كنتُ أخطأتُ بيان ذلك في طبعتي السالفة من الطبقات، فجاءتْنِي مِن الأرض المُقدَّسةِ التي دنَّستْها يهود، رسالةٌ رقيقةٌ من (م . ي . قسطر) فدلَّني على الصواب الذي ذكرتُه آنفًا، فمن أمانة العِلم أذكرُه شاكِرًا كارهًا لهذا الذِّكْر.

العلامة أبو فهر محمود محمد شاكر في شكره للمستشرق الصهيوني مائير قسطر لتصحيحه خطأ وقع فيه.

ما تزال دراسة مجال الاستشراق بالرغم مما كتب فيها تحتاج إلى مزيد من البحث، وإلى طرق جوانب مغفولة في هذا المجال. ومن أكثر الجوانب التي يتجلى فيها القصور في الدراسة هي تراجم المستشرقين، فإن المحتوى العربي ما زال يفتقر إلى معلومات مخصصة في تراجمهم، تشملهم منذ نشأة هذا المصطلح في العصر الحديث حتى يومنا هذا، وتذيل بملاحق تشمل العصور اللاحقة بعد.

إن المستشرقين لم ينقطعوا عند مرجليوث أو جولدتسيهر، أو نولدكه، وأضرابهم، بل تشعبت دراساتهم وتخصصاتهم، ومناهجهم. ومن أكثر المستشرقين الذين أغفلهم المحتوى العربي من الاهتمام المستشرقون الإسرائيليون، على الرغم من أنهم من أنشط المستشرقين في دراسة العلوم العربية والإسلامية، ومن أكثرهم تأثيرا على الوضع العربي الراهن؛ بحكم قوة تأثير كيانهم الصهيوني في الوضع العربي، لكونهم يعملون من أجل إمداد المراكز البحثية التابعة للأجهزة السياسية بما يعينهم على اتخاذ القرار.


قصتي مع قسطر

كان لي اعتناء كبير بالأستاذ العلامة محمود محمد شاكر رحمه الله، ومما اعتنيتُ به التعريف بالأعلام الذين ذكرهم في كتاباته وهم كثر، وهذا الأمر لم يكن يكلفني أكثر من البحث في مصادري المعتادة، لكني وقفت كثيرا عند أحد الأعلام الذين ذكرهم في تعليقه على كتاب «طبقات فحول الشعراء» لابن سلام الجُمَحي، في موقف جليل منه أورده أولا قبل الإتمام. يقول أبو فهر رحمه الله: «وكنتُ أخطأتُ بيان ذلك في طبعتي السالفة من الطبقات، فجاءتْنِي مِن الأرض المُقدَّسةِ التي دنَّستْها يهود، رسالةٌ رقيقةٌ من (م . ي . قسطر) فدلَّني على الصواب الذي ذكرتُه آنفًا، فمن أمانة العِلم أذكرُه شاكِرًا كارهًا لهذا الذِّكْر».

كنتُ أقف حائرا أمام هذا المستشرق الذي أجبر أبا فهر على شكره وهو من هو في بغضه للمستشرقين، فكيف بمستشرق إسرائيلي مغتصب للأرض! حاولتُ البحث عنه باللغة العربية فلم أظفر بأكثر من هذا الموقف، ثم بحثت بالإنجليزية فوجدت محتوى جيدا في التعريف به، ووجدت موقعا على الشبكة المعلوماتية مخصصا له، وعجبتُ من إغفال الباحثين في الاستشراق لهذا الرجل، فمن م. ي. قسطر؟

هو البروفيسور الأوكراني الأصل مائير يعقوب قسطر (كستر) ( Meir Jacob Kister)، الشهير بـ (م. ي. قسطر) أو (م. ج. قسطر) (M.J.Kister). وُلد في 16 يناير 1914 في غاليسيا بأوكرانيا، ودرس في سانكو. انتقل عام 1932 إلى مدينة لفيف غربي أوكرانيا لدراسة القانون، ولكن ترك دراسة القانون للذهاب والعيش في وارسو عاصمة بولندا، وعندما احتل النازيون بولندا عام ١٩٣٩م، رحل إلى فلسطين هربا منهم، وظل والداه في بولندا وقتلا على يد النازيين، وفي عام 1940م بدأ يتعلم اللغة العربية وآدابها في قسم الحضارة الإسلامية في الجامعة العبرية في القدس، وفي أثناء دراسته الجامعية عمل مترجمًا من اللغة العربية إلى اللغة البولونية.


جهوده في تأسيس الاستشراق الإسرائيلي

في السنوات من 1946 إلى 1958 عمل معلمًا للغة العربية في مدرسة الريئالي «هريئالي هعفري» في حيفا، وهي من صفوة المدارس العبرية التي تأسست عام ١٩١٣م، في عام 1954 أقام دورات للتخصص في اللغة العربية في المدارس الثانوية في الكيان الصهيوني، وفي أعقاب نجاحه في هذا البرنامج تقرر إقامة فرع لعلوم الاستشراق في المؤسسات التعليمية، وعُيّن مفتشًا قُطريًا مسئولًا عن هذا البرنامج، ومن أشهر أعماله كتاب «المجتنى من أدب العرب وتاريخهم» سنة 1960م بمشاركة الأستاذ أحمد عبد العزيز إدريس مفتش اللغة العربية، وقررت وزارة المعارف تدريسه في المدارس الثانوية، كما استُعين به في وضع الكثير من المناهج التعليمية الخاصة بالإسلام والعرب التي تدرس في مراحل التعليم المتوسط بالمدارس الإسرائيلية، لذلك يعد من «الآباء المؤسسين» للدراسات العربية والإسلامية في الكيان الصهيوني، ويلقب بـ«أبي الاتجاهات الاستشراقية» عندهم.

