قرابة خمسمائة كيلو متر مربع فقط؛ هي المساحة الفاصلة بين العرب وإيران جغرافيًا. خلافًا للفواصل البحرية والحدود العراقية، يقطنها قرابة المليون نسمة أغلبهم من العرب، وتضم 28 مدينة منفصلة، وتمثل هذه المنطقة نقطة خلاف عربي – إيراني إلى يومنا هذا.

فإيران تتشبث بسيطرتها على الإقليم السهلي الأكبر مساحةً من أي محافظة إيرانية أخرى، والأغنى من حيث النفط والموارد الزراعية. بينما تناساها العرب في خضم صراعاتهم المحلية والإقليمية والدولية، ثم عادوا ليتذكروها فجأة بعدما انتصرت الثورة الإيرانية وامتدت أذرع نظام الولي الفقيه في العراق والشام والجزيرة لتعتصر قلب المنطقة العربية.

عربستان؛ هكذا سميت في عهد رضا بهلوي، على ذات نسق المسميات المناطقية الأخرى، مثل كردستان وبلوشستان، – حيث تعني كلمة «استان» بالفارسية القطر أو الإقليم-، إلا أنها تحديدا وخاصة دون بقية الأقاليم، غير اسمها، الدال على القومية التي تسكنها، إلى «خوزستان» بعد قيام الجمهورية الإسلامية.


ممر إيران «السهلي» إلى خاصرة العرب

«نابليون» كان يجادل عن رأيه بأن جغرافيا الدول هي المحدد الأول لسياساتها. كان هذا بالطبع قبل ظهور ما يُعرف بالجيوبوليتيك أو علم الجغرافيا السياسية. اختيار الأحواز كبوابة للخليج العربي لم يكن بشريًا بحال من الأحوال، فالحدود بين هذه المنطقة وبين بلاد فارس هي حدود طبيعية لا بشرية تتمثل في «جبال البختيارية» الإيرانية التي هي جزء من سلسلة «جبال زاجروس»، والتي تفصل الإقليم العربي تمامًا عن الامتدادات الجغرافية الإيرانية، كما يحدها من جهة الشمال سلسلة جبلية أخرى هي «جبال كردستان العراق» والتي تفصل الإقليم العربي الأحوازي عن مناطق سكن الأكراد.

سلسلة جبال زاجروس، الحد الطبيعي الفاصل بين إقليم الأحواز وكامل الأرضي الإيرانية

سلسلة جبال زاجروس، الحد الطبيعي الفاصل بين إقليم الأحواز وكامل الأرضي الإيرانية



تتشابه أراضي الإقليم مع الأراضي العراقية السهلية المجاورة لها حد التطابق، ويعزى ذلك إلى وحدة الأصل الجيولوجي على عكس أراضي هضبة إيران الجبلية.

بخلاف هذه الحدود الطبيعية بين إقليم الأحواز وبين بقية الأراضي الإيرانية، تُعد الأحواز امتدادًا للجغرافيا العربية، فهي تتصل غربًا بالأراضي العراقية وجنوبًا تطل على الخليج العربي. كما أن أراضيها تتشابه مع أراضي العراق في التضاريس الطبيعية والخصائص الطبوغرافية والمناخ والمحاصيل الزراعية والثروات المعدنية وفي مقدمتها النفط. وحتى مناخ الإقليم أقرب كثيرًا لجارتيه؛ محافظتي البصرة والعمارة العراقيتين منه بالمحافظات الإيرانية.

وفي هذا الصدد، يذكر الباحث الإيراني أحمد كسروي في كتابه «تاريخ الأحواز في خمسمائة عام» أن التاريخ الجيولوجي لأراضي كل من الأحواز والسهل الرسوبي من العراق متماثل؛ إذ تكونا من ترسبات نهري دجلة والفرات ونهر كارون وتفرعاته. وهو ما أدى إلى ظهور الأراضي على جانبي شط العرب، وكونت بذلك مع سهول بلاد العراق وحدة قائمة بذاتها لها خواص مناخية متشابهة. ويؤكد الباحث أن العلاقات المكانية الطبيعية التي تربط بين عربستان «الأحواز» وإيران تكاد تكون معدومة؛ إذ ليست هناك أي علاقة في التكوين الطبيعي بين سهل عربستان وهضبة إيران الجبلية.

طبقًا لهذه الجغرافيا كان يتعين على العرب، في إطار التنافس الإقليمي حد العداء مع المشروع الفارسي المتنامي أو على الأقل بدافع حماية الأمن القومي العربي والخليجي، أن يحفظوا هذا الجزء الثمين من أرضهم والمقتطع منهم منذ عام 1925م. فحفاظهم عليه كان سيعني بالتبعية تطويق بلاد فارس وحصارها بعيدًا عن أراضي العرب.


