منذ إعلان دولة إسرائيل عام 1948 سعى الاحتلال إلى امتلاك السلاح النووي، ومع مرور الوقت حامت الشكوك حول مدى نجاحه في هذا الأمر، لكنه حافظ على سياسة «الغموض النووي»، أي عدم الإعلان رسميًّا عن امتلاكه القنبلة النووية، وعدم طمأنة العالم أيضًا بعدم امتلاكه لها أيضًا.

وكانت الولايات المتحدة اشتبهت في هذا المشروع النووي عندما

كشفت رحلات طائرات التجسس الأمريكية

مفاعل ديمونا في عام 1958، وزار المفتشون الأمريكيون المفاعل في الستينيات، لكنهم تعرضوا للتضليل، وفي يناير/كانون الثاني 1976 تسرب تقرير من وكالة المخابرات الأمريكية يؤكد امتلاك تل أبيب قنابل نووية، ولم تنفِ الوكالة صحة التقرير، بل قال المتحدث باسمها إن التقرير نُشر بطريق الخطأ.

وفي 5 أكتوبر/تشرين الأول عام 1986 نشرت صحيفة صنداي تايمز أسرار المشروع النووي الإسرائيلي التي كشفها الفني السابق بمفاعل ديمونا

موردخاي فعنونو

، واكتسبت هذه الرواية مصداقية كبيرة بعد أن أقدم الإسرائيليون على اختطافه ومحاكمته وسجنه.

وفعنونو يهودي مغربي، هاجرت عائلته إلى دولة الاحتلال عام 1963، والتحق بالعمل في مفاعل ديمونا تحت سطح الأرض، وظل هناك لتسع سنوات، وأثناء ذلك كان يتردد على جامعة بن جوريون في مدينة بئر السبع في النقب لدراسة الفلسفة، حيث نشأت علاقة بينه وبين نشطاء الطلبة الفلسطينيين هناك، وبدأ في اعتناق أفكار مناهضة للاحتلال، وكان خليل الوزير (أبو جهاد)، أحد أبرز قادة منظمة التحرير الفلسطينية، يتابع هذه العلاقة عن كثب.

وقد أظهر فعنونو أن البرنامج النووي الإسرائيلي أضخم وأكثر تقدمًا مما يُعتقد، فقد نشر حديثه مدعمًا بأدلة وفيديوهات وصور غاية في السرية، أقر بصحتها الخبراء الدوليون، فبعد تركه للعمل في المفاعل النووي سافر إلى أستراليا، وانضم لجماعة مناهضة للسلاح النووي، واعتنق المسيحية، ثم ذهب إلى صحيفة صنداي تايمز اللندنية، وباح لها بأسراره التي صارت حديث العالم.

وبحسب ما ذكره الدكتور محمد حمزة في كتابه «أبو جهاد أسرار بداياته وأسباب اغتياله»، فإن خليل الوزير كان يتقصى الأخبار بشغف بالغ عن منطقة ديمونا التي أُغلِقت بشكل مريب، ومُنِع دخول أي أحد إليها، حتى أعضاء الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي، فمنذ عام 1955 أُنشِئت مدينة صهيونية في منطقة النقب الأوسط على أراضي استُولي عليها من قبائل العزازمة العربية، وبعد أن أُشيعت أنباء عن وجود مفاعل ديمونا النووي، انشغل أبو جهاد بدراسة الأمر، واكتشف أن فكرة إنشاء مفاعل نووي في ديمونا هي فكرة قديمة كانت تلح على الصهاينة من قبل اغتصاب فلسطين عام 1948، وتبلور المشروع لاحقًا مع اكتشاف اليورانيوم مع رواسب الفوسفات في صحراء النقب.

وأشيع بعد نكسة 1967 أن القوات المصرية حاصرت مفاعل ديمونا خلال الحرب، لكن اتضح أن هذا الأمر كان مجرد خطة تحمل اسم «فجر»، لم يُكتب لها أن ترى النور خلال الحرب الخاطفة التي شنتها إسرائيل.

قنبلة من ورق

رأى أبو جهاد أنه يمكن تحويل القنبلة النووية إلى قنبلة من ورق، أي القضاء على فعالية التهديد النووي الإسرائيلي بطريقتين يمكن العمل عليهما معًا في نفس الوقت، وهما الاستيلاء على المنشآت النووية، أو إشعال المواجهات في قلب الأراضي المحتلة، خاصة في المدن المختلطة التي يعيش فيها العرب واليهود، مثل حيفا ويافا واللد والرملة، وحينها لن تجدي أسلحة الدمار الشامل شيئًا في التعامل مع تلك المواجهات، وبذلك تُحيَّد عمليًّا.

وتوصل أبو جهاد، بحكم مسئوليته عن الجناح العسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية، إلى صياغة نظرية لاستخدام السلاح في مواجهة الاحتلال خلال اندلاع الانتفاضة الفلسطينية في أواخر عام 1987، تعتمد على استخدام ثلاثة أشكال من المقاومة: الأول توسيع دائرة المقاومة الشعبية العفوية التي يستخدم فيها المنتفضون الحجارة والمقاليع، والثاني يعتمد على تشكيل مفارز من الشباب الأكثر جرأة لتصبح القوة الضاربة للانتفاضة، والثالث تشكيل قوات فدائية خاصة تستهدف مواقع تقع جغرافيًّا خارج نطاق مناطق الانتفاضة، وتختار أهدافًا نوعية منتقاة بهدف كسر جبروت العدو، وبينما كانت الانتفاضة تكاد تختتم شهرها الثاني اختِير القيادي الفلسطيني شرف الطيبي ليتولى مهمة الهجوم على مفاعل ديمونا في صحراء النقب.

