كان شوقي يتألّم من القول بأنه شاعرٌ لا كاتب





د. محمد صبري، «الشوقيات المجهولة»

هُزم الجيش المصري، وفشلت الثورة العرابية، وحلّت نهايات العام 1882م، والاحتلال البريطاني يُحكم سيطرته على كل ما تمكّنت منه يداه. بدأ المجتمع المصري يلملم أشلاء الهزيمة عبر مسالك متنوّعة، كان من بينها أن نشطت حركة الترجمة الأدبية، وظهرت قوالب فنية جديدة في الإبداع المكتوب.

وفي السياق ذاته، تكوّنت جماعة «التقدم المصري»عام 1892م، لأهداف اجتماعية وطنية تحت ستار اللغة لأن قانون البعثات كان يحرّم السياسة، فانضمّ أحمد شوقي -الذي سيُعرف بأمير الشعراء- إلى عضوّيتها.

كان شوقي مأخوذًا في طريق التجديد والتحديث، ورأى تبعًا لذلك أن يكتب الرواية إلى جانب كونه شاعرًا، فاتجه إلى التاريخ الفرعوني دون غيره في هذه الفترة، متأثرًا بما حوله من أحداث. فقد انهمرت أخبار البعثات الإنجليزية والفرنسية والألمانية المنقّبة في آثار الحضارة الفرعونية، خصوصًا بعد فكّ رموز «حجر رشيد».

طرق شوقي باب الرواية قبل أن يطرق باب المسرحية الشعرية، وذلك في فترة مبكرة من حياته، فكتب رواية «عذراء الهند» 1897م، ورواية «لادياس» 1899م، ورواية «دل وتيمان» 1899م، ورواية «شيطان بنتاءور» 1901م، وأخيرًا رواية «ورقة الآس»،وهو ما فتح عليه بابًا من النقد جعله يُحجم عن إكمال طريقه، بل ويتجاهل ذكر أعماله الروائية.

فيما يلي، ومن خلال مقدّمة كتابه «الشوقيات»، وعبر دراسة «أحمد شوقي: أمير الشعراء روائيًا»لمحمود علي، نستعرض بعض الأعمال الروائية لأمير الشعراء أحمد شوقي.


عذراء الهند: التاريخُ مخيال للواقع


أحمد شوقي –

مقدمة رواية «


عذراء الهند»

نشرتُ هذه الرواية أولاً على حلقات في جريدة الأهرام من 20 يوليو/تموز إلى 6 أكتوبر/تشرين الأول عام 1897م، ثم صدرت طبعتها الأولى في كتاب في نفس العام، عن مطبعة الأهرام بالإسكندرية. تقع الرواية في ثلاثة أقسام، يتضمّن الأول منها 7 فصول، والثاني 12 فصلاً، والثالث 7 فصول، وصدّرها بإهداءٍ إلى الخديوي، الذي كان شوقي حينها موظفًا في ديوانه.

ورغم هذا الإهداء، إلا أن الرواية لم تأتِ بعيدةً عن نبض المجتمع حينها والتيارات التي كان يمور بها بعد فشل الثورة العرابية وسيطرة الاحتلال الإنجليزي على مقدّرات البلاد، وجاءت محمّلة بقدرٍ كبير من الرموز والإسقاطات، وتضمّنت قدرًا من الخيال الروائي أكبر مما كان عليه الواقع والتاريخ.

أحدثت الرواية لدى صدورها صدىً نقديًا واضحًا، فانتقدها الأديب «إبراهيم اليازجي» نقدًا صارخًا، ورأى أنها لم تحتوِ إلا على وصف ما كان عليه أهل العصر من الخرافات والترهات، وذِكر الجان والعفاريت والسحرة والمنجّمين والطلاسم، «وليس فيها ما تُكتب لأجله الروايات من المغازي الحكيمة أو الأغراض الأدبية أو الحقائق التاريخية»، بل واستقصى في تتبّع ما سماه بـ«أخطاء المؤلف اللغوية»، مُسقِطًا عن شوقي أهليته للكتابة النثرية الإبداعية، حاصرًا إياه في زاوية الشعر فقط.

وقد ردّ الأمير «شكيب أرسلان» على نقد اليازجي ردًا مطولاً في مقالة عنونها بـ«لعلّ للعذراء عُذرًا»، ونشرها بمجلة البيان 16 ديسمبر/كانون الأول 1987م، واضعًا أثناء ذلك بعض التوضيحات المفتاحية – التي سيؤكّد تطور الرواية العربية فيما بعد أهميتها – من ذلك قوله إن «العربيّ القديم لم يسلم من هذه المواضعات، فما ظنك بالعربي الحديث وقد أغارت عليه المعاني الأعجمية من كل جهة حتى اختلط الحابل بالنابل».

وتناولت مجلة «الهلال»الرواية بالنقد أيضًا، ولكن ليس من جانب اللغة والأدب، وإنما من جانب التاريخ، فانتقدت في الرواية عدم صحة الوقائع التاريخية فيها، دون مراعاة منها للجانب الخيالي في مثل هذه الأعمال والتي لا تلتزم حرفيًا بالتاريخ.


