من ضمن المحاور الأساسية التي دار حولها نقد المفسرين المحدثين للتقليد التفسيري السابق عليهم، شيوع اللجوء للإسرائليات في هذه التفاسير

[1].

هذا الموقف الحاد تجاه الإسرائليات على اختلاف منطلقاته

[2]

، جعل القصة القرآنية أحد أهم فضاءات التجديد في التفاسير والدراسات القرآنية المعاصرة.

فالقصة القرآنية طالما تم تفسيرها تراثيًا سواء في التفاسير أو في كتب منبثقة وذات صلة، «التاريخ العام» أو «كتب مخصصة لقصص الأنبياء»، في إطار «وحدات ميثية» مستقاة بالأساس من العهد القديم ومن أساطير العرب – فضلا عن التخييل والتعجيب الذي قام به القصاص -. هذه الوحدات لم تقم بمهمة ملء الفراغات التي لم يتحدث عنها القرآن فحسب، بل قامت بالحذف والإضافة والتعديل والتحوير في القصة القرآنية

[3]

، وأحيانًا دمج القصة القرآنية نفسها داخل هذه الوحدات الميثية المستعارة لتحجب النص الأصلي ذاته، كما يقول ربيعو في توصيفه علاقة البنية الميثية لتفسير الطبري بقصص القرآن

[4].

هذه الوحدات بدمجها القصص في الأساطير تكون قد تجاهلت وجود أي فارق بين «طبيعة القصص القرآني» و«طبيعة الأسطورة».



هل نجحت الوحدات الجديدة المفترضة – والمنطلقة من القرآن – لقراءة القصة القرآنية، كبديل للوحدات الميثية، في كشف أفضل لمعنى القصص القرآني؟

ورغم أن معظم القراءات الحديثة والمعاصرة متفقة على هذا النقد، على أن هذه التفسيرات قد ابتعدت بقصص القرآن عن طبيعة القص القرآني حين قرأته من خلال هذه الوحدات الميثية ودفعت به للغرق في تفاصيل تاريخية لم يقصد إليها، وفي الخرافة

[5]

؛ مما دفعها لطرح «وحدات جديدة» لتفسير القصة القرآنية تكون أقرب لمنطق وأهداف القص القرآني وأقدر على إجلاء معانيها المقصودة. إلا أن «الطبيعة الخاصة للقص القرآني» المفترضة لم تكن موضع اتفاق بنفس الطريقة، لذا لم يحدث أن تم وضع إطار واحد يفسر القصة يكون بديلًا للإطار الميثي القديم في تفسيرها وينطلق من، أو يؤدي إلى كشف، رؤية واضحة للقص القرآني، بل نحن في حقيقة الأمر أمام عدد من الوحدات التي يتم قراءة القصة من خلالها، لكل منها رؤيته الخاصة للقص القرآني، ولأهداف له تتفاوت بساطة وتركيبًا وجزئية وشمولًا.

ولأن إقصاء الاسرائيليات وتقليل اللجوء للمرويات في المطلق هو مميز واضح للتجديد التفسيري الحديث والمعاصر؛ مما جعل نوعين من التفسير هما ما يتسيد الساحة التفسيرية بصورة كبيرة: «التفسير الموضوعي» و«تفسير القرآن بالقرآن» – بما بينهما من صلات وما تحت عناوينهما من تمايزات -، فقد انحصرت هذه الوحدات الجديدة الأساسية التي ستنافس الوحدات الميثية القديمة في وحدات منطلقة من رؤى هذين التفسيرين؛ مما جعلها وحدات قرآنية بالأساس؛ «وحدة السورة»، «وحدة القصة»، «وحدة القصص»، «وحدة القرآن»، لكن مع ملاحظة أن وحدة القرآن ليست مجرد وحدة بسيطة في الحقيقة

[6]

، فهناك بعض الدراسات القرآنية المعاصرة والتي لها تصوراتها الخاصة تمامًا للوحدة القرآنية، مثل «وحدة القرآن المنهجية» عند أبي القاسم حاج حمد، ومثل وحدتي «النبوة» و«الرسالة» عند شحرور، وهذه الوحدات مؤثرة على فهمهما للقصص كما سنبين.

