إنني أصبحت أتمنى الموت قبل أن أرى اليهود يحتلون فلسطين

هذه الكلمات التي كان يعنيها ويستشعرها بصدق المجاهد الكبير عبد القادر الحسيني، جعلته مجاهدًا وبطلاً فلسطينيًا سلك كل السبل من أجل رفع راية وطنه عاليًا، وروى بصموده كل متعطش لمعرفة المعنى الحقيقي للجهاد المقدس، وفي ذكرى استشهاده الـ 68، كان لابد أن نتصفح سيرة بطل كان جهاده الشرارة الأولى التي انطلقت منها المقاومة الفلسطينية الحقيقية.


بيتٌ مُقاوِم

ولد عبد القادر موسى كاظم الحسيني في العام 1908، ووالده هو المجاهد الفلسطيني «موسى كاظم باشا الحسيني» شيخ مجاهدي فلسطين، الذي نشأ في أعرق البيوت العربية والإسلامية وأقدمها، وتربى في بيت عُرف بالصلاح والتقوى، ويُعدّ هذا البيت هو مركز زعامة العرب في فلسطين ومصدر انطلاقهم ومصدر الحركات النضالية والوطنية والشعبية، وكان الناس يسمّون بيته بـ «الدار الكبيرة» لكثرة تردد الوفود والضيوف عليه، وقد كان في بهو هذا الدار تُعقد الاجتماعات الكبرى والهامة.

وقد شغل كاظم الحسيني بعض المناصب العالية في الدولة العثمانية، فعمل في إسطنبول والعراق ونجد بالإضافة إلى فلسطين، وعندما انهارت الدولة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى، ووقعت فلسطين في قبضة بريطانيا كان موسى كاظم يشغل منصب رئاسة بلدية القدس، كما تم انتخابه رئيسًا للجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني الفلسطيني. وكان هو أول من رفع صوته في وجه الانتداب البريطاني، وأول من دعا أهل فلسطين إلى الاحتجاج والتظاهر وإعلان الغضب ضد وعد بلفور، فقاد أول مظاهرة شعبية في تاريخ فلسطين عام 1920، وبسبب ذلك عزلته سلطات الانتداب البريطاني عن رئاسة بلدية القدس، فلم يُضغف ذلك من عزيمته، فاشترك في الكثير من المظاهرات، وكانت آخرها المظاهرة الكبيرة في يافا في 27 أكتوبر 1933، حيث أصيب فيها بضربات هراوات قاسية من قِبل الجنود الإنجليز حتى وافته المنية عام 1934.

وبالطبع كان للأب أثرٌ كبيرٌ في نفس ابنه عبد القادر الحسيني، الذي سار على درب والده، واتخذ من الجهاد وسيلة للدفاع عن وطنه المحتل.


بدايات الوعي الثوري

تلقى الحسيني تعليمه الابتدائي في المدرسة الرشيدية بالقدس، واشترك في صباه بالمظاهرات الوطنية، واهتم بجمع الأسلحة والتدرب عليها منذ بلغ الثانية عشرة، ثم التحق بمدرسة صهيون الإنجليزية، فما زاده ذلك إلا حقدًا وكرهًا للاحتلال، فقد كان يقول: «لقد تعلمت في مدرسة صهيون كيف أبغض الإنجليز».



التحق الحسيني بالجامعة الأمريكية في بيروت، إلا أنه طُرد منها بسبب نشاطاته الوطنية.

وبعد أن أتم دراسته الثانوية، التحق بكلية الآداب والعلوم بالجامعة الأمريكية في بيروت، إلا أنه طُرد من الجامعة بسبب نشاطاته الوطنية ورفضه للحركة التبشيرية في الجامعة، فالتحق بالجامعة الأمريكية في القاهرة قسم الكيمياء، وفي تلك الفترة لم يفصح عن ميوله السياسية ونشاطاته ضد سياسة الجامعة إلى أن حصل على الشهادة، وفي يوم التخرج أعلن عن رأيه بالجامعة وما تبثه من أفكار، كان يرى أنها تُسمِّم عقول الطلاب، وطالب بإغلاقها من قبل الحكومة المصرية، فما كان من الجامعة إلا أن سحبت منه الشهادة؛ مما أثار غضب رابطة أعضاء الطلبة التي كان يرأسها الحسيني، فقامت مظاهرة كبيرة آنذاك، فكان نتيجة ذلك أنه طُرد من مصر، ولكن بشهادته التي قد سُحبت منه من قبل، وعاد بها إلى القدس في العام 1932.