«لادياس»و«دل وتيمان»: التاريخ مرآةُ الواقع

التاريخ المصري القديم لا يزال في عهد الطفولية الأولى، إذا نحن قسناه بمعاصرات العلوم والفنون وما صارت إليه من تمام الوضوح وكمال الثبوت؛ وإن الحقيقة معه لا يستقر بها خبر، فهي عين تارّة وإثر. تحيى بحجر وتموت بحجر. فالمستند إليه فيما هو قائل، إنما يستند إلى ظلام زائل، أو جدار مائل.

أحاول أن أجعل ما همّ وجلّ من حوادث وادي النيل، ماضيها وحاضرها وما بينهما من الفترات، في عقدٍ من الروايات واسطته الحقيقة، ونظامه الخلق والتخييل.





أحمد شوقي – مقدمة روايته «دل وتيمان».

اختار أحمد شوقي عصرًا من عصور مصر القديمة كان الفرعون فيها ضعيفًا مستبدًا، وقد منح نخبة جيشه كلّ الجاه والسلطة والألقاب والرتب وأبعد الوطنيين من قيادة الجند، تمامًا كان عصره الذي يحيا فيه، وعلى عرش مصر خديوي ضعيف مستبد، استبدل نخبة جيشه الوطني، بأخرى أجنبية أو موالية للاحتلال الأجنبي، ومنحها كافة الامتيازات.

ضمّن شوقي هذه الأحداث في روايتين، الأولى منهما «لادياس»، نشرها أولاً على حلقات في مجلة «الموسوعات»من 6 أكتوبر/تشرين الأول 1898م، إلى 26 أبريل/نيسان 1899م، وظهرت الطبعة الأولى منها في كتاب عام 1898م، عن مطبعة الآداب والمؤيد.

اختار أحمد شوقي في هذه الرواية، والتي تليها، أضعف الفترات والمراحل المفصلية في تاريخ مصر، حين ساد العنصر الأجنبي على الوطني، وضعفت يد الدولة في إدراك المصير المحتوم، متمثلاً في الغزو الأجنبي الشامل.. بحيث تبدو المقارنة بين التاريخ والواقع واضحة لا غموض فيها، والحِكَم والمواعظ أكثر مباشرة.

ثم جاءت الرواية الثانية «دل وتيمان»كجزء ثانٍ متمّم لأحداث «لادياس»، ونشرت أولاً في «الموسوعات»من 11 مايو/آيار 1899م، إلى 31 مارس/آذار 1900م، وظهرت طبعتها الأولى في كتاب عام 1899م، عن مطبعة الآداب والمؤيد بمصر، ثم أعاد الباحث محمود علي نشرها في حلقات في مجلة الإذاعة والتلفزيون من 16 أكتوبر/تشرين الأول 1983م إلى 22 يناير/كانون الثاني 1984م.

تستدعي الروايتان فترة حكم الأسرة السادسة والعشرين، بعد طرد الاحتلال الآشوري على يد «أبسماتيك الأول»عام 663 ق.م، بدأ اليونانيون يحتلون المكانة الأولى، بل وأسّست في عهده مدينة نقراطيس أهم الموانئ التجارية، وجاء من بعده ابنه «نخاو»الثاني، وظل في الحكم 16 عامًا، ليخلفه «أبسماتيك الثاني» 6 سنوات، ثن «إبريس»من بعده عام 588 ق.م الذي حدثت في عهده ثورة ضباط الجيش لممالأته اليونانيين، فأرسل إليهم «أمازيس»الذي انضم للثوار وتولى الحكم قرابة 44 عامًا، ليخلفه بعد وفاته ابنه «أبسماتيك الثالث»، الذي لم يتجاوز حكمه ستة شهور، وحدث في عهده الغزو الفارسي سنة 525 ق.م.

ويختم شوقي الجزء الثاني من روايته قائلاً: «وكأنّ بموت بساماطيق آخر الفراعنة: موت مصر وزوال استقلالها الحقيقي إلى هذا اليوم».


أخيرًا، في رسالة من أحمد شوقي بعد وفاة مصطفى كامل، يقول منافحًا ومباهيًا:

وطنيتي في الشوقيات، قليلها الذي ظهر وكثيرها المستتر.. في «عذراء الهند»، و«دل وتيمان»، و«لادياس»و«بنتاءور»، ولو اطّلعتَ على واحدٍ من هذه الآثار التي تقتنيها ربات الجمال ويفهمها الرجال والأطفال لعلمت كما علم كثيرٌ من العقلاء قبلك أنني كما وصفني المرحوم «مصطفى كامل»: ذلك الغدير الصافي في لفائف الغاب يسقي الأرض ولا يبصره الناظرون.

لم يكن شوقي على هذا القدر من المنافحة والمباهاة، أيام كتب رواياته تلك، فانقاد – بضعف المبتدئين- للحسّ السائد حينها بعدم جواز أن يجمع الأديب بين الشعر والرواية، وهو ما جعله يتوقّف عن كتابة الروايات. ماذا لو كان شوقي قاوم تلك النزعة السائدة، وأكمل في كتابة الرواية كما أكمل في نظم الشِعر؟! هل كنّا لِنحظى بقامة روائية عالمية قبل الأوان؟!