لذا فإننا نستطيع إجمالًا تقسيم هذه «الوحدات القرآنية المعاصرة» التي يقرأ القصص من خلالها في مقابل «الوحدات الميثية القديمة»، إلى وحدات قرآنية جزئية (وحدة السورة، وحدة القصص)، ووحدات قرآنية عميقة (وحدة القرآن المنهجية، وحدة النبوة)، تفترض كل منهم الوفاء لمنطق القص القرآني والقدرة على إجلاء معاني قصصه وكشف طبيعته الخاصة.

سؤالنا المركزي في هذا المقال هو: هل نجحت الوحدات الجديدة المفترضة – والمنطلقة من القرآن – لقراءة القصة القرآنية، كبديل للوحدات الميثية، في كشف أفضل لمعنى القصص القرآني؟، والأهم هل استطاعت كشفًا أفضل لـ «الطبيعة الخاصة للقص القرآني» والفارق بينها وبين «الأسطورة»؟ هذا الفارق الذي تجاهلته – عمليًا على الأقل – التفاسير القديمة، أم أنها تظل تنطلق من قصر للفارق بين الأسطورة والقص القرآني على مسألة الأحقية التاريخية (كذب الأسطورة وصدق القصة) ومجمل الأهداف الأخلاقية والعقدية الممكن إجمالها تحت عنوان «الهدي» – كجزء من الحقل الدلالي لمفهوم القص القرآني كما يخبرنا صاحب موسوعة السرد؟

[7]

وهذا في ظننا تقليص للفارق بين هذين النظامين السرديين، وعدم نفاذ للفوارق الأكثر جوهرية بين طبيعتهما، والتي تحتاج لفهمها ربط الأسطورة بمجمل طرق السرد الجاهلية وأن تقرأ مواجهة القرآن للأسطورة كحلقة من حلقات مواجهة «السرد الجاهلي» المرتبط بالـ «الدين الجاهلي» كما سنحاول أن نوضح مستغلين ملحوظة عبد الله ابراهيم عن هذا، وملحوظة ياروسلاف ستيكفيتش الأعمق عن «البعد الجاهلي في الأسطورة»، فكل تفويت لتلك الفروقات الأهم، والاقتصار في التفريق بين القصة والأسطورة على «الصدقية» و«هدف العبرة» يعجزنا عن تحديد طبيعة «السرد القصصي الإسلامي» وما يميزه حقيقة عن «السرد الجاهلي الأسطوري».

من أجل إجابة سؤالنا هذا، سنتناول أربع دراسات قرآنية تنطلق في قراءتها للقصص القرآني من أربع وحدات: وحدة السورة مع يوسف الصديق، ووحدة القصص مع باقر الصدر، ووحدة النبوة مع شحرور، ووحدة القرآن المنهجية مع حاج حمد؛ لاكتشاف مدى قدرة هذه القراءات على إجلاء معنى القصص وكشف طبيعة السرد القرآني واختلافه عن السرد الأسطوري.


الوحدات الجزئية: يوسف الصديق وباقر الصدر

ينطلق يوسف الصديق، وهو من أهم الأسماء على ساحة الدراسات القرآنية المعاصرة، في تفسيره للقصص القرآني، من «وحدة السورة» كوحدة مفسرة للقصص.

ففي كتابه «هل قرأنا القرآن»، يقدم الصديق تفسيره لقصتي سورة الكهف، قصة موسى وفتاه، وقصة ذي القرنين، من خلال فكرة الانتقال من النبوة إلى العقل، واستقلال الإنسان في التدبير السياسي والعقلي عن السماء، كفكرة تمثل وحدة سورة الكهف. فقد «انحسر زمن التنزيل السماوي»، «وامتنعت الألوهية عن الاستمرار في إدارة الحياة الأرضية؛ لتسلمها بيد من باتوا مزودين بعقلانية راشدة»

[8]

. وفقًا لهذه الوحدة يكون للقصتين نفس الدلالة، فإذا كان «الإسكندر» كفيلسوف ملك هو النموذج الملائم لاستقلال الإنسان في الحكم عن الوحي، فإن «العبد الصالح» هو النموذج الملائم لاستقلال العقل في المعرفة عن النبوة، بل تواضع النبوة في حضرة العقل تمهيدًا لانسحابها.



