حينما يخطئ مواطن في سرد تاريخ بلاده، هو ليس مختصًا ولا بين السطور ما يمكن أن يقال عن تفسير خطئه. أما إذا كان مسئولاً، يتولى بالأساس حماية الجدار الثقافي للأمة، فهذا ما لا يمكن تبرئته مهما كانت الدوافع التي جبلته على ذلك.

ونعني هنا حلمي النمنم، وزير الثقافة المصري، الذي ألف تاريخًا جديدًا أثناء إلقاء كلمة مصر، في افتتاح مهرجان الثقافة والتراث السعودي «الجنادرية»، والتي أكد فيها أن العلاقات بين مصر والسعودية حكمتها روابط الأخوة، بين الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، والملك فؤاد الأول ملك مصر، في مغالطة تاريخية لا يمكن أن تخطئها الأذهان.

ولا يعرف أحد إن كان «النمنم» اختلق حميمية كاذبة بين ملكي مصر والسعودية اللذين تصارعا حتى الموت، من باب محاولات الإطراء التي غلّفت علاقات البلدين خلال المرحلة الماضية، لإعادة الود مرة أخرى، وإذابة جبال الجليد التي تراكمت إثر المواقف السياسية المتباينة، أم لعدم مراجعة الوزير تاريخ العلاقات بين الملك فؤاد ونظيره عبد العزيز آل سعود، صياغة خطاب مصر وتنقيحه تاريخيًا، لاسيما وأن صراع الملكين كان حديث كافة كتب التاريخ، ولم ينتهِ إلا بوفاة ملك مصر، وتولي نجله فاروق. ونكتفي هنا بنقل 3 مشاهد من تاريخ طويل، تحكي بوضوح لماذا تعتبر سقطة وزير الثقافة في حاجة إلى تأمل ومراجعة.


«الخلافة»: أصل الصراع بين فؤاد وعبد العزيز

في 3 مارس/آذار 1924، أعلن كمال أتاتورك إلغاء الخلافة العثمانية، وكان حدثًا تاريخيًا له أصداء واسعة وخاصة في العالم الإسلامي، خاصة وأنه كان مستقرًا حينها في وجدان المسلمين، أن الخلافة ركن من أركان الإسلام، ولا يمكن أن يظل المسلمون بلا خليفة لأكثر من ثلاثة أيام، بل إن البعض كان يعتقد أن من يموت ولم يبايع خليفة أو أميرًا، مات ميتة جاهلية، وهي نفس اعتقادات بعض الجماعات الإسلامية حتى الآن.

تطلع كافة حكام المسلمين وقتها للاستحواذ على المنصب الأهم في العالم الإسلامي، ولكن لم تتوافر أسباب القوة إلا لثلاثة منهم؛ الأول الشريف حسين بن علي، ملك الحجاز، وكان يسيطر على الأماكن المقدسة، فضلاً عن تزعمه الثورة العربية على العثمانيين منذ عام 1916، إلا أن علاقته بالإنجليز وتخبطه في إدارة الحجاز خلقت معارضة قوية له في سائر بلدان العالم الإسلامي، لتنحصر المنافسة آنذاك بين الملك فؤاد، وسلطان نجد، عبد العزيز آل سعود.

اعتمد فؤاد على ثقل مصر الحضاري في قلب العالم العربي والإسلامي، فضلاً عن كونها بلد الأزهر بمكانته الدينية العريقة، والذي وجه بدوره دعوة رسمية إلى العالم العربي والإسلامي في 25 مارس/آذار 1924 لحضور مؤتمر بالقاهرة بعد عام من تاريخ توجيه الدعوة؛ لبحث أمر الخلاقة واختيار خليفة للمسلمين.

مؤتمر الخلافة في القاهرة لم يلاقِ قبول عبد العزيز آل سعود، الذي لم يكن لُقب ملكًا بعد، ولم تكن له سيطرة على الأماكن المقدسة ما يمكنه من منافسة الملك المصري، وهو الأمر الذي حسمه على الفور، ودعا إلى مؤتمر عام شيوخ القبائل وفقهاء المذهب الوهابي؛ للحصول على الحجج الشرعية لغزو الحجاز، لتخليص بيت الله من أيدي «الهاشميين» بعدما اتهمهم أنهم يحولون بين مسلمي نجد، وأدائهم لفريضة الحج.

