واحد من كل عشرة أشخاص في العالم مصاب بالاكتئاب أو اضطرابات الشخصية أو القلق الشديد ، هذا ما تخبرنا به منظمة الصحة العالمية، بل والأمر يزداد سوءًا مع الوقت. فقد كان عدد المصابين بالاكتئاب حول العالم في عام 1990 يقدر بــ 416 مليون شخص، ووصل العدد إلى 615 مليون في عام 2013؛ أي أن خُمس العالم يعاني من الاكتئاب!.

يُعرف الاكتئاب بأنه حالة من الشعور

بالقلق


والحزن

والتشاؤم والذنب مع انعدام وجود هدف للحياة، ويشعر المصاب بالاكتئاب بعدم الرغبة في الحياة أو مخالصة الناس أو التفكير في أي أمر؛ ربما لأنه لا يصلح لشيء أو لأن الناس لا يصلحون لتلقي أفكاره الثمينة فهم جميعا أقل من أن يتواضع ويتحدث إليهم. هذا ويُفرق المتخصصون النفسيون بين الاكتئاب كمرض نفسي له آثار أو أسباب عضوية وبين الحزن أو الإحباط الذي يصيب البعض في بعض مراحل حياته ثم لا يلبث أن يرحل ويعود الإنسان إلى الاستقرار والوضع الطبيعي.

ومع ضغوط الحياة وظروف البلاد والعباد نجد البعض يصاب باليأس أو الحزن الشديد أو الإحباط، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصاب أحيانًا ببعض الانقباضات النفسية بسبب طبيعته البشرية وحرصه النبيل على هداية أمته حتى وصل الأمر إلى أن الله تعالى عاتبه على هذا في مطلع سورة جليلة من سور القرآن الكريم هي سورة الكهف، حيث قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:

فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا.





سورة الكهف: 6

والمعنى: أنك يا محمد تكاد تقتل نفسك حزنًا وأنت تحاول هدايتهم وإرشادهم وتحاول تتبعهم وملاحقتهم بالنور المبين وهم يفرون منك إلى الكفر والنار، لا يا محمد، لا تفعل هذا بنفسك فإن الأمر كله هين وزائل عن قريب، فاجعل عملك بما أمرك به ربك في إطار قدراتك البشرية، أما الهداية والإرشاد وتحقيق الثمار فالأمر كله لله وكلهم إليه راجع وإنه لمحاسبهم على ما قدموا.

إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا.





سورة الكهف: 7-8

أي أن كل ما في أيديهم من الزينة والمتاع والنعيم إنما هو في الدنيا فقط، والدنيا زائلة ولن يبقى في أيديهم من هذا شيء فاستقم على ما أمرك به ربك حتى يأتي أمره وأنت على ذلك، فإن الأمر قريب والعمر قصير والحساب آتٍ لا محالة. ونجد قريبًا من هذا المعنى في آيات أخرى هي الآيات الثلاث الأخيرة من سورة الحجر يخاطب فيها ربنا نبيه صلى الله عليه وسلم، فيقول عز من قائل:

وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ.





سورة الحجر: 97 – 99

وهذه رسالة بليغة لمن يقول: أنا طاقتي خلصت وبقيت مستهلك جدًا نفسيًا وبدنيًا فماذا أفعل؟ ونجيبه بقولنا:

تذكر أن للكون ربا، وللعمر نهاية، وللحياة هدفًا، وللجزاء والحساب يومًا قريبًا، وساعتها تكون الراحة لمن تعب والتعب لمن استراح، فإن النعيم لا يُدرك بالنعيم، وحقيقة الراحة ترك الراحة، فقسّم أوقاتك على أهدافك، وارحم نفسك وأرحها من التدبير، وقل: يا رب دبر لي، ويسر لي، وهيئ لي من أمري رشدًا ومرفقًا، وتذكر أن رحمة الله قريب من المحسنين.

#يا_مسكين

إن الشعور بالضعف والعجز وقلة الحيلة واجب شرعي وضرورة بشرية!

أولًا: واجب شرعي لأن الإيمان يوجب عليك أن تعلم أن الله تعالى خالق، رازق، قوي، قادر، مدبر لا يعجزه شيء سبحانه، وأن كل ما سوى الله مخلوق لله خاضع له، بداية بالإنسان «وخلق الإنسان ضعيفا»، مرورًا بالسماوات والأرض «ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين»، وصولاً إلى هذا الخلق العجيب الذي هو من أكبر وأقوى ما خلق الله، ذلك المخلوق يسمى العرش، ذلك العرش الذي تعتبر السماوات السبع والأرض وما فيهما من بشر وملائكة بالنسبة لهذا العرش كحلقة في فلاة (أي: خاتم في صحراء واسعة).

