يقول هيجل:

وعي الحرية وعياً تاماً في كل زمان ومكان، لابد أن يكون سابقاً على تحققها تحققاً عملياً.

لكي نحقق
الحرية لابد أن نعيها أولاً، وهذا للأسف ما لم نصل إليه في منطقتنا العربية، فالوصول
للوعي يحتاج إلى مراحل ترقي، تبدأ بنقد كل ما بحوزتنا من موروثات ساهمت فى بناء سد
منيع حاجب الرؤية عن العقل، ولكي نمارس فعل النقد لابد من الانفصال التاريخي عن
التراث، فكل انفصال يتولد عنه قراءة نقدية له، وهذا ما حاول الجابري بجدارة تشييده.

حيث إن مشروع الجابري يمثل صرحاً فكرياً ما زال فاعلاً في قلب الحركة الفكرية العربية. وسوف نتناول هنا رؤية الجابري في تكوين العقل السياسي العربي. إيماناً منّا أننا في لحظة حاسمة لرهان الحداثة والتنوير، فقد حانت لحظة التجاوز بما فيها من تحرير للعقل من استحواذ الماضي، وذلك شرط أساسي للوصول لما نريد من نهضة، أراها تأخرت كثيراً.

العقل البراجماتي

إن العقل السياسي في أي حضارة يرتبط بالنظام أو النظم المعرفية التي تحكم عملية التفكير في هذه الحضارة، ولكن فقط بما هو «عقل» وليس بما هو «سياسي»، فهو إذا ارتبط بها بوصفه سياسيًا فإنه لا يخضع لها بل يحاول إخضاعها لما يريد تقريره، أي أنه يمارس السياسة فيها. [1]

من وجهة
نظر الجابري فالعقل السياسي ليس «برهانياً» فقط ولا «عرفانياً» ولا «بيانيا» فقط،
إنه يوظِّف مقولات وآليات مختلف النظم السياسية حسب الحاجة، وبما أن السياسة تقوم
أساساً على البراجماتية، لذلك لا ننتظر من العقل السياسي أن يُناقض موضوعه الذي
يستمد منه هويته (السياسة)، فهو عقل براجماتي وفقاً لوجهة نظر الجابري. [2]

يرى الجابري أن العقل السياسي في الحضارة الإسلامية تشكل مع انطلاق الدعوة المحمدية، مُشيراً إلى أن موضوع العقل هو الممارسة السياسة المنظمة وليس إنتاج المعرفة المعقدة المُقننة، والممارسة السياسة في الحضارة العربية بدأت مع ظهور الإسلام، فمنذ دولة النبوة والخلافة إلى الملك العضوض والدولة السلطانية، هذا كله مسار واحد، هو مسار تاريخ ظهور وتشكل العقل السياسي العربي. هنا الجابري ركّز على الجانب السياسي في الدعوة المحمدية، أي الكيفية التي تطورت بها الأمور في اتجاه تكوين الدولة.

في هذه
الجزئية يُقر الجابري باستعارة مصطلح «هيجل» في مراحل «فينومينولوجيا الروح» التي
تشير إلى أن مراحل ظهور العقل ثلاث:

  • مرحلة الوعي الذاتي.
  • مرحلة الوعي الموضوعي.
  • مرحلة الوعي المطلق.

ووفقاً
لذلك، فإن العقل العربي قد بدأت بذوره بمرحلة الوعي الذاتي، خلال مرحلة الدعوة
التى بدأ فيها الوعي بـ «الأنا الإسلامي»، ثم انتقل إلى مرحلة الوعي الموضوعي وقيام
المجتمع السياسي الإسلامي، ودخوله في صراعات خلال حرب الردة والفتنة، ليدخل بعد
ذلك إلى مرحلة الوعي المطلق، التى أصبحت فيها السياسة تحاول تأسيس نفسها على الدين
والفلسفة. [3]

وهكذا فمن «اقرأ باسم ربك الذي خلق»، بداية الدعوة، أي بداية الوعي الذاتي كما يرى الجابري، إلى مقولة أبو بكر الصديق «إني قد وليت عليكم ولست بخيركم» حيث بداية الوعي الموضوعي، وصولاً إلى مقولة أبو جعفر المنصوري «أيها الناس إنما أنا سلطان الله في الأرض» حيث الوعي المطلق. كان هذا مسارًا واحدًا لتطور يبدو طبيعياً إذا تم النظر إليه من خلال المعطيات الاجتماعية والأحداث التي صنعته.