هذه القراءة من الصديق تجعل الشخصية في القصة (موسى والإسكندر)، لا تفقد فحسب شخصيتها التاريخية، بل كذلك شخصيتها القصصية

«قصة موسى» هنا لا تفسر من خلال علاقتها بـ «قصة موسى» في بقية السور – وهي الأكثر تكرارًا وحضورًا -، ولا كذلك بمجمل القص القرآني- حيث الوحدة ليست للقصة ولا للقصص بل للسورة -، بل فحسب من خلال وحدة «منعطف الكهف» التي تربطها بباقي القصص داخلها.

لو حاولنا تقييم هذه القراءة للقصص انطلاقًا من وحدة السورة التي يعتبرها الصديق اكتشافًا خاصًا، وينعي على المفسرين كونهم لم يلتفتوا لها مسبقًا

[9]

، من جهة قدرتها على كشف منطق القص القرآني، فسنجد أنها تدفعنا بعيدًا عن أي إدراك للطبيعة الخاصة للقص القرآني؛ وهذا لأن القص نفسه يفقد معناه بقراءة كهذه، فهذه القراءة من الصديق تجعل الشخصية في القصة (موسى والإسكندر)، لا تفقد فحسب شخصيتها التاريخية، بل كذلك شخصيتها القصصية، أو ما يمكن تسميته استعارة من إيكو بـ «شخصيتها التخيلية»

[10]

.

فهذه الشخصية تكتسب حضورها من القصة ذاتها «من الشرعية التجريبية الداخلية غير الممكن التشكيك فيها»، وكل ظهور للشخصية «أو هجرة لها في العوالم النصية» يأتي متعالقًا بعالمها القصصي المنتزعة منه وإلا تفقد هذه الشخصية وجودها القصصي ذاته، لذا فقراءة الصديق بنزعها موسى من عالمه القصصي وجعل شبيهه، لا موسى في القصص الأخرى، بل «ذي القرنين» في هذه السورة، يُفقد قصة موسى وحدتها وشخصية موسى ملامحها

[11]

، فيتحول القص القرآني لتخييل، خالٍ حتى من مبادئه التخيلية!

في رؤية كهذه يصعب الحديث عن «قص قرآني»، تاريخيًا كان أو تخييليًا، حيث القص هنا يصبح مجرد فضاء خالٍ من أي ملامح خاصة يمكن ملؤه بأي محتوى، بله الحديث عن طبيعة خاصة لهذا القص يمايزه عن القص الأسطوري هدفًا وصدقًا ومنطقًا.

أما بالنسبة لقراءة القصص انطلاقًا من «وحدة القصص» فربما هي القراءة الأشهر والأوسع انتشارًا حتى خارج دائرة المفسرين. في الفكر المعاصر وبسبب مركزية إشكالات مثل التقدم والتأخر والتاريخ والتغيير، حاول البعض قراءة القصص القرآني في وحدته كأساس لفهم هذه الإشكالات، ونحن نجد تناول القصص القرآني من هذا المنظور في قراءة تمثل أحد أهم المنعطفات في تاريخ التفسير المعاصر وهي قراءة باقر الصدر.

يقرأ باقر الصدر القصص القرآني على اعتبار أنه في مجمله يقدم رؤية للتاريخ الإنساني، رؤية لقوانين وسنن هذا التاريخ. فرغم أن القرآن ليس كتاب علم كما يؤكد الصدر، فلا نجد فيه أصول الفيزياء ولا الكيمياء، لكن سنن التاريخ تعد استثناء، حيث أنها مرتبطة بماهية القرآن كـ «كتاب هدي»

[12]

، هذا الهدي الذي يجعل مهمة القرآن التغيير، يجعل كشف مبادئ التغيير أمرًا لابد أن يقوم به القرآن، وأحد طرق القرآن الرئيسة للقيام بهذا هو القصص، فهي التي تعرض لنا سنن التاريخ «الشرطية» و«التوجيهية».

فالمعنى الأعمق للقص القرآني لا يكمن في سورة واحدة ولا في قصة واحدة، بل في مجمل القصص القرآني كوحدة واحدة.