وبالفعل استطاع عبد العزيز الاستيلاء على أرض الحجاز كاملة في ديسمبر عام 1925، وأسقط حكم الهاشميين نهائيًا، ليبدأ معركة من نوع خاص مع الملك فؤاد، استمرت لمدة عشر سنوات وتحديدًا بعد أن رفضت مصر الاعتراف بالدولة السعودية الوليدة، ليختمر الصراع بين الملك فؤاد الأول وعبد العزيز آل سعود، للاستحواذ على لقب خليفة المسلمين.


مواجهة من نوع خاص بين الليبرالية والوهابية

مؤتمر القاهرة لبحث أمر الخلافة قاطعه الملك عبد العزيز بعدما استقرت له الأحوال، وصار يملك حجة ووصاية على الأماكن المقدسة ترجح كفته أمام الملك المصري الذي كان يحكم بلدًا متنوع الثقافة، ويميل إلى الانفتاح على العالم، ويضم أبناؤه خلفيات ثقافية غربية، لدرجة أن رموز الفكر والقانون وقتها رفضوا علنيًا فكرة إعادة إحياء الخلافة.

واعتمد الرافضون للحكم الديني على المعركة التي دارت حول كتاب للشيخ علي عبد الرازق، أحد علماء الأزهر، والذي أسماه «الإسلام وأصول الحكم» وظهر للنور في خضم المعركة بين فؤاد وعبد العزيز، وانتهى فيه إلى أن الخلافة ليست من أصول الحكم في الإسلام؛ ما فجر حالة من الغضب انتهت بإحالته للمحاكمة، وسط تضامن واسع من المفكرين والمثقفين، لدرجة أن عبد العزيز باشا فهمي، وزير الحقانية وقتها، استقال من منصبه لمساندة عبد الرازق في معركته، وتضامن معه عباس محمود العقاد وسلامة موسى وعدد من أعلام الفكر والثقافة المصرية والعربية.

وجد الملك عبد العزيز المعركة المصرية المشتعلة حول الخلافة أرضًا خصبة للدعوة إلى مؤتمر آخر في مكة؛ ما ساهم في فشل مؤتمر القاهرة، لتقلب مصر بدورها الطاولة على الملك السعودي، ورفضت هي الأخرى المشاركة في مؤتمر مكة ببادئ الأمر، ثم قررت تغيير موقفها، وأرسلت الشيخ محمد الأحمدي الظواهري، شيخ الأزهر الذي هاجم الحكم السعودي الجديد في معاقله، واعتبره غير مؤهل لحماية المقدسات الإسلامية، لاسيما وأن العقيدة الوهابية تقضي بإزالة القباب، وهدم الأضرحة فضلاً عن التعصب ضد المذاهب الأخرى.

نجح الظواهري في إثارة انشقاق داخل المؤتمر بعدما أعلن رفض الأزهر الاعتراف بسلطة آل سعود على الأماكن المقدسة، ورفض تمكينهم من الأوقاف الإسلامية الخاصة بالحرمين الشرفين، لينتهي مؤتمر مكة بفشل الملك السعودي في الحصول هو الآخر على اعتراف إسلامي بشرعية حكمه للحجاز، ليتأجل الصراع بين ملكي مصر والسعودية على منصب الخلافة.


حادثة المحمل والفراق حتى الموت

في أول موسم حج عام يتولاه الملك عبد العزيز بعد دخوله الحجاز، 1925م، اعترض علماء نجد على مظاهر البدع التي كانت تصاحب «محمل الحجاج المصريين» من موسيقى وأبواق، وغيرها من الطقوس التي اعتاد عليها المصريون، لتهاجم جماعة الإخوان الوهابية المحمل المصري، وتحدث فيه إصابات، ليصدر قائد الحج المصري، اللواء محمود عزمي باشا، أوامره لفرقة الجيش المصاحبة للمحمل بإطلاق النار عليهم.

وسقط من جراء المواجهة مع القوة العسكرية المصرية، ما بين خمسة وعشرين إلى أربعين قتيلاً من الإخوان، وكادت أن تحدث فتنة بين المصريين والنجديين، إلا أن الملك عبد العزيز وابنه الأمير فيصل، حافظا على رباطة جأشهما، وانتهت الأزمة بعودة قائد المحمل ورجاله سالمين إلى مصر، حسب رواية الموقع الرسمي للملك فاروق، في حين أن مراجع أخرى أكدت أن أمير الحج المصري، هو الذي أمر بعدم استكمال رحلة المحمل وأخطر بذلك الحكومة المصرية، وعاد من طريق ميناء جدة، لتفادي مواجهة جديدة مع عربان الجزيرة المتشددين.

