في الحديقة الأمريكية الأشهر، سينترال بارك، كان يقف تمثال جيمس ماريون المعروف عالميًا باسم «أبو طب أمراض النساء والولادة»، لكن 7 سنوات من فتح النار على ماريون دفعت الحكومة الأمريكية إلى إزالة تمثاله عام 2018 لتُنهي الجدل حوله تاريخ الرجل. ماريون معروف تاريخيًا بتجاربه شديدة القسوة على النساء السوداوات التي وصلت لحد إجراء عمليات جراحية كاملة بدون قطرة مُخدر لتخفيف الألم عنهن.

سواء أُزيل تمثال ماريون أو ظل مكانه فإن ذلك
لا يُخفي حقيقة أنه كان واحدًا ضمن صف طويل من العلماء الذين أجروا تجاربهم المريعة
على ضحايا يرونهم أقل منهم في الطبقة أو اللون أو العرق، في الإنسانية إجمالًا.
إذا ارتفعنا قليلًا فوق الأسماء والأشخاص لوجدنا أن تلك التجارب كانت تُجرى
أحيانًا على فئات كاملة مثل المساجين والأيتام والفقراء، والمفاجأة أنها قد تُجرى
على

شعوب

كاملة.

المفاجأة الثانية أن تلك التجارب المرعبة
ليست من الماضي ولا مرتبطة بعصور الظلام الوسطى، بل ما زال بعضها يجري حاليًا في
قرون النور والتكنولوجيا، ففي القرن الحادي والعشرين تم إجراء

أكثر

من 200 ألف تجربة لعقار أو لقاح جديد على فئات كبيرة من البشر دون التقيّد
بالضوابط والقواعد التي تحكم البحث العلمي والتجارب الإكلينكيّة.

كالتجربة التي أُجريت عام 1932، والمصنفة كواحدة من أقسى التجارب في التاريخ، في تلك التجربة أجبرت السلطات الأمريكية الفلاحين السود المصابين بالزهري أن يخضعوا لبرنامج علاجي بهدف شفائهم من المرض، وعدٌ برّاق، لكن الواقع كان خلافه. فقد أراد العلماء من تلك التجربة رؤية ما الذي سوف يحدث لو لم يوقفوا المرض، ما أقصى وأقسى ما يمكن أن يحدث للمريض بسبب الزهري.

أفريقيا تتجرع ما جنته شركات الأدوية

رقم ضخم من التجارب وعدد كبير من البشر خضعوا لتلك التجارب لكن الحقيقة شبه المشتركة بينهم جميعًا أن أفريقيا كانت، ولا زالت، هي

الضحية

المفضلة للقائمين على تلك التجارب. فقد ارتبط اسم القارة السمراء بالأوبئة والأمراض القاتلة حتى باتت تُوصف في الدوريات العلميّة بمستنقع الأوبئة، فقد ظهر فيها وحدها 25 وباءً قاتلًا.


لكن الجانب الآخر من الواقع تنقله مجلة ساينتفك أمريكان بقولها إن شركات الأدوية هي السبب في تحويل أفريقيا لهذا المستنقع، لأن شركات الأدوية هي التي حولت سكان القارة إلى فئران تجارب لأدوية جديدة لأمراض قديمة أو مشهورة عالميًا، ومن ثم يتحوّر المرض فيبصبح مقاومًا للعلاجات الموجودة فيصبح وباءً قاتلًا، لتقوم الشركة بتجربة لقاحها الجديد على نفس الأفارقة في دائرةٍ لا تنتهي، لكن الشركات رغم ذلك لا

تعترف

بأنها هي الجانية وأن الأفارقة مجني عليهم.

صحيفة لوموند الفرنسية توافق مجلة ساينتفك في الرأي، فقد ذكرت في تقريرٍ لها كيف أن شركات الأدوية العملاقة قد حوّلت أفريقيا والهند لمختبر كبير لتجارب غير قانونية وغير أخلاقية، بجانب أن تلك التجارب غير المنضبطة هي التي تساهم في نشأة أنواع جديدة من الأوبئة مقاومة للعلاجات المعروفة.