هذه القراءة لها بالطبع مزية الحفاظ على وحدة القصة، بل ووحدة القصص القرآني؛ مما يحفظ للقص القرآني سمة الوحدة والاتساق، وهي محدد أساس يبرزه القرآن دومًا كفارق بينه وبين غيره من الكتب، والأهم أنه فارق ممكن استفادته كذلك من الحقل الدلالي لمفهوم «قص» القرآني والمحدد بمفاهيم الحسن والصواب والحق والتدبر. لكن ربط القصص بالتاريخ وبهدف بيان سننه هذا، أخرج عددًا كبيرًا من القص القرآني مثل الأمثال (القصص التمثيلي بتعبير خلف الله) ومثل قصص الخلق وقصص المعاد عن هذه القراءة، مما يجعلنا بعيدين عن الإحاطة بكل أبعاد القص القرآني وبالتالي يبعدنا عن كشف طبيعة هذا القصص الذي لا يقتصر أبدًا على قص تاريخ الأمم بل يتعداه ليطابق مضمون المعتقد، فالقصص ليس جزءًا من الدين بل هو «الدين مسرودًا».

لو انتقلنا من الوحدات الأصغر للوحدات الأعمق فنسجد أن أهداف القص القرآني هي نفسها لكن أصبحت أكثر تركيبية، كذلك الاهتمام بكشف العلاقة بين التاريخ والقصة القرآنية يصبح أكثر أهمية وتركيبية، فهل هذا يقربنا ولو قليلا من كشف الطبيعة الخاصة للقص القرآني؟


الوحدات العميقة: محمد شحرور وأبو القاسم حاج حمد



هذه الرؤية وإن كانت توسع القصص قليلاً ليدخل فيها ما يسميه شحرور بـ «القصص المحمدي»، فإنها تظل في قراءتها القصص محصورة في القصص النبوي متجاهلة قصص الخلق والمعاد

يقرأ شحرور القصة من خلال «وحدة النبوة». فشحرور يقرأ النص القرآني عبر وحدتين كبيرتين؛ النبوة والرسالة. النبوة موضوعية ومهمتها التفريق بين الحقيقة والوهم، والرسالة ذاتية مهمتها التفريق بين الحق والباطل. والقصص وفقًا لشحرور هي جزء من «النبوة»، وليس من «الرسالة» أو من «أم الكتاب». لذا فإن وظيفة القصة وفقًا لهذا التقسيم من شحرور ليست تشريع حلال أو حرام ولا فرض وصية ما، بل إن القصة القرآنية وظيفتها عرض موضوعية الحدث التاريخي بنزع الخرافة من الأسطورة، وقص الحق فقط؛ لبيان تفاعل الإنسان وجدله مع التاريخ.

ومهم هنا التأكيد على أن شحرور لا يعتبر القصص موضعًا لاستخراج قوانين موضوعية للتاريخ – فهي ليست جزءًا من «اللوح المحفوظ- القرآن المجيد» -، بل هي فحسب تؤرشف في «القرآن-الإمام المبين» تاريخًا إنسانيًا وقع وفقا لقوانين موضوعية مركزها إرادة الإنسان الحرة

[13]

.

هذه الرؤية وإن كانت توسع القصص قليلاً ليدخل فيها ما يسميه شحرور بـ «القصص المحمدي»، فإنها تظل في قراءتها القصص محصورة في القصص النبوي متجاهلة قصص الخلق والمعاد – خصوصًا أنه يفصلهما، فالخلق والمعاد عنده جزء من اللوح المحفوظ وليس من الإمام المبين.

كذلك فإنها برفضها كون القصص أساسًا لاستخراج أي قوانين تشريعية أو سنن تاريخية وحصر مهتمها على «العظة» و«العبرة» من قصص مراجعة نقديًا – مع ملاحظة تعقد مفهوم العظة ومضمونها عنده – فإنها لا تقوم بالخروج على هذا الأساس في التفريق بين الأسطورة والقص كفارق في الصدقية والعبرة بالأساس، وبالتالي لا تستطيع تقديم أي إفادة في بيان الطبيعة الخاصة للقص القرآني التي لا تنحصر أبدًا في مجرد صدق القصص وعظتها.