ثلاثة محددات صنعت العقل السياسي العربي

أمّا بعد
ذلك، وكما يرى الجابري، فقد بقي هذا المسار يُكرِّر نفسه في الوطن العربي مع اختلافات
جزئية لا تغير من اتجاهه ولا من طبيعة حركته، لأن المحددات التي صنعته والتي كانت
تُعيد صنعه بقيت هي «القبيلة» و«الغنيمة» و«العقيدة». [4]

هذا هو
المسار العام الذي ظل سائداً أو الذي طبع التاريخ العربي بطابعه، أمّا محاولات المعارضة
سواء العملية منها كثورة الزنج والقرامطة أو بعض الحركات التي كانت من وراء العامة
في المشرق والمغرب، أو الفلسفية والفقهية التي أعلنت بصورة أو بأخرى عن أي سياسة
مضادة للأمر الواقع والمسار العام المحدد، فقد بقيت مقموعة معزولة أو هامشية، لذلك
لم يكن لها أي حضور سياسي حقيقي وفقاً لرؤية الجابري في عملية تكوين العقل السياسي
العربي.

يرى الجابري
أن إعادة تأصيل الفكر السياسي في الإسلام يجب أن تنطلق من إعادة تأصيل الأصول، والتي
أسّست للنموذج المُستخلَص من مرحلة الدعوة المحمدية: «وأمرهم شورى بينهم» و«شاورهم
في الأمر» و«أنتم أدرى بشئون دنياكم».

أهمية إعادة
تأصيل الأصول تتمثل في كونها خطوة أولى لإقرار المبادئ الدستورية، والتي وضعت حداً
لمثل ذلك الفراغ السياسي الدستوري الذي برز واضحاً في أواخر عصر عثمان.

يقول الجابري:

إن بعض الكُتّاب الذين يكتبون في الفكر السياسي الإسلامي ما زالت نظرتهم إلى الأمور واقعة تحت تأثير نظريات الماوردي وغيره من الفقهاء، الذين نظروا لنظام الحكم المعاصر لهم والذين كانوا مشغولين في نفس الوقت بالرد على الشيعة والرافضة… إن آراء الماوردي وغيره من المتكلمين والفقهاء ليست مُلزمة لنا، لأنها مجرد آراء سياسة، أملتها ظروف سياسية معينة، كما أنها لا تمثل الإسلام، فليس هناك نص تشريعي من القرآن أو السنة ينظم مسألة الحكم، بل المسألة مسألة اجتهادية، يجب أن تخضع لظروف كل عصر ومتطلبات تحقيق الشورى فيه. [5]

وفقاً
لرؤية الجابري، ففي الوقت الحاضر لا يوجد غير أساليب الديمقراطية الحديثة، فتحديد
طريقة ممارسة الشورى يكون بالانتخاب الحر الديمقراطي، من حيث تحديد مدة ولاية رئيس
الدولة، وإسناد مهام السلطة التنفيذية لـ حكومة تكون مسئولة أمام البرلمان في حالة
النظام الملكي والجمهوري معاً، وتحديد اختصاصات رئيس الدولة والحكومة ومجلس الأمة،
بطريقة تجعل الأخير هو مصدر السلطة. كل هذه المبادئ لا يمكن ممارسة الشورى في
العصر الحالي بدون إقرارها والعمل في ضوئها.

وقد ذهب الجابري
إلى أن عدم حماس بعض الحركات السياسية الإسلامية للديمقراطية موقف غير مبرر، مشيراً
إلى أن تبريرهم بأن الخليفة في الإسلام يمكن أن يُعين بمبايعة فرد واحد أو أفراد
معدودين، ومدة ولايته لا تُحدد بحجة أن مبايعته تقتضي تفويض الأمر له، وأن اختصاصاته
لا يُحددها إلا كتاب الله وسنة رسوله. هذه تبريرات لا تستند إلى أي أساس، لا من
النقل ولا من العقل، إنما هي آراء الماوردي وغيره. [6]

تجديد العقل السياسي العربي

إن إعادة
تأصيل الأصول في الفقه السياسي الإسلامي ضرورة ملحة، لكن هل يكفي وحده لتجديد
العقل السياسي العربي؟

يُجيب الجابري
بالنفي. فالعقل السياسي العربي لا يتحكم فيه شكل نظام الحكم وبنوده الدستورية فقط،
بل هو محكوم أساساً بمحددات اجتماعية واقتصادية وثقافية، وبالنسبة للعقل السياسي
العربي فإن تجديد محدداته الثلاثة (القبيلة، والغنيمة، والعقيدة) شرط ضروري للارتفاع
إلى المستوى الذي يستجيب لمتطلبات النهضة والتقدم في العصر الحاضر.