المؤسف أن بعض تلك

التجارب

قد يجري تحت سمع ونظر منظمة الصحة العالمية وبموافقةٍ منها، بحجة ارتفاع عدد الضحايا. على سبيل المثال في عام 2014، وقت تفشي وباء إيبولا، منحت منظمة الصحة الضوء الأخضر لإعطاء لقاحات غير واضحة المعالم لسكان غرب أفريقيا، وأصدرت المنظمة بيانًا رسميًا تقول فيه إنه في ضوء انتشار المرض فقد وافقت المنظمة بالإجماع على أنه يُعتبر أخلاقيًا إعطاء السكان لقاحات ذات فعالية غير معروفة وذات آثار سلبية معروفة كمحاولة لمقاومة تفشي الوباء.

قد يبدو البيان مقنعًا في وقته، ويمكن لعاطفية البيان أن تخدعك بأن منظمة الصحة مكتوفة الأيدي وتحاول فحسب فعل أي شيء، لكن في عام 2020 حين انتشر وباء أشد فتكًا لدرجة اعتباره جائحة وبائية، كورونا، ويستمر يوميًا في حصد أرواح الآلاف بلا هوادة أو هدنة، رغم ذلك

ترفض

المنظمة بصرامة شديدة السماح بإعطاء أي لقاح لأي أحد دون أن يمر بنجاح بسلسلة التجارب السريرية والموافقات الرسمية اللازمة لاستيفاء شروط الضوء الأخضر.

لماذا تجذب أفريقيا أنظار مافيا التجارب؟


إذا كانت أفريقيا هي أكبر قارة تستضيف

مُكرهةَ

التجارب السريرية، فإن الأردن وتونس ومصر من أكبر دول القارة اختيارًا لإجراء التجارب السريرية على أراضيها ومواطنيها. وتتفوق مصر على نظرائها في كونها ثاني أكبر دولة في أفريقيا، وأكبر دولة في الشرق الأوسط يتم فيها إجراء اختبارات سريرية لأدوية وعقاقير جديدة.

لكن تجب الإشارة هنا إلى سبب أكثر أهمية،

الجهل

، والجهل في التجارب الدوائية نوعان، إما أن العديد من المتطوعين لا يدركون خطورة ما هم مقدمون عليه، وإما أن البعض الآخر لا يدري أصلًا أنه داخل تجربة دوائية، فقد يتعاطى الدواء بناء على وصفة طبيب حكومي أو تُقدمه الدولة بشكل مجاني لفئة معينة على هيئة منحة رسمية، ما يُغري المواطنين بتعاطيه كونه مجانًا، ولا يقلقون من آثاره كونه رسميًا.

ما يحدث في أفريقيا ودولها له

أسباب

عدة، منها انخفاض تكلفة البحث العلمي في أفريقيا، وكثرة السكان ما يساوي كثرة
المتطوعين، أضف لذلك تردي الأوضاع الاقتصادية ما يدفع العديدين للدخول في التجارب
الخطيرة طلبًا للمال الشحيح، كل ذلك يُغلفه ضعف القوانين وسيولتها ما يجعل من
السهل التحايل عليها في الدول الأفريقية.

كما حدث في تونس مثلًا في الحرب الأمريكية على العراق حين أصيب قرابة 4000 جندي أمريكي باللشمانيا، فتطوعت شركة إسرائيلية بتقديم العلاج، لكن لم تثق الإدارة الأمريكية فيه كونه لم يُجرب من قبل، فبدأت تجربةً واسعة في مدينة سيدي بو زيد التونسية بإعطاء الدواء لسكان المدينة مقابل 50 دينارًا لكل متطوع، وقد وجدت الإدارة الأمريكية متطوعين كثيريين، لأن المدينة المختارة كانت فقيرة بشدة.