أما أبو القاسم حاج حمد فيقدم في كتابه «منهجية القرآن المعرفية»، قراءة لعدد من قصص القرآن؛ قصة إبراهيم وقصة موسى وقصة موسى والعبد الصالح وقصة ذي القرنين وفقًا لوحدة القرآن المنهجية. هذه القراءة تنطلق من عدد من المحددات لا بد من ذكرها بداية: أولًا أن القرآن يحمل منهجية معرفية تجمع بين جدل الغيب والواقع والإنسان، وأن ثمة فارقًا نوعيًا في الرسالات بحكم تطور الوعي الإنساني. فالشريعة المحمدية نسخت الشريعة الموسوية أو «الظاهرة الإسرائيلية» لتعلن حاكمية الكتاب بمنهجيته المعرفية وأرضه المحرمة وأمته الشاهدة وشريعة التخفيف والرحمة بدلًا من الحاكمية الإلهية القائمة على التدخل الإلهي بتقديس الأرض والشعب والمعجزة الحسية وشريعة الإصر.

وفقًا لهذه المحددات والمنطلقات، يقرأ حاج حمد قصص إبراهيم وموسى وموسى والعبد الصالح، على أنها تطور لمستويات منهجية «الجمع بين القراءتين»؛ قراءة الكون المسطور (القرآن) والكون المنظور (العالم)، التي تجلت في القرآن من لحظة «اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق». المستوى الأول هو التأليف بطريقة توفيقية، والثاني التوحيد بطريقة عضوية، والثالث الدمج برؤية أحادية. الأولى يمثلها إبراهيم القارئ لعالم المشيئة الالهية الذي يصل لله عبر تأمل حركة الوجود، والثانية يمثلها موسى الذي أُعِد لقراءة عالم الإرادة المقدسة حيث ينتقل من قوانين التشيؤ السببية لربطها بالإرادة الإلهية الخارقة، والثالثة يمثلها محمد قارئ عالم الأمر المنزه حيث الأمر الإلهي المطلق الذي لا يتمظهر في قوانين التشيؤ المبارك ولا باقترانية الفعل الإرادي المقدس وإنما يطلق ويهيمن على الوجود كله

[14]

.

و يعتبر حاج حمد قصة موسى والعبد الصالح استعادة لهذه المراتب الثلاثة، ويقرأ قصص إبراهيم ومجمل قصص موسى انطلاقًا من هذه المستويات الثلاثة لمنهجية الجمع بن القرائتين.

هذه القراءة تجمع القصص القرآني في خيط واحد، وتقرأه كجملة واحدة، لها هدف كشف سنن التاريخ، لكن بمعنى أكثر تركيبًا للسنن، حيث يكشف الفارق بين قوانين «الأمر المطلق» و«قوانين الإرادة المقدسة» و«قوانين المشيئة المباركة»؛ لتكون أساسًا لمنهجية معرفية أودعها الله كتابه الخاتم المنزل في أرضه الحرام للأمة المخرجة الشاهدة.

رغم مزايا هذه القراءة، إلا أن حاج حمد يقتصر على اعتبار هذا القصص معبرًا عن مضمون منهجية القرآن المعرفية وكاشف لمراتب «الجمع بين القراءتين»، دون بيان أثر هذه المنهجية والسارية في كل القرآن على «السرد القصصي القرآني» نفسه، وكيف تؤثر على اختلاف القصص القرآني عن الأساطير البابلية وعن القصص التوراتي (المرتبط بمستوى آخر من هذه المنهجية المعرفية وفقًا لحاج حمد).

فرغم شيوع المقارنة في كثير من الكتابات المعاصرة بين قصص التوراة وقصص القرآن – نجد هذا مثلا عند مالك بن نبي في الظاهرة القرآنية، كذلك عند الطبطبائي في التفسير – إلا أننا لا نجد مثل هذه المقارنة عند حاج حمد الذي تقوم رؤيته على أن ثمة فارقًا في المنهجية المعرفية في القرآن عن التوارة!.

لذا فرغم مزايا هذه القراءة وطرافتها المدهشة وإصرارها على تفريق القصص القرآني عن الأساطير انطلاقًا من سمات خاصة للنص القرآني ومنهجيته المعرفية، إلا أنها لا تتجاوز في تطبيقها هذه المنهجية تأويل مضمون القصص، فلا تحاول استثمارها لبيان الفارق بين طبيعتي السرد القصصي والسرد الأسطوري-السرد البابلي-السرد التوراتي.