محاولات بريطانية فاشلة

عمل الحسيني وهو فى بداية العشرين من عمره محررًا في صحف مختلفة، لكنه لم يستمر فيها لوقت طويل؛ فقد كانت سلطات الاحتلال تغلق الصحف التي يعمل بها نظرًا لقوة مقالاته المعادية للاحتلال البريطاني، ويتم تعليق عودة هذه الصحف بوقف مقالات عبد القادر الحسيني.



عمل الحسيني محررًا في صحف مختلفة، لكن سلطات الاحتلال البريطاني كانت تغلق تلك الصحف نظرًا لقوة مقالاته المعادية للاحتلال.

فقد عمل محررًا في جريدة الجامعة الإسلامية التى كانت تصدر في يافا منذ عام 1925، ثم تولى منصب سكرتير لها، ولجرأة المقالات المعادية للاستعمار أغلقت السلطات البريطانية الجريدة، وتم تعليق عودتها على وقف مقالات عبد القادر الحسيني، فتركها عبد القادر وذلك بعد ستة أشهر فقط من بدء عمله بها، ثم انتقل ليعمل محررًا في جريدة الجامعة العربية التى كانت تصدر بالقدس، واستمر يكتب فيها إلى أن أغلقت سلطات الاحتلال هذه الجريدة أيضًا.

وقد حاولت السلطات البريطانية كثيرًا أن تستقطبه إليها إلا أنه انضم إلى الحزب العربي الفلسطيني وبدأ نشاطه؛ مما أثار حفيظة سلطات الاحتلال ضده، فوظفه الاحتلال في وظيفة مأمور تسوية الأراضي، بهدف شغله بشئون الأراضي والزراعة وإبعاده عن مجال السياسة، لكنه استطاع عبر هذه الوظيفة أن يتصل بأبناء جلدته في القرى الفلسطينية المختلفة، وأتاح له هذا العمل أن يطّلع على جهود سلطة الاحتلال البريطاني لتهويد الأرض الفلسطينية.

فاستخدم وظيفته لإحباط ما يستطيع من محاولات الاستيلاء على الأرض الفلسطينية، فعمل على بث روح الجهاد بين الفلسطينيين وشكَّل منهم خلايا سرية، وجمع من أغنيائهم المال لشراء السلاح وتدريب الشباب على استعماله لمواجهة الخطر الصهيوني الذي بدأ يستشري وينفذ مخططاته لإقامة دولته على الأراضي الفلسطينية المسلوبة.


«منظمة الجهاد الإسلامي» وبدايات الكفاح المسلح

بعد فترة استقال الحسيني من منصبه ليشكِّل منظمة واحدة تضم جميع التنظيمات السرية الفلسطينية، أطلق عليها اسم «منظمة الجهاد الإسلامي»، وأصبح الحسيني قائدها، وقد كان الحسيني أول من أطلق شرارة القتال عام 1936، حينما هاجم ثكنة بريطانية في شمال غربي القدس، ثم انتقل من هناك إلى منطقة القسطل، وعمّت الثورة بعدها جميع الأراضي الفلسطينية، كما نجح الحسيني في إلقاء قنبلة على منزل السكرتير العام لحكومة فلسطين، ثم قنبلة أخرى على المندوب السامي البريطاني، وبعد ذلك قام بعملية اغتيال للميجور «سكرست» وهو مدير بوليس القدس.

وفي إحدى معاركه ببيت لحم تمكنت القوات البريطانية من أسره، لكنه نجح في الفرار من المستشفى العسكري في القدس بفضل رفاقه الذين هربوا به إلى دمشق حيث أكمل علاجه، ثم عاد إلى فلسطين عام 1938، ليتولى ثانية قيادة الثوار في القدس، ونجح في القضاء على فتنة قام بها الانتداب البريطاني لإحداث الفرقة بين المسلمين والمسيحيين في فلسطين.

كما خاض الحسيني معركة الخضر الشهيرة التي أدت إلى إصابته إصابة بالغة في عام 1939، فنقله أصدقاؤه إلى المستشفى الإنجليزي في الخليل، ثم نُقل إلى سوريا ولبنان وصولاً إلى العراق، فعمل هناك مدرس رياضيات في مدرسة عسكرية، وكان من المؤيدين لثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق عام 1941، وكان يشارك في القتال ضد القوات البريطانية، مما أدى إلى اعتقاله لمدة ثلاث سنوات، وتم الإفراج عنه في عام 1943، بتدخل من الملك عبد العزيز آل سعود، فأقام في السعودية لمدة عامين.

