حصلت على كتاب الأب بولس سباط، ومن خلاله تعرّفت على ردود ضائعة للمعتزلة، تم الاحتفاظ بها في التراث المسيحي، إذ جرت العادة في الردود أن ينقل المجادل ما قاله الآخر عنه ويرد عليه، فعل ذلك يحيى بن عدي مع أبي عيسى الورّاق وحفظ لنا ردوده بذلك، وفعل ذلك ابن العسال مع نصوص علي بن ربن الطبري، وكذلك فعل ابن العسّال مع الناشئ الأكبر المعتزلي ومع آخرين.

كان ما حصلت عليه من هذه النصوص محفّزًا على الحصول على نسخ أخرى وكتابات لآخرين تعبّر عن الجدل الإسلامي، والمسيحي، وأغلب هذه النشرات إما استشراقية صدرت في الغرب، وإما مسيحية صدرت في بيروت أو سوريا كنشرات الأب لويس شيخو لمقالات النصارى، وكذلك الأب سمير خليل، وغيرهم من الآباء اليسوعيين، ومن هنا كان اهتمامي بمجلة المشرق التي وفّرت لي الكثير من النصوص، وكذلك دار المشرق أو المطبعة الكاثولكية قديمًا.

كل هذه النصوص كانت هامة لأن الجدل المعتزلي مع أهل الأديان الأخرى كان أسبق من غيره، ولأن الفترة التي أعمل عليها مبكرة للغاية (القرن الثاني الهجري) فكانت هذه النصوص خير معين لي على بناء تصور مكتمل نوعًا ما عن هذه الفترة وعن مسائل الجدل فيها.



تعرفت فى كتاب الأب بولس على ردود ضائعة للمعتزلة احتفظ بها في التراث المسيحي إذ جرت العادة في الردود أن ينقل المجادل ما قاله الآخر عنه ويرد عليه

ومن أهم الكتب التي حصلت عليها كان كتاب البرهان، والمسائل والأجوبة لعمّار البصري المسيحي، الذي حققه الأب ميشال الحايك.

وأذكر أن نصوصًا هامة من هذه النصوص لم أكن لأحصل عليها بسهولة لولا تكرّم السيدة ريمة الصيّاد من سوريا بتوفير بعض هذه النصوص، فقد كنّا زملاء دراسة نتبادل الخبرات والمعارف وكانت مثالاً للباحثة الجادة الصبورة.

وقد كتبت دراستها في الماجستير عن أدبيات الجدل والدفاع في هذه المرحلة المبكرة، ولعلها طبعت هذه الدراسة لأنني قبل وقت رأيت دراستها المقارنة في مرحلة الدكتوراه مطبوعة، وآخر ما أبلغني به صديقي تركي أن ريمة صارت أستاذة كبيرة تناقش الآن رسائل الدكتوراه في جامعة دمشق.

كان كتاب من هذه الكتب من أهم النصوص التي ساعدتني في الكشف عن مرويات مفقودة لكتابات الطبري، هو كتاب ابن العسّال (الصحائح في جواب النّصائح) الذي حفظ فيه نصوصًا لم تعد بين أيدينا اليوم لكتاب الطبري، كما حفظ نصوصًا من قبل هو وإخوته فُقدت من تراث المعتزلة والفلاسفة فيما يتعلق بالجدل والإلهيات والنبوات.

عرفت بعد قراءة هذا الكتاب أن الأب وديع أبو الليف كان قد كتب في وقت مبكر عن أبناء العسال، وتوفّر على دراسة نصوصهم، خاصة المجموع في أصول الدين الذي نُشر في القُدس في مجلدتين.

وذهبت إلى الأب في دير الآباء الفرنسيسكان بالموسكى، وقابلني الأب منصور مستريح بحفاوة بالغة، في زيّه المتواضع وخلقه الرفيع، ومن يراه في سمته لا يدرك أنه هو الباحث الذي يكتب ويترجم في لغات عدة، أخبرته أنني أود الحصول على نسخة من المجموع في أصول الدين، فأجابني أن ثمن النسخة كبير عليّ لأنها كانت تباع بالدولار، ويمكنني أن أطالع نسخة من نسخ المكتبة، لكنني حصلت على النسخة بفضل أحد الأصدقاء من أمريكا مشكورًا صوّر لي المجلدتين وأرسلهما.

وقابلت الأب وديع وكان دقيقًا للغاية في معلوماته، ولا يتحدث دون إحالة على مرجع، وبدا مطّلعًا على النصوص الإسلامية بشكل جيد، وتحدثت معه كثيرًا حول ابن العسال، وحول ما يقدّمه سمير خليل في شأن (أدب الجدل والدفاع) في الدوريات الغربية، وكان الجلوس معه مفيدًا، وقد احتفى بي حين حضرت مؤتمر التراث العربي المسيحي الذي نظمه الدير بحضور طوائف مسيحية من بلدان مختلفة.

كانت الورقات من خارج مصر أفضل مما ألقي من مصر، وكان حديث أهل فلسطين والشام عمومًا عن العلاقات المسيحية الإسلامية أكثر علمية وسماحة ودليل تعايش حقيقي، على عكس ما قدّمه بعض الآباء الأرثوذكس المصريين.