من القصص القرآني إلى النظام السردي الإسلامي



هذه القراءة تجمع القصص القرآني في خيط واحد، وتقرأه كجملة واحدة، لها هدف كشف سنن التاريخ، لكن بمعنى أكثر تركيبًا للسنن

إذن فكل هذه الوحدات على اختلاف منطلقاتها ورؤاها ظلت مقتصرة في التفريق بين القصة والأسطورة على أساس الأهداف – مع تعدد هذه الأهداف و درجة تركيبيتها طبعًا كما شاهدنا – والصدقية التاريخية، وهو كلام لا نعدم وجودا له عند كثير من أئمة التراث الذين أقاموا ذمهم القُصَّاص على أساس من عدم صدقية قصصهم وخلوه من هدف إلا التسلية

[15]

.



يرى عبد الله إبراهيم أن دراسة مواجهة القرآن للأسطورة، لابد أن تتم في إطار دراسة مواجهة القرآن لمجمل النظام السردي الجاهلي

وإذا كانت نفس هذه الأهداف تعرضت بلا شك لتركيبية أكثر في القراءات المعاصرة بسبب وصل القصة القرآنية بإشكالات أخرى مثل التاريخ وسننه والعقل والنبوة والمنهجية القرآنية، وهي إشكالات مركزية تمامًا في الفكر العربي الحديث والمعاصر تركت بصمتها على قراءته للقصص القرآني، لكن هذا الاقتصار على «هدفية القصة وصدقيتها» مع كل تركيبته أدى في الأخير لعدم استطاعة الوحدات المعاصرة الوصول لتحديد الفوارق الأكثر جوهرية بين السردين القصصي والأسطوري، التي تجعل لكل منهما طبيعة خاصة تتجاوز كثيرًا الصدقية والعلاقة بالتاريخ.

ونحن نستطيع إرجاع هذا لطبيعة هذه الوحدات المفترضة، فقرآنية هذه الوحدات تجعل علاقة القصة بالنظام العقدي مقتصرة على كون القصص تكرس القيم الدينية والأخلاقية أو تدعو لها أو تكشف سنن التاريخ أو منهجية القرآن. هذا التصور للقصص كأداة يحرمه من ارتباط أعمق بـ «الدين»، يصبح القصص فيه حاملاً، في بنيته السردية، نفسها ملامح النظام العقدي للإسلام.

ونحن نجد التفاتًا لهذا الأساس (علاقة البنية السردية بالدين)، في التفريق بين القصة والأسطورة خارج دائرة المفسرين تمامًا؛ تحديدًا عند المهتمين بالسرد. فنجد التفاتتين لهذا الربط بين بنية السرد وبين الدين عند عبد الله إبراهيم في «موسوعة السرد»، وعند ياروسلاف ستينكيفتش في «العرب والغضن الذهبي».

فيرى عبد الله إبراهيم أن دراسة مواجهة القرآن للأسطورة، لابد أن تتم في إطار دراسة مواجهة القرآن لمجمل النظام السردي الجاهلي. فالقرآن يواجه الأسطورة كما الشعر كما الكهانة، كنظام سردي محمل بالعقائد الدينية الجاهلية، ومشوش على النبوة ووظائفها في سرد الغيب وبيان الحق وارتباطها بالدين الجديد. لكن رغم تفصيل إبراهيم الجيد في هذا ودرسه لمجمل هذا الصراع، جاهلية/إسلام، أسطورة/قصة، في القرآن وفي تاريخ الدعوة – مواجهة النبي للنضر الذي قتل كأسير حرب –

[16]

، إلا أن ربطه هذه الطرق السردية بالدين الجاهلي يظل غامضًا، بحيث يوحي بأن مواجهة الإسلام لها كان فحسب لكونها مستخدمة جاهليًا؛ كأن يقتصر الأمر على الهيمنة النصية، وليس كون الأسطورة لا تناسب نظام الإسلامي العقدي لكون «الجاهلية» جزءًا من بنيتها السردية.

هذا الالتفات لجاهلية البنية السردية للأسطورة نجده عند ياروسلاف ستيكيفتش، حيث «الجهل» بمعنى: ضد الحِلم، جزء رئيس عنده في بينة الأسطورة، يجعلها حتمًا جاهلية، فلا تتفق مع الإسلام المتأسس على التسليم والحلم والتعقل حيث ينافر الإسلام بنيتها السردية «الجاهلية»

[17]

، لذا كان لابد للإسلام أن يواجهها، ويحل محلها القصة في نظامه السردي.

