ماذا سيحدث بعد الموت؟

سؤال قديم منذ أن أدرك الإنسان الموت، يتكرر السؤال ويتكرر الموت، هذه هي الحقيقة الوحيدة المؤكدة، أما الإجابة فتختلف وتتطور، حكايات ما قبل النوم، نصوص دينية وميثولوجية، وخيالات الأطفال، كل يقدم روايته. عن نفس السؤال تدور أحداث فيلم «ديفيد لوري» الجديد «A Ghost Story»، الإجابة السينمائية هنا تخبرنا ببساطة أن لا إجابة أكيدة إلا بالذهاب إلى هناك، إلا بالموت. يموت بطل الحكاية منذ البداية ثم نبدأ في معاينة ما يحدث بعيون شبح.

يمزج لوري بين تصور شكلي طفولي للغاية عن الشبح ومعالجة فلسفية غاية في التأمل لما يمر به، الشبح هنا ملاءة بيضاء بعينين سوداوين، هكذا كما يتخيله الصغار، وبصورة قريبة جدا من أشباح صانع الإنيمي الياباني «ميازاكي» في فيلمه الشهير Spirited Away، هذا الشبح وعلى بساطته الشكلية يقدم لنا سيناريو جديدا، هادئا، ولكنه صادم للغاية عما يحدث بعد الموت.

زمن غير محدود من الانتظار، هذا ما يقدمه لنا ديفيد لوري كإجابة في فيلمه الذي لا تتعدى مدته 80 دقيقة، تبدأ الحكاية بحبيبين يعيشان في منزل هادئ تريد الفتاة الرحيل منه لمكان أكثر حداثة، لكن حبيبها يفضل البقاء، يستمر الشد والجذب ولكنهما يظلان حبيبين. يأتي الموت كحدث مفاجئ دون مقدمات ليخطف الحبيب الذي يقوم بدوره الممثل الفائز بالأوسكار «كايسي أفليك» ولنتابع برفقته -شبحا- كيف تعيش حبيبته من بعده وكيف يمر الزمان على البيت الذي أحبه وأحس بالارتباط به دون أن يعرف السبب.

في مشهد طويل نتابع بشكل تفصيلي كيف تعود الحبيبة التي تقوم بدورها «روني مارا» إلى البيت في أحد الأيام عقب وفاة حبيبها لتجد فطيرة مخبوزة تركتها لها إحدى صديقاتها مع رسالة تحثها فيها على الأكل، الحياة ستستمر.

تبدأ مارا في أكل الفطيرة بقطمات بسيطة، مازالت واقفة، لم تنحنِ، هي تستند على الطاولة فقط، تستمر في الانحناء حتى تجلس بعدها بلحظات على الأرض وهي تحمل الفطيرة، تكمل ما بدأته، تزيد من سرعتها، تأكل الآن بنهم شديد، تبدأ الدموع بالانهمار على خديها، نحن نتابع كل هذا دون قطع، لقطة واحدة طويلة مكتملة، نلاحظ الآن شبحا يقف في أحد أركان الكادر، هذا الشبح الذي يتابعها دون أن تراه هو حبيبها السابق، ها هي تتوقف فجأة عن الأكل، تجري للطرف الآخر من الكادر لتجبر نفسها على القيء وراء جدار الحمام، هناك ينتهي الكادر، وهكذا ينتهي المشهد.

هذا المشهد الذي قد تشعر بعدم الارتياح في بدايته ينجح في النهاية ودون أي كلمة أن يصمد في ذاكرتك وسط أكثر المشاهد السينمائية صدقا في التعبير عن الحزن.

قدم لنا ديفيد لوري شيئا جديدا للغاية أيضا على مستوى الصورة، أولا من خلال أبعاد مختلفة للشاشة هي 3:4 بدلا عن أبعاد شاشة السينما العريضة المعتادة، صورة المربعة بالإضافة لحواف دائرية، هذه الأبعاد جعلتني أتشكك في البداية في سلامة النسخة التي أشاهدها، ولكنني في النهاية أدركت أن لوري يرغب في أن يعطي مشاهديه الإحساس بأنهم يشاهدون فيلما منزليا على شاشة تلفازهم الشخصي.

أما ثانيا فنحن لأول مرة أيضا نشاهد فيلما عن شبح يظهر على الشاشة نهارا أكثر من ظهوره ليلا، أفلام الأشباح القديمة تعتمد في الأساس على التشويق والرعب الذي يتولد نتيجة الظهور المفاجئ للشبح المتسلل ليلا، ولكن لوري هنا وبصحبة سينماتوغرافيا «أندرو دروز باليرمو» يعطينا صورة جديدة للشبح الذي نحبه، شبح هو بطلنا الذي تتحرك الكاميرا برفقته، تنقل لنا حركته الهادئة داخل المنزل، تأمله من خلف زجاج أحد النوافذ، وفي كادر خارجي نهاري تنقل لنا أيضا مروره بأحد المروج الخضراء.

موسيقى «دانيال هارت» الأصلية التي تجمع بين التيكنو الهادئ والسوفت روك ترافق هذه الصورة التأملية مع رغبة واضحة للوري في أن يعبر عن حكايته بأقل قدر ممكن من الحوار المنطوق.

وفي تتابع طويل آخر مدته أربع دقائق يقدم لنا لوري قطع مونتاج متوازٍ بين زمنين، في أحدهما يقدم الحبيب الذي يعمل كمؤلف موسيقى مستقل أغنيته الجديدة لمحبوبته لينهي نقاشا حول الرحيل من المنزل، تستمع الفتاة للأغنية وحبيبها يراقبها، فيما نشاهد في القطع الموازي استماعها لها عقب وفاته فيما يراقبها الشبح -حبيبها في كينونته الجديدة- دون أن تراه، أغنية فريق «Dark Rooms» التي اختارها لوري هنا تبدو مناسبة للغاية بلحنها الهادئ وكلماتها التي تشبه التهويدة.

ربما يخرج هذا الفيلم خالي الوفاض من موسم الجوائز، ولكنه سيظل من أفضل أفلام هذا العام على المستوى الصنعة السينمائية، سواء على مستوى الصورة، الصوت، المونتاج أو حتى الأداءات التمثيلية المميزة من كاسي أفليك وروني مارا.


قدم لنا ديفيد لوري -صاحب الخمسة وثلاثين عاما- إذن في فيلمه الجديد حكاية مصنوعة بإمكانيات محدودة للغاية، لكنه استطاع أن يخبرنا من خلالها بإجابته عن سؤال عمره من عمر البشر، كما استطاع أيضا أن يقدم لنا رؤية فريدة أعتقد أنها ستظل عالقة في ذهن الكثيرين عن شبح إنساني للغاية.