في عام 1946 انتقل مرة أخرى إلى مصر لتلقي العلاج، وهناك أعدَّ خطة للمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، فنظم عمليات للتدريب وقام بتسليح المقاومين، كما أنشأ معسكرًا سريًّا مع قوى وطنية مصرية وليبية، وقام بتدريب عناصر مصرية شاركت في حملة المتطوعين بحرب فلسطين وحرب القناة ضد الاحتلال البريطاني.

وبمساعدة المشايخ والزعماء في فلسطين وبتمويل من مفتي فلسطين أمين الحسيني، أنشأ محطة لاسلكية في مقر القيادة في بيرزيت، وأوجد سبلاً لإقامة اتصالات سرية لنقل المعلومات، وجنَّد فريقًا للمخابرات يقوم بجمع المعلومات والبيانات عن إسرائيل.


قائد «الجهاد المقدس»

عندما علمت الهيئة العربية العليا نية الأمم المتحدة تقسيم فلسطين، سارعت الهيئة برئاسة المفتي أمين الحسيني إلى الانعقاد وقررت مواجهة الخطط الاستعمارية بالقوة المسلحة، فتقرر إنشاء جيش فلسطين لممارسة الجهاد الفعلي، سُمي بـ “جيش الجهاد المقدس الفلسطيني»، وأسند قيادته العامة إلى عبد القادر الحسيني.

وحين أصدرت الأمم المتحدة قرار التقسيم في 29 نوفمبر 1947، اتصل الحسيني برفاقه القدامى أمثال كامل عريقات، وحسن سلامة، وإبراهيم أبودية، ورشيد عريقات، وغيرهم، لبدء العمل الفعلي بقوات جيش الجهاد المقدس، فقامت هذه القوات بتنفيذ جزء كبير من العمليات الجهادية، فقد تمكنت من إجبار 115 ألف يهودي على الاستسلام في مدينة القدس، نتيجة حصارهم باحتلال مضيق باب الواد وإغلاقه، وقاموا بعدة معارك محلية ونصبوا مئات الكمائن للقوافل اليهودية والإنجليزية، كما قامت فرق التدمير بنسف العديد من من المنشآت والمباني مثل معمل الجير، وعمارة المطاحن بحيفا، وعمارة شركة سوليل بونيه اليهودية.

كما خاضت هذه القوات بقيادة عبد القادر معارك عدة، مثل: معركة بيت سوريك، ونسف شارع يهوذا، ونسف مقر الوكالة اليهودية ومعركة الدهيشة، وقد تكبّد اليهود في هذه المعارك خسائر فادحة في الممتلكات، وقُتل عدد كبير منهم.


بطل القسطل

تعتبر معركة «القسطل» أهم المعارك التي خاضها الحسيني وأدت إلى استشهاده، حيث كان الحسيني قد غادر القدس متوجهًا إلى دمشق في نهاية شهر مارس عام 1948؛ بهدف الاجتماع بقيادة اللجنة العسكرية لفلسطين التابعة لجامعة الدول العربية للحصول على السلاح اللازم، ولكن مع وصول أخبار معركة القسطل إلى الحسيني، غادر دمشق متوجهًا إلى القدس، ولم يستطع أن يحصل إلا على نصف كيس فقط من الرصاص.

وبعدما وصل الحسيني القسطل عمد مسرعًا إلى إعادة تنظيم صفوف المجاهدين، وبعد معركة طاحنة دامت أربعة أيام متتالية من 4 إلى 8 إبريل، تمكن خلالها المجاهدون من السيطرة على القسطل، استشهد الحسيني في الثامن من إبريل عام 1948، مما كان له أثره السلبي في نفوس المجاهدين فزعزع ذلك من موقفهم، فاستغل الاحتلال الفرصة وشن هجومًا معاكسًا تمكن من خلاله من احتلال منطقة القسطل مرة أخرى، وتشبث بها. وقد دُفن الحسيني بالقرب من ضريح والده في باب الحديد، واُطلق عليه «بطل القسطل».


المراجع




  1. “عبد القادر الحسيني (1908 – 1948)”، موقع الموسوعة الفلسطينية، 25 أغسطس 2014.

  2. صقر أبو فخر، “عبد القادر الحسيني قائد ومعركة”، موقع جريدة السفير، مايو 2010.

  3. “ذكرى معركة القسطل واستشهاد عبد القادر الحسيني”، موقع شبكة فلسطين للحوار، 8 إبريل 2014.

  4. نادية راضي، “قصة بطولة الشهيد عبد القادر الحسيني”، موقع المرسال، 14 إبريل 2014.

  5. محمود علي، “عبد القادر الحسيني.. مناضل ضد الانتداب”، موقع البديل، 3 مايو 2015.