ما نحاول القيام به هنا هو الاستفادة من هاتين الالتفاتتين لتطوير نظرة خاصة للفارق بين السردين الجاهلي والإسلامي، فندرس مواجهة الإسلام للأسطورة كجزء من مواجهة كل النظام السردي الجاهلي، لا لمحض حضور الأسطورة كأداة سردية للدين الجاهلي، بل لما في هذا النظام السردي من «جاهلية»، لكن مع توسيع معنى «جاهلية» هذا النظام السردي، ومعنى إسلامية النظام السردي القصصي، فلا نقتصر على متقابل جهل/حلم كما يرى ستينكيفتش، بل نحاول بحث صلة النظام السردي الجاهلي بالنظام العقدي الجاهلي، وصلة النظام السردي الإسلامي بالنظام العقدي الإسلامي، أو بمعنى آخر: «توسعة البحث في أطر مفهوم القص القرآني»، لنكتشف لماذا كان على الإسلام إحلال «القصة» محل «الأسطورة»؟.

وهذا عبر طرح وحدة جديدة لقراة القصص، وحدة ليست جزئية أو عميقة، بل هي وحدة تأتي من خارج القرآن، هي «وحدة الدين الأساسية» بتعبير السواح، والمتشكلة من نظام الإسلام العقدي ونظامه السردي ونظامه الشعائري كثلاثة وجوه لبنية دينية أساس.

هذه الوحدة تفيدنا كثيرًا في تجاوز كثير من قصور الوحدات السابقة، فهي، أولًا، توسع تمامًا معنى القص القرآني، ليدخل فيه قصص الخلق والمعاد والأمثال، بل ووصف الله

[18]

، فكل هذا جزء من الجانب السردي من الدين، أو فلنقل الوجه السردي للدين، حيث النظام السردي وفي قلبه القصص ليس جزءًا من الدين ولا مجرد أداة لتكريس المعتقد، بل هي الدين مسرودًا، مثلما الشعائر هي الدين معاشًا؛ مما يحتم شمولها.

وثانيًا، فوصلها القصص بالنظام العقدي والنظام الشعائري يستطيع أن يضيء لنا كثيرًا من مساحاته عن طريق كشف علاقاته بالشعائر من جهة وبالمعتقد من جهة أخرى، وبالتالي فإن الانطلاق من خلال هذه الوحدة سيساعدنا كثيرًا في ما لم تتمكن منه الوحدات السابقة؛ أي كشف «الطبيعة الخاصة للقص القرآني».



[1]

نحن نجد هذا النقد عند محمد عبده وعند رشيد رضا وعند الألوسي، وممكن استفادته كذلك من مقدمات ابن عاشور لتفسيره، حيث حاول التقليل من دور المرويات عموما، وحيث حاول إخراج مهمات سرد التاريخ والتوسع فيه من مهمات التفسير، كذلك نستطيع أن نرى هذا بوضوح في تفسير الظلال، حيث يقلص قطب أهمية الإسرائليات، بل يعتبرها مشوشة على القص القرآني، كذلك نجد مثل هذا الإعراض عند الشنقيطي والسعدي في تفسيرهم وعند ابن العثيمين في أصول التفسير، كذلك في الإطار الشيعي نجد نفس الإعراض عند باقر الصدر وعند الطبطبائي في الميزان وعند ناصر مكارم الشيرازي في الأمثل وغيرهم من المفسرين.

[2]

الموقف من الإسرائيليات ليس واحدًا من حيث منطلقاته، فأحيانًا يكون منطلقه عقلنة الدين ونزع الخرافة، وأحيانًا ينطلق من القراءة العقلانية للدين، وأحيان أخرى من حاكمية النصوص وكفايتها، وأحيانًا ينطلق من حاكمية القرآن.

[3]

من الممكن في هذا الإطار الإشارة لكتاب تهامي العبدولي «النبي إبراهيم في الثقافة العربية الإسلامية»، حيث يدرس العبدولي حضور إبراهيم في مدونات ممتدة زمنيًا ومتنوعة معرفيًا (ومنها التفاسير وكتب القصص) ومختلفة أيديولوجيًا (مدونات السنة ومدونات الشيعة)، يبرز فيها مدى التغيرات والتعديلات التي أصابت قصة إبراهيم القرآنية انطلاقًا من مصادر من خارج القرآن مثل الأساطير البابلية والقصص التوراتي وأحيانًا بقراءات تدمج قصة إبراهيم في قصص غيره من الأنبياء من داخل القرآن.