مؤسسة ويمز للصحة العالمية أعربت عن

قلقها

من زيادة التجارب السريرية في الدول الأفريقية، ومنهم مصر، وطرحت المؤسسة في تقريرها سؤالًا بسيطًا: لماذا بعض الدول كمصر تبدو جذابةً لشركات الأدوية الكبرى، وأجابته في جمل متتابعة ومحددة بدأتها بأنه شعب يتكاثر بسرعة، ويتكاثر رغم فقره فيزداد فقرًا، وليس لديه أي معرفة بكيفية التعامل مع الأدوية ولا يملك خلفيةً عن التجارب السريرية.

أفريقيا في الخيال الأوروبي: مستعمرة فقط

لإجراء التجارب الخطيرة في أفريقيا أسباب كالتي سبق ذكرها، لكن هناك سبب أكبر يظل حاضرًا في خلفية كل تجربة، الاستعمار، لا تزال الدول الكبرى تتعامل مع أفريقيا بوصفها مستعمرة كبرى تابعة لإمبراطوريةٍ ما. على التلفزيون الفرنسي ظهر طبيبان

يتناقشان

حول التجربة التي تُجرى في أستراليا عن تأثير لقاح السُل في علاج فيروس كورونا، في وسط النقاش اتفق الطبيبان بمنتهى السلاسة والبديهية على أمرٍ ما.

اتفق الاثنان على ضرورة أن تُجرى التجارب في أفريقيا أيضًا، فقال أحدهما ينبغي إجراء التجربة في أفريقيا، حيث لا توجد كمامات ولا علاج ولا إنعاش. صدور التعليق مع عالمٍ في مجال إنساني كالطب يكشف كمية المخلفات الاستعمارية التي ما زالت عالقةً في الخيال الأوروبي عن أفريقيا. التعليق أثار

حنقًا

عالميًا ومن أبرز من كتبوا تعقيبًا عليه كان اللاعب الأفريقي، ديديه دروجبا، قائلًا: لا تعاملوا الأفارقة على أنهم حيوانات تجارب، هذا شيء مُخزٍ.

لكن لا يشعر
الإنسان الأبيض غالبًا بالخزي، فحتى عملاق الأدوية فايزر لم تعتذر عن

تجاربها

في
نيجيريا واكتفت بدفع تعويضات مالية فقط. التجربة المقصودة كانت عام 1996 حين

قررت

فايزر أن تُجرب أدوية جديدة لعلاج التهاب السحايا، فاختارت مجموعةً من الأطفال
لتجربة الدواء عليهم، ولم يثبت حتى الآن أن أهل هؤلاء الأطفال كانوا على علم بأنهم
يتعاطون دواءً تجريبيًا. في تلك التجربة

توفي

11 طفلًا،
وأصيب العشرات بإعاقات دائمة لازمتهم مدى الحياة.

من هنا يمكن أن نفهم الدافع وراء

المظاهرات

الحاشدة التي خرجت في جنوب أفريقيا مناهضة للقاح جامعة أكسفورد المنتظر لجائحة كورونا، فرغم أن اللقاح يمثل الأمل للعالم أجمع، إلا أنه يمثل كابوسًا لفقراء جنوب أفريقيا، الذين يُتوقع أن قرابة 2000 منهم سيشارك منهم في تجربة اللقاح، لأن الشركة المصنعة تريد أن تضمن أن اللقاح لن يتأثر بالظروف الموجودة في أفريقيا، والتي

ذكرتها

في كلمتين، غياب أقنعة الوجه ونقص الأدوية للأمراض الأخرى.

تاريخ طويل لأفريقيا السوداء كمُختبر كبير للغرب الأبيض يطرق أذهان الأفارقة مع كل حديث عن تجربة دوائية جديدة، لكن الأمر وهمًا في أذهان الأفارقة أو شعورًا مبالغًا فيه بالاضطهاد، بل حقيقة تاريخيّة وثقّ التاريخ بعض فصولها ولا يزال العديد من فصولها الدموية غير مكتشف، لكن المُكتشف والظاهر والثابت أن الغرب لا يرى أفريقيا سوى فئران تمشي على قدمين يمكن تجربة أي شيء عليها والإفلات بسهولة إذا وقعت كارثة.