أُعدت خطة عسكرية جاهزة للتنفيذ لاختراق الحصن الصهيوني الحصين، واتُّفِق مع حمد العزازمة على إرشاد المهاجمين، وهو بدوي تعرض أهله للتهجير من النقب عام 1955، كان خبيرًا بالمسالك والدروب الصحراوية، ويحفظ تضاريس المنطقة عن ظهر قلب.

كانت المهمة شبه مستحيلة؛ لأن كل الطرق التي تؤدي إلى المفاعل النووي محصنة، وفي محيط دائرة قطرها 50 كيلومترًا تنتشر الحواجز العسكرية الثابتة والمتنقلة، وتزداد الإجراءات الأمنية صرامة كلما اقتربنا من مركز الدائرة، كما أن المفاعل نفسه محصن ضد القصف الجوي، وجميع الأقسام الحيوية به تقع تحت الأرض بمقدار ستة طوابق، وسماؤه محروسة بشكل دائم بشبكة محكمة من الرادارات الحديثة والدفاعات الأرضية الصاروخية والمدفعية، بالإضافة إلى الحماية الجوية المتأهبة للتدخل من 3 مطارات قريبة، فضلًا عن أجهزة الإنذار المتطورة التي ترصد أي حركة أو نشاط بشري في محيط المنطقة.

خطة حصان طروادة

اعتمدت الخطة على اختطاف الأوتوبيس الذي ينقل الخبراء والفنيين العاملين في المفاعل، والدخول عن طريقهم إلى ديمونا، ورصدت المجموعة الفلسطينية مواعيد تحرك الأوتوبيس يوميًّا من مدينة بئر السبع، حيث يُتأكَّد كل صباح من هويات ركابه، ثم يمضي في حراسة سيارة جيب إلى المفاعل النووي.

وبحسب ما ذكره الدكتور محمد حمزة، فقد تكونت المجموعة الفدائية من ثلاثة أفراد هم عبد الله عبد المجيد كلاب، 21 عامًا، ومحمد عبد القادر عيسى، 22 عامًا، ومحمد الحنفي، وهو أصغرهم سنًّا، وتلقوا تدريبات مكثفة على تنفيذ العملية، ودرسوا الهدف والتفاصيل المتعلقة بالمهمة.

وفي الثالث من مارس/آذار 1988، حل موعد الانطلاق لتنفيذ المهمة، وتحركت المجموعة بإرشاد الدليل حمد العزازمة، مسلحين بالرشاشات والقنابل اليدوية، وذخائر احتياطية، واستطاعت تخطي الحواجز والدوريات التي كانت مستنفرة آنذاك بسبب ظروف اشتعال الانتفاضة، وفي السابع من مارس/آذار انطلقت المجموعة في السادسة صباحًا فهاجمت سيارة عسكرية واستولت عليها، وتحركت إلى نقطة يمر بها أوتوبيس الخبراء النوويين يوميًّا في السابعة والنصف صباحًا.

وفي الطريق اقتحموا أحد الكمائن الأمنية بالقنابل اليدوية، فطاردتهم سيارة عسكرية استطاعوا إبعادها بما معهم من أسلحة، ولما وصلوا إلى كمين عرعر الذي تبطئ عنده حركة السير اقتحم الثلاثة الكمين برشاشاتهم وانطلقوا إلى الأوتوبيس فسيطروا عليه وفتحوا الطريق أمامهم بقوة السلاح، ولم يعد يفصلهم عن ديمونا سوى سبعة كيلومترات فقط.

انطلقت سيارات جيش الاحتلال وشرطته خلفهم، وظهرت طائرات الهيلوكوبتر في السماء، واستُهدِفت إطارات الأوتوبيس بالرصاص فتمزقت، وفرض المئات من الجنود الإسرائيليين الحصار على المنطقة، فطلبت المجموعة الفلسطينية عن طريق مكبر الصوت بالأوتوبيس التواصل مع الصليب الأحمر، وطالبوا بالإفراج عن معتقلي الانتفاضة التسعة الآلاف مقابل الرهائن من الخبراء النوويين، لكن الطرف الآخر ظل يماطل لكسب الوقت، فهدد الخاطفون بتصفية الرهائن واحدًا واحدًا كل نصف ساعة، فانهمر رصاص القناصة من كل اتجاه، ففاضت أرواح الثلاثة ومعهم ثلاثة على الأقل من الرهائن.

وفي اليوم التالي أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي، إسحاق رابين، أن المهاجمين عرَّفوا أنفسهم خلال المفاوضات معهم قبل مقتلهم على أنهم عناصر في حركة فتح، ويعملون مع «أبو جهاد».

الانتقام

بعد دفن القتلى الإسرائيليين في مراسم حضرها قادة الاحتلال حُضِّر للرد الانتقامي، وهو اغتيال خليل الوزير في 16 نيسان/أبريل 1988، حيث تسلل أفراد من الموساد الإسرائيلي عبر البحر إلى العاصمة التونسية، وتمكنوا من الوصول إلى بيته هناك وقتلوه.

وكانت واقعة ديمونا السبب الأبرز في الاغتيال، وإن لم يكن الوحيد، بل قيل في توقيت اغتياله إنه جاء لكونه أبرز قادة الانتفاضة؛ إذ كان يجري مكالمات هاتفية مع أتباعه في الأراضي المحتلة عن طريق جنيف، ليضلل عملية التصنت، وقد اعتبر الإسرائيليون بقاءه خطرًا على مشروعهم بعد تجاوزه لما ظنوه خطوطًا حمرًا، فقرروا القضاء عليه بهدف وأد الانتفاضة ومنعها من التطور، فقد كان يوصف بأنه جنرال الانتفاضة وعقلها السياسي.