ولم تفلح خطة عزمي باشا في تفادي المواجهة مرة أخرى، إذ ترصد لهم العربان من جماعة الإخوان الوهابية عند مضيق جبلي قبل جدة، وعاودوا الهجوم على الحجاج المصريين؛ ما جعل القوة العسكرية تعاود فتح النار عليهم، وكانت وقتها تضم مدفعية بطارية حديثة، مجهزة بأربعة مدافع متطورة لم يكن للسعوديين قبل بها؛ ما أوقع في صفوفهم نحو 250 قتيلاً وجريحًا، وأجبروا على الفرار، وإثر هذه الواقعة استقبل الوفد المصري في القاهرة استقبالاً رسميًا وشعبيًا.

غضب الملك فؤاد بشدة من مهاجمة البدو السعوديين للمحمل المصري، واعتبر الأمر تحديًا شخصيًا له، فأمر بمنع إرسال كسوة الكعبة المشرفة التي اعتادت مصر على إرسالها في كل عام، كما أوقف صرف واردات الأوقاف العائدة للحرمين الشريفين، فاضطرت السلطات السعودية لصناعة كسوة الكعبة لأول مرة محليًا، واعتمدت على خبرة بعض المسلمين من الهنود المقيمين بمكة المكرمة.

ووضعت مصر مجموعة من الإجراءات العقابية على الدولة السعودية الوليدة، وشملت رفض الترخيص لتجار الخيول والإبل من النجديين والحجازيين بحمل قيمة ما يحصلون عليه من أموال إلى السعودية، بدعوى رفض تبديد احتياطي مصر من الأموال والذهب في الخارج.

كما أوقفت مصر بعثتها الطبية التي كانت تقوم بالعبء الأكبر في مواجهة الأمراض والأوبئة في الحجاز، وخاصة في موسم الحج؛ ما ترتب عليه تدهور الحالة الصحية للحجيج، كما أوقف فؤاد الصدقات السنوية التي كانت ترسلها مصر لفقراء الحجاز، وهو الأمر الذي أشعل الغضب في نفوس الكثير من المصريين، الذين اعترضوا على ربط المعونات المصرية بمواقف سياسية، وأبرز من قاد حملة معارضة في الصحافة المصرية ضد الإجراءات العقابية المشددة كان الشيخ رشيد رضا، كما قاد عبد الرحمن عزام، عضو البرلمان المصري، حملة برلمانية لإعادة المساعدات المصرية لفقراء الحجاز.

كل ذلك لم يثنِ الملك فؤاد عن الانتقام من آل سعود، بل امتدت نار غضبه ليرفض الاعتراف حتى بالوكالة السياسية التي كانت تمثل الملك عبد العزيز في القاهرة، ورفض تحويلها إلى قنصلية عامة تتمتع بالميزات التي كانت تتمتع بها القنصلية المصرية العامة في جدة، ولم يفلح عبد العزيز في إقناع فؤاد بتغيير موقفه غير الودي، ليأمر هو الآخر في عام 1929 بإغلاق القنصلية المصرية في جدة، ليعود القنصل المصري إلى بلاده، وبقيت القنصلية مغلقة، إلى أن توفي الملك فؤاد في أبريل/نيسان 1936، لتبدأ مصر والسعودية علاقات مختلفة تدريجيًا بتولي الملك فاروق عرش مصر.

كان يمكن لوزير الثقافة المصري اختيار ديباجة لخطابه، تعبر عن الرغبة في التقارب بين أكبر بلدين في الشرق الأوسط، وعموديْ الخيمة العربية والإسلامية دون أن يورط نفسه في مغالطة تاريخية، ربما لم يستشعر معها أن الأذهان الساكنة أمام خطابه لا تعني بالضرورة أنه يستطيع تحريكها باختلاق الوقائع وتزييف التاريخ.


المراجع



  1. كتاب رشيد رضا الامام المجاهد للكاتب إبراهيم العدوي

  2. حركة التجديد الإسلامي

  3. كسوة الكعبة المشرفة

  4. الحركة السياسية في مصر

  5. تاريخ المملكة العربية السعودية