[4]

العنف والمقدس والجنس في الميثولوجيا الإسلامية، تركي علي الربيعو، ص33.

[5]

بالطبع هناك من يثمن هذه القراءة للقصص ووصله بالإسرائليات، باعتباره جهدًا تأويليًا يفتح القصص القرآني على آفاق المدهش والعجيب ويصله بالمشكلات الحدية، الجنس، الموت، مثل الربيعو. أما الموقف الرافض لخلط القرآن بالإسرائليات فلا يقتصر على اعتبار الخلط مشوشًا على عظة القصة أو خارق لمبدأ كفاية النصوص، بل كذلك باعتباره مشوشًا على المنهجية القرآنية ولبناتها المفاهيمية، ونحن نجد هذا في نقد أبو القاسم ونقد العلواني لاستخدام التفاسير للإسرائليات.

[6]

بالإضافة للوحدة الموضوعية للقرآن، والوحدة الموضوعية للسورة، ثمة الوحدة البنائية عند العلواني، كذلك هناك «الوحدة العضوية» أو الفكرية، وهناك كذلك من يخص تفسير الظلال بنوع خاص من الوحدة يسمى بـ «الوحدة النسقية»، انظر منهج التفسير الموضوعي، سامر رشواني، ص235.

[7]

موسوعة السرد العربي، عبد الله إبراهيم، ص110، 111.

[8]

هل قرأنا القرآن، يوسف الصديق، ص232.

[9]

بالطبع إشكال علاقة القصة بوحدة السورة، إشكال قديم، تعرض له البقاعي على سبيل المثال، لكن الحديث سواء عند البقاعي أو أي من المفسرين المعاصرين بعد هذا (مثل ابن عاشور) هو عن علاقة لا تهدر البنية الأصلية للقصة، فمناسبة ذكر قصة بشكل ما في أحد السور يعمل على تشكيلها وانتقاء ما يحكى وما لا يحكى، لكنه لا يغير القصة وشخصايتها تغييرا تاما كما عند الصديق.

[10]

يتحدث إيكو عن امتلاك الشخصيات التخيلية لملامح دقيقة تجعل من غير الممكن التشكيك في مآلاتها بنفس طريقة التشكيك في حدث تاريخي لم يحسم، فالملامح الدقيقة لشخصية مثل آنا كارنينا تجعل أي ادعاء بزواجها من بيار بيزخوف غير مقبول لأنه يخالف الشرعية التجريبية الداخلية للنص، في حين يمكن قبول التشكيك في طريقة موت هتلر. هذه الملامح الدقيقة تجعل للشخصيات التخيلية وجودًا مستقلًا عن التوزيع النصي الأصلي، ويجعل بالإمكان هجرتهم بين العوالم النصية، حيث يحتفظون بوجودهم رغم هذا الانتقال، فالشخصية تظل هي هي طالما تحافظ على ملامحها التشخيصة مهما تعددت العوالم النصية (انظر فصل الشخصيات التخيلية في كتابه «اعترافات روائي ناشئ»).

[11]

ولعل هذا واضح في كون الصديق يطابق قصة موسى وفتاه مع قصة من قصص الإسكندر ذكرها المؤرخ كاليستينس، وهذا انطلاقًا من اعتقاده بوجوده «مساحة هيلينة» في القرآن، هل قرأنا القرآن، ص132، 133.

[12]

التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، باقر الصدر، 49.

[13]

القصص القرآني قراءة معاصرة، محمد شحرور، ص، 123، 199، 200.

[14]

منهجية القرآن المعرفية، أبو القاسم حاج حمد، ص179، 180، 181.

[15]

موسوعة السرد العربي، من ص129 إلى ص148.

[16]

موسوعة السرد العربي، ص114.

[17]

العرب والغصن الذهبي، ياروسلاف ستينكيفتش، ص40.

[18]

هناك بالطبع من يربط كل قصص القرآن في سياق واحد ولا يقصر حديثه على القصص النبوي، بل يتعداها لقصص المعاد؛ مثل خلف الله ومثل سيد قطب، لكن هذا فحسب من معايير أدبية وجمالية.