أذكر أني ذهبت يومها مع صديقتي العزيزة ورفيقة دماغي إلى المكتبة القديمة في بلدتنا باحثين عن الروايات التي كنّا نقرؤها في شغفٍ شديد حينها، عن الأبطال الخارقين الذين يصرعون الأشرار ويقع كل النساء من كل الأطياف في حبهم صرعى.

وأذكر أننا ذهبنا يوما لِنَجد أننا أجهزنا على جميعها ولم يعد هناك جديد، حينها اقترح علينا صاحب المكتبة روايات جديدة من نفس المؤسسة، لكن ذات طابع مختلف، ولأنه لم يعد هناك مفر، ولأننا أبينا أن نعود بخفي حنين فقد اشترينا بعضها على مضض.

كانت روايتي «طفل آخر» بدأتها غير متحمسة لأني لا أحب روايات الرعب، ثم وجدت أني خلالها قد أصبحت منجذبة جدا لأسلوب السرد وطرافته وتميزه، وأني وقعت في حب عجوزٍ نحيل أصلع كعصا مكنسة عصبي كذيل حية الجرس مصاب بمجموعة فريدة من الأمراض تبدأ ولا تنتهي بأمراض الشرايين التاجية.

هذا كان لقائي الأول مع د. أحمد خالد توفيق، الذي أصبح مع الوقت كاتبي الأثير وصاحب فضل كبير على خلاياي الرمادية كما يقول! د. أحمد خالد توفيق طبيب في جامعتي اللطيفة في قسم طب المناطق الحارة والذي ثبت في ذهني على هذا المسمى وأبى أن يتحول إلى tropical بسبب د. أحمد.

ربما تصادفه في تجوالك في الجامعة واضعا يديه في جيبي بنطاله ناظرا إلى السماء كعادته، أو رادا السلام على من يلقونه عليه، رجل يبدو عاديا تماما، ربما لن تعتقد أن له كل هذه الأهمية والفضل من هدوء وجوده وتواضعه الجم. بدأت أبحث في شغف عن رواياته، فوجدت له نتاجا ضخما في أربع سلاسل، ما وراء الطبيعة مع العجوز المفضل رفعت إسماعيل، سفاري مع الطبيب المندفع العزيز علاء عبدالعظيم، فانتازيا مع الحالمة عبير، وروايات عالمية مترجمة.

كان لرواياته أثر كبير جداً على عقلي وقلبي، ويكاد يكون قراءتي له الخطوة الأهم في قراءتي؛ لأنه فتح لي أبوابا لم أعرف بوجودها من قبل.. خلق لنا عالما خاصا يكاد يكون متكاملا، وأوجد لنا من قرائه الآخرين رفقة تألفهم حتى ولو لم تعرفهم.

من غيرهم يفهم كسولا كالخرتيت، نشيطا كالبرغوث، سعيدا كطفل تركه أبواه في محل حلوى.. هم وحدهم يبتسمون في حنين عندما يقرأون «و حتي تحترق النجوم، وحتي….!»، يمكنك أن تقول لهم «صباحك حليب»، بدلا من صباح الخير دون أن يظنوا بعقلك الظنون.

وحدها روايات د. أحمد خالد توفيق يمكنك ترشيحها وإهدائها لأي أحد دون أن تجد في نفسك منها حرجا أو تخشى أن تسبب أي أثر سيئ، تعودت أن أعيرها لأقاربي الصغار وأنا موقنة أني أقدم لهم محتوي رائعا دون أن أخشى شيئا.. وحده قدم الغزل والرومانسية في صورة بديعة دون استخدام لفظ خارج ولا غزل صريح، و دون أن يصيبنا نحن معشر قرائه لا بالملل و لا بالخجل ولا بأنه يبالغ كعادة الرومانسيين.