وحتى لا يتسرب إلى خواطر أحد أن هذا الخلق العجيب خارج عن سلطان وقهر الله قال الله تعالى لنا في قرآنه بأنه قهر العرش واستولى عليه فالعرش مخلوق لله خاضع له. قال تعالى: “الرحمن على العرش استوى”، فإذا علمت أنه سبحانه قد استوى على العرش فاعلم بالضرورة أنه (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ *

وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى

*

اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ

) (سورة طه: 6 – 8). وإذا كان ربك كذلك فتوكل عليه واترك التدبير له واشعر بتمام العجز والافتقار فإن هذا من ضروريات إيمانك ودينك.

ثانيًا: الشعور بالعجز والضعف وقلة الحيلة ضرورة بشرية لأن الإنسان كما قلنا مخلوق ضعيف، وهذه الحقيقة مع ورودها في القرآن يشعر بها كل إنسان، فلا يستطيع هذا الإنسان أن يخلق نفسه، ولا يستطيع أن يتدبر أمر رزقه وهو في بطن أمه جنينًا، ثم هذه عضلة القلب تعمل في صدره ليلًا ونهارًا بدون توقف ولا اختيار منها -العضلة- ولا منه -الإنسان- وهو في ذلك خاضع منكسر، فإذا دخلت قطرة ماء إلى رئته بدلا من معدته فربما مات بها، وإذا انحبس الماء في مثانته فلم يستطع إخراجه فربما مات به أيضًا إلا أن يأذن الله فتجرى له عملية جراحية، وهذه العملية ليست إلا بأن الله تعالى “علم الإنسان ما لم يعلم” سبحانه.

الإنسان حين يظن نفسه قادرًا قويًّا مسيطرًا فإنه يتنازل ويتخلى عن أهم صفة في بشريته وهي الضعف والعجز.

وعليه فضعف الإنسان ظاهر مُشاهَد محسوس، ولكن يحدث الصراع في النفس حين يحاول الإنسان الخروج من صفة عجزه مدّعيًا صفة لخالقه وهي صفة القدرة. وحين يحاول الإنسان الخروج عن صفة ضعفه إلى صفة خالقه وهي القوة، وحين يحاول الإنسان الخروج عن صفة مسكنته إلى صفة خالقه وهي الجبروت فساعتها يأتيه قول الله تعالى مزلزلا لأركانه: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني فيهما قصمته ولا أبالي.

إن الإنسان حين يظن نفسه قادرًا قويًّا مسيطرًا فإنه يتنازل ويتخلى عن أهم صفة في بشريته وهي الضعف والعجز، ويحاول أن يكون إلها ولن يستطيع، فيعيش حياته كلها لا هو بشر مقر بالبشرية والعبودية فيرتاح ويطمئن ويركن إلى العزيز القوي، ولا هو حقًا إله قوي قادر، ولن يكون كذلك أبدًا، تعالى الله عن الشركاء علوًّا كبيرًا.

وعليه فأول راحة للبشر علمهم بأنهم بشر فينكسرون ويتواضعون ويعترفون بالعجز ويتركون التدبير مع العليم القدير، وإنما يمارسون الأسباب لأن خالقهم القوي القادر أمرهم بذلك، لكنهم يعلمون أن هذه الأسباب لا تنفعهم وأنهم لا ينفعون أنفسهم بل النفع والضر بيد الله سبحانه وتعالى وحده.


أخيرًا، قال الله تعالى: (كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى)

فيا مسكين:

لا تنظر إلى نفسك أنك استغنيت عن خالقك أو أن لك من الأمر شيء أو أنك على علم بشيء أو أنها قوتك وعقلك وذكاؤك إلى آخر هذه الخرافات، فكل هذا طغيان، وهو هلاك محقق. فراجع قلبك، وتدبر أمرك، وانكسر لربك، واعلم أن العز والنصر والتمكين والحرية والأمر كله بيد الله فباشر الأسباب كما أمر واعتمد عليه واجعل أمرك كله إليه، وتذكر أن الجوارج تعمل والقلوب تتوكل.

والسلام.