الفردوس المفقود: الأهمية الاقتصادية للإقليم


http://gty.im/485888997

الرئيس الإيراني الأسبق سيد محمد خاتمي مع بعض عمّال الأحواز



النفط الإيراني، ما ينوف عن 80% منه أحوازي المنشأ، ناهيك عن الأنهار التي تتخلل الإقليم والموانئ البحرية الحيوية المطلة على شواطئه.

ارتبط مصير الأحواز ارتباطًا وثيقًا باكتشاف النفط، كأنما كُتِب تاريخها بمداده الأسود. كان بئر النفط الذي حفر في مدينة «مسجد سليمان» 1908م، أول آبار النفط في منطقة الشرق الأوسط، بئر تلته آبار أخرى تستخرج «ذهب الأرض»، وتأسست للنفط أول وأضخم مصفاة له في الشرق الأوسط في «عبدان» عام 1913م. مصفاة كانت

الأكبر في العالم

حتى خرجت من الخدمة إثر تدمير منشآتها إبّان الحرب العراقية-الإيرانية 1980-88م، إلى أن أعيدت للعمل مجددًا بعد ترميمها مطلع التسعينات. ويمثل نفط الأحواز شريان الحياة الأساسي والأهم لإيران، إذ يصدر الإقليم قرابة 80% من نفط إيران وغازها الطبيعي.

بالإضافة لأنهار باطن الأرض، يعد إقليم خوزستان أكبر مسطح سهلي خصب في إيران، إذ تجري خلاله أنهار كبيرة كنهر كارون، والذي يستخدم أيضا لعبور السفن القادمة من الموانئ الواقعة على شواطئ الإقليم، وتعد هذه الموانئ أهم موانئ إيران وأكبرها إذا ما قورنت ببقية الموانئ الإيرانية.


عينٌ على التاريخ

أرض خرجت من تحت الماء

ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، تلك هي النقطة الأولى التي بدأت عندها الحياة على إقليم عربستان. قبلها لم يكن هناك إقليم، وكانت مياه الخليج العربي تغمر الأرض، حتى انحسرت وتوافد على المنطقة بعض قبائل

العيلاميين

وأسسوا بها حضارتهم وفرضوا فيها سيادة لم ينازعهم إياها سوى البابليين. تتابعت بعد ذلك الممالك على الإقليم، ففي عام 640 ق.م أطاح الآشوريون بالمملكة العيلامية، وفي عام 550 ق.م أتاها الأخمينيون، والذين بدورهم هُزموا أمام الاسكندر الأكبر المقدوني عام 331 ق.م. واستولى السلوقيون عليها عام 311 ق.م حتى غزاها الساسانيون 221 م. وفتحها العرب عام 637 م بقيادة أبي موسى الاشعري، وظلت خاضعة للبصرة حتى احتلال المغول للمنطقة 1258م «مصلح خضر الجبوري، الدور السياسي للأقليات في الشرق الأوسط، الأكاديميون للنشر والتوزيع، طبعة أولى 2014م».

الأحواز: دولة عربية قوية

ظلت الأحواز دولة عربية موحدة في الفترة ما بين 637 م و1925م، إلا في لحظات ضعف عابرة كتلك التي تمثّلت باحتلال المغول للإقليم والقضاء على الدولة العباسية هناك، وانتهت هذه الكبوة بقيام الدولة المشعشعية العربية بزعامة محمد بن فلّاح عام 1436م، والتي تخذت مدينة المحمّرة مركزا لها، وحافظت على بقائها دولةً عربيةً مستقلة نحو ثلاثة قرون بين دولتين عظيمتين؛ الفارسية والعثمانية. جدير بالذكر أن «إمارة المحمرة» بلغت من القوة في بعض الأحيان ما مكنها من انتزاع أراض من كلا الجارين القويين، إذ امتدت بنفوذها شرقًا إلى بندر عبّاس وكرمنشاه وهي مدن إيرانية كبيرة، وغربًا إلى البصرة في الداخل العراقي.

وجدير بالذكر أيضًا أن المملكة البريطانية وروسيا الاتحادية كانتا قد وقعتا

معاهدة

لتقاسم النفوذ على إيران عام 1907م ولم تشمل المعاهدة منطقة عربستان باعتبارها إمارةً عربيةً مستقلة، وليست بحال من الأحوال جزءًا من الدولة الإيرانية.

سقوط العربي الأخير

الشيخ خزعل الكعبي، آخر الحكام العرب للأحواز

الشيخ خزعل الكعبي، آخر الحكام العرب للأحواز

الشيخ خزعل الكعبي؛ آخر حكام الأحواز العرب، وهو رمز استقلالية الإقليم عن التبعية الإيرانية، وصل إلى عرش «المحمرة» بعد مقتل أخيه وكان حكمه ذروة عهد الإمارة، ونهايتها.