وأصبح معتادا أن نعبر عن حبنا لأحد بأنه محبوب مثل ميكي ماوس أو شارلي شابلن، وأن هذه الفتاة رقيقة حتى لكأنها تمشى على العشب دون أن ينثني منه عود واحد.. وله منطقة تفرد لا ينازعه فيها إلا قليل عندما قدم لنا نموذج البطل الذي لا يميزه شيء في الواقع! ليس وسيما تتهافت عليه النساء ولا قويا و لا ثريا.

رفعت إسماعيل ذاك الحبيب اختاره شخصا عاديا، ربما كان جارك أو قريبك، نحيل عصبي أصلع غير اجتماعي ساخر كاره لوسائل التواصل، يرتدي بدلته الكحلية التي تجعله فاتنا ودائما ما تفعل، مصاب بكل أمراض العالم ولا تفارقه حبة النيتروجلسرين الحبيبة.. علاء عبدالعظيم نموذج آخر لذلك الطبيب الذي لم يجد في بلده ما يشجعه على إقامة حياة سوية فيها، فيسافر للعمل في وحدة سافاري الأفريقية، هو الآخر عصبي مندفع تلقائي محب وشهم.

أما عبير فدكتور أحمد يصفها في بداية فانتازيا بأنها عادية، عادية جدا.. لن تثير عندنا نحن الفتيات من قرائه الغيرة من فتنتها ولا ثرائها ولا تصارع الرجال عليها، لكنها حتما أثارت غيرتها من حالميتها وروحها وذلك الجهاز الذي يمكنها من زيارة عوالم الأدب في فانتازيا.. «تك تك».

وإذا اختصصت سافاري بالذكر لأني طالبة في كلية الطب، فهي سلسلة رائعة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، ذاخرة بالمعلومات الطبية الدقيقة في سرد متميز جدا لا يجعلك تمله وحبكة رائعة بحيث تجذبك للنهاية حتى ولو لم تكن على علم بالمرض المَعني.

أذكر أني كان لدي امتحان في مادة parasitology «الطفيليات الطبية»، واستعصت عليّ بعض الدروس مثل الملاريا وعمى الأنهار، فما كان مني إلا أن أعدت قراءة روايتَي هواء فاسد والعاشر اللتين تتحدثان عن المرضين.

ومن حينها لم أنسهما أبدا، فهل يمكنك أن تنسى الملاريا في حين سمعت قصتها على لسان طفيل الملاريا شخصيا! أو أن تنسى عمى الأنهار وقد قرأت قصة إبراهيم مالك سامبا؟! في خلال السنوات السابقة تهاوت القدوات من عيني كتهاوي ورق الشجر في خريف عاصف، وكنت أخشى أن يسقط د. أحمد مع من سقطوا، لكنه لم يفعل! اختلفت معه أيما اختلاف لكنه اختلاف حميد، لم يخيب نظرتي له إذ فعل الآخرون، ولم يرسب في امتحان أخلاقي أبدا كما فعلوا.

منذ أسبوعين كنت أقرأ روايته الأخيرة في سلسلة سافاري بعنوان «أيام الكونغو»، وتركت فيَّ أثرا مذهلا يذكرني بأثر «قصاصات، حكايات من الناتال، رجال من رجال».

تلك الروايات التي تضعك في عمق أحداث صعبة كأنك تراها رأي العين، وأحسب أن د. أحمد يقدم لنا انذارا جديدا في صورة عمل روائي على غرار يوتوبيا، أن العنف والظلم عاقبته دائما وخيمة وحتما تفوق التوقعات.. ودار بذهني سؤال مهم.. ألن يُكتَب لنا أيها العزيز أن نقرأ رواية تحمل لنا بشائر الفرج؟ هل كتب علينا أن نعيش معا كل هذه المحن دون فرصة لالتقاط الأنفاس والتنعم بنصر مستحق؟! لَشَدّ ما أثرت بنا أستاذي ونحن مدينون لك على ذلك أبدا…!!



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.