إن تجديد
المحددات يراها الجابري بتحقيق النفي التاريخي لها وذلك بإحلال البدائل التاريخية
المعاصرة، مؤكداً على أهمية المزاوجة بين نقد الماضي ونقد الحاضر بما يحمله من
بقايا الماضي، وهذه هي الخطوة الضرورية الأولى من كل مشروع مستقبلي، هكذا يقول الجابري.

ويعود ليؤكد أن الماضي والحاضر عندنا لا ينفصلان، لذلك وجب أن يتجه النقد إليهما معاً، فـ القبيلة والغنيمة والعقيدة التي حكمت هذا العقل في الماضي، ما زالت تحكمه في الوقت الحاضر. فالطموح النهضوي كان يهدف إلى تجاوز تلك المحددات الموروثة، وإقرار محددات حديثة عصرية، إلا أن المجتمع العربي لم يتمكن من تحقيق عملية التجاوز هذه، لأسباب وعوامل كثيرة منها الاستعمار، وكذلك لانخراطه في الحداثة من فوق. والنتيجة، وكما يرى الجابري، ما تعرّضنا له من انكسارات وإحباطات فتحت الباب على مصراعيه لعودة المتواري المكبوت، أي ظهرت المحددات الثلاثة الموروثة، فعادت القبليّة والطائفية والتطرف الديني والعقائدي، ليسودوا الساحة العربية بصورة لم يتوقعها أحد. [7]

ختاماً، لا
أحد يختلف عن قيمة وغنى ما قدمه الجابري لثراء الحركة الفكرية العربية، وإعمالاً
لمبدأ النقد الذي أرساه، فقد كانت هناك العديد من الرؤى النقدية لمشروعه الفكري. فالدكتور
«طيب تيزينى» يرى أن خطاب الجابري خطاب أيديولوجي سياسي وكذلك معرفي، وإذا كان في
بنيته السطحية يظهر بمثابة معرفي أو حتى معرفي نقدي، فإنه في بنيته الخفية خطاب أيديولوجي
مُعرَّف وخطاب معرفي مؤدلج، مشيراً إلى أنه من خلال وضعه لمنهجية تفكيكية
تاريخانية تتكشف لنا عملية التسلل الأيديولوجي السياسي بقوة في نسيجه المعرفي،
بحيث أننا نرى في المعرفي منزعاً من منازع التلبس الأيديولوجي السياسي. [8]

أما «أدونيس»
فيقول:

لم يُقدِّم على الصعيد المنهجي أو الصعيد المعرفي أي شيء جديد. [9]

ويرى «

عبد الإله بلقزيز

» أن الجابري أضاع فرصةً -على نفسه وعلى القرّاء معاً- لقراءة نقدٍ معرفي للعقل السياسي والأخلاقي العربي، أي لقراءة تحليلٍ لمنظومات إنتاج المعرفة في مسألتيْ السياسة والأخلاق في التراث العربي الإسلامي.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.


المراجع



  1. محمد عابد الجابري، “العقل السياسي العربي”، مركز دراسات الوحدة العربية، 2011. ص8.
  2. المصدر السابق، ص8.
  3. المصدر السابق، ص365.
  4. المصدر السابق، ص365.
  5. المصدر السابق، ص372.
  6. المصدر السابق، ص372.
  7. المصدر السابق، ص373.
  8. طيب تيزينى، “من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي: بحث في القراءة الجابرية للفكر العربي وفى آفاقها التاريخية”، دار الذاكرة، حمص-سوريا، ص49.
  9. أدونيس في حوار مع فخري صالح، مجلة راية الاستقلال – بنقوصا /قبرص عدد آذار1992، ص68.