاته الجمّة مع الأجانب الوافدين على بلدته، وكتاب «الحيوان» لأرسطو الذي اقتبس الجاحظ منه كثيرًا ملقبًا إياه «صاحب المنطق»، جمع الجاحظ بين ما هو منقول وما هو مُعاين وما هو مجرّب، وكان صارمًا في تعامله مع مصدر المعلومة، ومع المعلومة ذاتها وفقًا لمبدأ بألا قدسية إلا للحقيقة العلمية اليقينية، وكان يجري مئات التجارب بنفسه إن استدعت إجراءات التحقق ذلك، يحكي «رأيت بيض الحيّات وكسرتها لأتعرّف ما فيها، فإذا هو بيض مستطيل أكدر اللون أخضر (…) فأمّا داخله فلم أر قيحًا قط»، كما أنه بموضع آخر من كتابه روى عن نصيحة طبيب الخليفة ابن ماسويه له بأن «الذباب إذا دُلك به موضع لسعة الزنبور سكن» فجرّب هذه النصيحة بنفسه وتحقق من كذبها[5].

اتبع الجاحظ منهجًا فريدًا في حيوانه، يمكننا تسميته دون مبالغة بـ «الأسلوب الجاحظي»، فكان يقطع شوطًا طويلاً في سرد موضوع علمي متماسك ينعطف بعده لذكر الأمثال والشواهد التي تخدم هذه الفكرة وتوصلها لذهن القارئ كما يريد، وهو بهذا كان يقدم مزيجًا من المنهج العلمي الدقيق والأدبي المتنوع والهزل الساخر، فجمع عمله الفريد بين التعليم والترويح.

سعى الجاحظ لتخليص المعلومات المنقولة عن الحيوان من المصادر الشفوية والمكتوبة مما هو خرافي وزائف، فمزج بين منهج علماء الحديث في الجرح والتعديل من جهة، وبمنهج المتكلمين في التحليل والاحتجاج من جهة أخرى، وذلك عبر الارتكاز على أساسين منهجيين؛ النقل والاستقصاء ثم الدرس والتمحيص، وأخضع هذين الأساسين إلى 3 فلاتر إضافية من آليات عملية مُنقية من شوائب الضعف، هي الشك والمعاينة والتجربة.

شفيق جبري: «الجاحظ: معلم العقل والأدب»

يقول الدكتور عبد الرحمن عطية، أستاذ اللغة العربية في كلية الإنسانيات بجامعة قطر، في كتابه «الشك المنهجي عند الجاحظ» إن الجاحظ سبق ديكارت بنحو 8 قرون في تقرير الشك المنهجي في جوانبه النظرية والتطبيقية، وعلى هذا فإن الجاحظ هو الذي يجب أن يُعزى له السبق في ابتكار هذا المنهج، وهو عنده مرحلة لازمة لبلوغ مرحلة اليقين التي هي الهدف الحقيقي لكل باحث، يقول أبو عثمان: «ولم يكن يقين قط حتى كان قبله شك، ولم ينتقل أحد من اعتقاد إلى اعتقاد غيره حتى يكون بينهما حال شك».

فأكثر في كتابه من استخدام صيغتي «الزعم» و«القول»، فأحيانًا كان يكتفي برواية بعض الآراء أو الحكايات مسبوقة بهذين القولين دليلاً على عدم اقتناعه التام بهما، وقد يقرنهما في غالب الأوقات بسهام نقد يوجهها لها عقب إيراده لها يعبّر فيها عن خطأ هذا القول معتمدًا على دليل آخر أو تفنيد عقلي أو تجربة شخصية.

عصر الديك والكلب

وفي زمنه الذي شهد صراعًا مريعًا على السُلطة بين العرب والفرس انحاز في كتابه لبني قومه، ولو على حساب الدقة العلمية التي ألزم بها نفسه طوال وضع الموسوعة، فشكّك في رأي سلمويه (طبيب الخليفة المعتصم) وابن ماسويه (طبيب الخليفة الواثق) بأن جيفة البعير هي «الأنتن على الأرض»، معتبرًا أن هذا القول خرج منهما بسبب «عصبيتهما وبغضهما لأربابهما، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم هو المذكور في الكتب براكب البعير»، كما أعلى من شأن حيوان كان بنو فارس يشبّهون العرب به وهو الضبّ، وحقّر من شأن حيوان آخر اهتم الساسانيون به وهو الفيل، راويًا رأيًا نسبه للخضر عليه السلام في الدواب بأنه قال لموسى إنه يحب الفرس والحمار والبعير لأنها «من مراكب الأنبياء»، ويبغض «الفيل والجاموس والثور»[6].