ففي عهده اكتشف أول بئر نفط في الأحواز عام 1908م وتحديدًا في مدينة مسجد سليمان شرقي الإقليم، الأمر الذي سبق أي اكتشافات أخرى في الخليج العربي والذي يؤرخ لها من بعد عام 1925م.العلامة الفارقة الثانية، كانت في مشاهدته انهيار جاريه الكبيرين إبان الحرب العالمية الأولى، إذ تحولت الدولة العثمانية الضخمة إلى الجمهورية التركية الصغيرة، وانهار حكم القاجاريين في إيران وحت محلهم الأسرة البهلوية.



مع نجاح الثورة البلشفية في روسيا، تراجع الدور البريطاني شرقًا واكتفت بريطانيا بدعم وحدة وقوة الدولة الإيرانية لصد الزحف الروسي غربًا بحثًا عن المياه الدافئة.

اكتشاف النفط في أراضيه وطّد علاقات الشيخ الدولية وجعل منه مركز قوة في مواجهة الجيران. وكان حليفه الأبرز بريطانيا التي منحته في 1910 م لقب «سير» وعدة أوسمة. ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى توطدت مكانة الشيخ خزعل نظرا للموقع الإستراتيجي لإمارة المحمرة على الخليج العربي، بالإضافة إلى قتاله بجانب جيرانه – وحلفاء بريطانيا – آل الصباح وآل سعود ضد أمراء حائل من آل رشيد – الذين كانوا حلفاء الدولة العثمانية -، حلف توجته بريطانيا بأن أرسلت قواتها لحماية المنشآت النفطية في الإقليم وتدعيم حكم أميره.

إلا أن وتيرة الأحداث كانت أسرع من أن يدركها الرجل أو يستفيد من تقلبها، كما فعل حليفاه في الكويت والرياض، فمع نجاح الثورة البلشفية في روسيا قلبت بريطانيا لرجلها ظهر المجن، وبدأت في التخلي عنه شيئًا فشيئًا حتى سقط الإقليم في 1925م في قبضة الدولة البهلوية الإيرانية. كان لهذا التخلي عن حليف قديم لبريطانيا وجاهته الإستراتيجية في ذلك الوقت ، إذ رأت بريطانيا أن أولويتها قد تحولت من دعم استقلال الإمارة الصغيرة إلى دعم قوة وتماسك الدولة الإيرانية الكبيرة لتشكل حاجزًا أمام الزحف الروسي غربًا.

رقصة الذبيح

موجات من الثورات اندلعت في أعقاب الاحتلال الإيراني للأحواز، كان أولها «ثورة الغلمان» والتي وقعت أحداثها بعد أقل من ستة أشهر،من سيطرة الجنود الإيرانيين على الإقليم. إذ انتفض الجنود والعساكر التابعون لحرس الشيخ خزعل بعد اعتقاله واقتياده إلى سجن طهران، واستولوا على مدينة المحمرة لفترة وجيزة هربت فيها وحدات الجيش الإيراني، ما أثار الحكومة الإيرانية المركزية فقصفت المدينة بالمدفعية وقضت على المقاومة بداخلها، ومن المفارقة أن القوات البريطانية شاركت في قصف وإخماد ثورة الإمارة التي كانت فيما مضى حليفتها وحاميتها.



دعم الأحوازيون الثورة الإيرانية عام 1979 ضد نظام الشاه، لكن أي تحسن لم يطرأ على أحوالهم بعد انتصار الثورة.

توالت الانتفاضات والاحتجاجات ضد حكم آل بهلوي المستبد، لكن الأبرز من بينها كانت مشاركة الأحواز في الثورة على نظام الشاه 1979م، وتعطيلهم كامل الإنتاج النفطي وإرباك الاقتصاد وشل حركة البلاد، وكان الشيخ الخاقاني -القائد الروحي للأحواز في هذه الفترة- على اتصال بالخميني قبل مجيئه إلى إيران، واستبشر الأحوازيون خيرًا بالثورة وأرسلوا وفدًا من ثلاثين رجل على رأسهم آية الله الخاقاني لمقابلة الخميني وتهنئته بالثورة وعرض مطالب الأحوازيين عليه. تضمنت مطالب الإقليم اثني عشر مطلبًا أبرزها أحقيتهم في الحصول على الحكم الذاتي. وقبل لقائهم بالخميني استقبلهم أيضا آية الله طالقاني ورئيس الحكومة المركزية مهدي بازركان، ووُصف الاستقبال بأنه كان جيدًا. إلا أن تغيرا لم يحدث على حياة الأحوازيين، بل ازدادت قبضة الحكومة المركزية في طهران وطأة على الإقليم الصغير وغيرت اسمه الذي يشير لأصول سكانه العربية إلى «خوزستان».

وللقصة تتمة ..


المراجع



  1. الدور السياسي للاقليات في الشرق الأوسط، مصلح الجبوري، الأكاديميون للنشر والتوزيع، ط1 لعام 2014م

  2. المركز الأحوازي للإعلام والدراسات الاستراتيجية

  3. الأهواز في إيران.. القضية المنسيّة عربياً ودوليًا – العربية