ومن الغريب ألا يُعرف أ.وديع أبو الليف بتحقيقاته العلمية ودراساته الواسعة في الوسط الأكاديمي العربي، ويحوز الشهرة بعض من يسطو على أعماله وينشرها في المجلات الغربية والعربية.

أذكر من بين جملة الكتب التي طالعتها آنئذ كتاب الإعلام بمناقب الإسلام للعامري، الكتاب الذي حققه الأستاذ أحمد عبد الحميد غراب، وإن كنت طالعته في نشرته الأولى في دار الكتب المصرية، إلاّ أنني حصلت على نسخة نشرها الأستاذ في دار الأصالة بالرياض، كما حصلت على نسخة طُبعت حديثًا في حجم كتاب الجيب دون تحقيق لها.

كان أسلوب العامري سهلاً ومركزًا ومحببًا إلى قلبي، كلما قرأت فصلاً رجوت أن أعيد قراءته مرة أخرى، وسجّلت وقتها إضافة إلى المقاطع التي أفادتني في دراستي، بعض المقاطع التي لمست عقلي وقلبي مما كتب، وبحثت عن مصنفات أخرى له، وحصلت على بعضها مما طُبع في إيران، أو عمل عليه أساتذة في الأردن.

سجّلت في هذه السطور القليلة طرفًا من رحلة بحثي (الأكاديمي) في مقارنة الأديان، لعله يوقف الدارس للتعليم الجامعي في مصر على بعض مواطن الخلل أو ينبّه بعض الأساتذة إلى ما يقترفونه من تقصير في حقوق طلاّبهم، ويعرّف محبّ القراءة والسجال في مثل هذه الموضوعات أن المسألة أوسع من العصبية والانفعال والحماسة من أجل ما يعتنقه من دين أو مذهب، فأن نحب ما ندين له بالولاء شيء، وأن ندافع عنه شيء، وأن ندرسه أمر آخر.

وأحب أن أختم الحديث بكلمة للأستاذ العادل خضر من تونس قدّم بها رسالة الأستاذ فوزي البدوي ليتعرّف القارئ على لون آخر من الدراسات لم نعد نراه في جامعاتنا المصرية، ولعلنا في مقالات تالية نتمكن من وضع خريطة معرفية للقارئ الذي يود أن يخوض غمار هذا الموضوع بشكل أكثر منهجية وتنظيمًا.



حديث أهل فلسطين والشام عموما عن العلاقات المسيحية الإسلامية أكثر علمية وسماحة ودليل تعايش حقيقي على عكس ما قدمه بعض الآباء الأرثوذكس المصريين

يقول العادل خضر في مقاله المنشور في الأوان [الخميس 7 آب (أغسطس) 2008]: من بين الرّسائل اللاّفتة للانتباه «الجدل الإسلاميّ اليهوديّ باللّغتين العربيّة والعبريّة إلى حدود القرن العاشر» وهو عنوان بحث تقدّم به الأستاذ فوزي البدوي لنيل شهادة دكتورا الدّولة في اللّغة والآداب العربيّة، في اختصاص الحضارة العربيّة الإسلاميّة كلّية الآداب والفنون والإنسانيات بمنّوبة (تونس).

أمضى فيه الأستاذ فوزي البدوي أكثر من عشر سنوات في التّكوين والتّنقيب والتّفكير والتّخطيط.

— أمّا التّكوين فقد اقتضى منه هذا العمل أن يذلّل مصاعب العوائق اللّغويّة كتعلّم اللّغة العبريّة، والعبريّة القديمة بصفة خاصّة لأنّ الباحث قد اختار أن يركب الطّريق الصّعبة .

وهي: أن يتتبّع الجدل الإسلاميّ اليهوديّ باللّغتين حتّى تكون صورة العلاقات الدّينيّة الإسلاميّة اليهوديّة كاملة، لا وحيدة الجانب، في المرحلة الوسيطة، وأن يستقصي آثار هذا الجدل الّذي امتدّ في الزّمن إلى المرحلة العثمانيّة ذلك أنّ أشكال الصّراع العقديّ الإسلاميّ اليهوديّ قد تغيّرت بعد ذلك خاصّة في سياق المرحلة الحديثة، وهو موضوع قد تكفّل به الباحث الأردنيّ مهنا حداد.

— أمّا التّنقيب فقد تطلّب ذلك من الباحث أن يشرع في جمع النّصوص العربيّة والعبريّة ومتعلّقاتها من النّصوص الرّبّانيّة في التّفسير والفقه واللّغة. وقد استغرق جمع مدوّنة الجدل الإسلاميّ اليهوديّ زمنا كاد يثني عزم الباحث، ويرجع ذلك إلى أسباب عديدة، منها أنّ بلوغ هذه المدوّنة والاستفادة منها لم يكن من الأمور الميسورة في بداية التّسعينات لأنّ الوسائل المعلوماتيّة وقواعد البيانات الإلكترونيّة لم تكن متوفّرة على الصّورة الّتي عليها اليوم.

ولكنّها عندما توفّرت بوجود قاعدة بيانات الإلكترونيّة لمؤسّسة جيستور والموسوعة الإلكترونيّة الّتي أصدرتها جامعة بار إيلان الإسرائيليّة في نسختها الخامسة عشرة حيث جمعت أشتات النّصوص في أغلب فنون الأدب العبريّ الوسيط، انقلب مشكل الحصول على المعلومات إلى مشكل آخر تمثّل في استثمارها وتحليلها وتأويلها.