ومن هذا الصراع،

استوحى مقارنة بالغة الطول

شغلت جزءًا كاملاً وبعض الجزء من أقسام الكتاب السبعة حول مدى أفضلية الكلب أو الديك على الآخر، استعان فيها بشيخين تناظرا وجعل أحدهما يدافع عن الكلب، بينما الآخر يدافع عن الديك، وأعارهما آراءه فذهبا يتناقشان ويتعاركان في شأن الحيوانين، وهي مناظرة خيالية كتبها الجاحظ دون أن يتخلى عن نزعاته الانعزالية في الاستعانة بالفعل والمنطق، وذلك للدلالة على إبراز ما فيهما للدلالة على الخالق، يقول: «لم نذهب إلى ضخم البدن وعظم الحجم، ولا إلى النظر الحسن ولا إلى كثرة الثمن، وإنما قصدنا شيئين (الديك والكلب) يشيع القول فيهما ويكثر الاعتبار مما يستخرج العلماء من خفي أمرهما».

وبالطبع لم يكن اختيار ابن البصرة لهذين الكائنين بالتحديد عشوائيًا، وإنما لأن كل واحد منهما كان رمزًا للقومين اللذين صدّعا رأسه تصارعًا، فكان العرب يشبّهون الفرس بالديك بينما يرمز الفرس للعرب بالكلب، وخلال المناظرة استعرض المهارات التي أودعها الله في كل منهما، للتدليل بشكل مباشر على وجود خالق عليم حكيم استودع في كل مخلوقاته كافة ما يحتاج إليه من طباع وقدرات تلائم حياته ومهام معيشته، وبشكل غير مباشر على عبثية الاقتتال بين الطرفين، وأن كلاًّ منهما مُيسر لما خُلق له ومُكمِّل للآخر إن تنزّهوا عن الغرض وآمنوا بأن الله عهد لكل واحد بالمهمة الملائمة لقدراته، وأن في اتحادهما معًا صلاحًا للدولة الإسلامية لا معولاً لتفتيتها.

ولم يُخصَّص «الحيوان» للحديث عن الحيوانات وحسب، وإنما حوى طائفة صالحة من المعارف الطبيعية، والمسائل الفلسفية كـ «الطيرة» و«عذاب الحيوان والأطفال» و«الاستطاعة»، كما تحدث في سياسة الأقوام والأفراد، وفي خصائص كثير من البلدان، وفي تأثير البيئة في الحيوان والإنسان والشجر، وتناول الحديث عن الأجناس البشرية وعرض بعض قضايا التاريخ، وكذلك تحدث عن الطب والأمراض وعن العرب والأعراب، وأحوالهم وعاداتهم، وتناول أيضًا بعض مسائل الفقه والدين ملحقة بمجموعة ضخمة من الشعر العربي والأمثال القديمة، وقضايا بلاغية عبّر فيها الجاحظ عن رأيه مثل الإطناب والإيجاز واختيار الألفاظ وصوغ الكلام والقول في اللفظ والمعنى[7].

تكلم في نزاع أهل الكلام وسائر الطوائف الدينية

، وكان قاسيًا في الهجوم على بعض الفرق الإسلامية التي عارض رأيها مثل الدهرية، فقال عن الواحد منهم بأنه «ليس يرى أن في الأرض دينًا أو نحلة أو شريعة أو ملة، ولا يرى للحلال حرمة ولا يعرفه، ولا للحرام نهاية ولا يعرفه، ولا يتوقع العقاب على الإساءة، ولا يترجى الثواب على الإحسان» بل يرى «أنه والبهمية سيّان».

كما ناقش فكر الخوارج وردَّ عليهم، وفضح مَن ادعوا النبوة عقب وفاة الرسول، وكشف حيلهم وطرقهم في خداع الناس، شارحًا ما ورد في ذِكر مسيلمة الكذاب بأنه كان يُريد أن يُبهر الناس فيأتي بالبيضة ويطيلها أمام أعينهم ثم يضعها في زجاجة فتعود إلى حالتها من الصلبة، وهو ما يعلله الجاحظ بأن البيضة إذا صُبَّ عليها الخل امتدت ولانت قشرتها، وإذا ذهب عنها تأثير الخل عادت لحالتها الصلبة.