حصل على درجة الماجستير في عام 1949م عن تحقيقه لكتاب «آدب الصحبة وحسن العشرة» لأبي عبد الرحمن السلمي، وفي عام 1964 نال الدكتوراه عن رسالته «بنو تميم في الجاهلية» وهو في الخمسين من عمره. وفي عام 1960 بدأ عمله محاضرًا في اللغة العربية بالجامعة العبرية. فدرّس القرآن الكريم والأدب العربي القديم، وفي عام 1970 حصل على الأستاذية.

أسس قسطر قسم اللغة العربية في «جامعة تل أبيب» مع البروفيسور جدعون غولدنبرغ، وشارك في إنشاء قسم مماثل في «جامعة حيفا». وشارك في إدارة مشروع تأليف المعجم المفهرس للشعر العربي القديم مع البروفيسور ديفيد بانت، والبروفيسور م. بلنسر، بمعهد الدراسات الشرقية بالجامعة العبرية بالقدس. كما أسّس دورية الدراسات الشرقية، وفي عام 1975 حصل على عضوية الأكاديمية الوطنية للعلوم، كما كان عضوًا في العديد من المؤسسات الأكاديمية الدولية. تقاعد مائير قسطر في عام 1983، واعتزل التدريس في الجامعة العبرية، وحصل على لقب أستاذ فخري، وحاز على «جائزة إسرائيل» في علوم اللغة العربية والاستشراق عام 1981م. كما حصل على جائزة روتشيلد للعلوم الإنسانية عام 1988م.


مناظراته العلمية مع العلماء المسلمين

تخصّص قسطر في تاريخ العرب في الجاهلية والإسلام، وكتب عدة دراسات عن قبيلة بني تميم، وقد أثّرت فيه دراسته عن بني تميم حتى كان يُنسب نفسه إليها، وكان يقول: «أنا من قبيلة تميم.. تميم قبيلتي»، وشاع على ألسن بعض الطلاب الجامعة في قسم اللغة العربية تلقيبه بـ «نور الدين بن يعقوب التميمي». كان قسطر على علاقة بالباحثين المعتنين بالعربية وتاريخها، تجري بينه وبينهم مراسلات علمية، فمنهم الدكتور إسحاق موسى الحسيني، وقد أشار إليه في بحثه اللغة الصامتة قائلا: «وأنا مدين للعلامة الأستاذ قسطر في الحصول على هذا البحث [بحث للمستشرق الألماني أوجست فيشر] باللغة الألمانية».

وفي تسجيلات سلسلة الهدى والنور التي كان يجريها طلاب العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني روى أحد الطلاب العرب بالجامعة العبرية بالقدس للشيخ أن قسطر سئل عن الشيخ ناصر، فقال: أنا ما أعطي حكمي إلا لما أدرس عنه حقيقة، فلما قرأ كُتب الشيخ قال: «لا أعلم له مثيلا على وجه الأرض». وروى هذا الطالب أيضا قصة لقسطر مع الشيخ العلامة المحدث أبي الأشبال أحمد محمد شاكر رحمه الله تشبه قصته مع أخيه أبي فهر، لكن في ظني أنها قصة أبي فهر واختلط الأمر على هذا الطالب، وفي العموم كان رد قسطر على رد شاكر عليه فيما يروي هذا الطالب «أنا أعتبر هذا أعظم وسام على صدري، أن الشيخ شاكر كتب لي رسالة». وقد وصف قسطر العلامة أبا فهر بـ«العلامة» في كتابه المجتنى الذي سبق ذكره.


دراسات في خدمة اليهودية

حقق قسطر كتاب «آداب الصحبة وحسن العشرة»، وكتاب «أنساب الأشراف» للبلاذري، وذكر العلامة حمد الجاسر أن الدكتور قاسم السامرائي أخبره أن مائير قسطر يشتغل في نشر كتاب «مكة وأخبارها» لمحمد بن إسحاق الفاكهي، ولم أر في مصادر ترجمة قسطر أنه نشره. كما أشرف على تحقيق كتاب «فضائل بيت المقدس» لأبي بكر الواسطي الذي حققه تلميذه إسحاق حسون لنيل درجة الماجيستير، وهو التحقيق الذي تناوله بالنقد الأستاذ المحقق عصام الشنطي رحمه الله في مجلة معهد المخطوطات العربية، وسنوضح بعد قليل أسباب هذا النقد.

ولقسطر أكثر من ثمانين بحثًا في تاريخ العرب في الجاهلية والإسلام، ودراسة النواحي الروحية والدينية والاقتصادية والاجتماعية لهذه المرحلة. فله بحث بعنوان «الحيرة ومكة وتميم وصلتها بالقبائل» ترجمه للعربية الدكتور يحيى الجبوري، وقد نوهت «مجلة العرب» التي كان العلامة حمد الجاسر يشرف عليها بهذا البحث وأشادت به، وتناوله الباحث العراقي جاسم محمد كاظم بالنقد في العدد التاسع من «مجلة دراسات استشراقية».

وله كتاب «دراسات في الجاهلية والإسلام»، وكتاب «المجتمع والدين من الجاهلية إلى الإسلام»، وكتاب «أبحاث حول تكون الإسلام». وكتاب «اليهودية بين المسيحية والإسلام» كان يُدرّس للصف السابع الابتدائي في إسرائيل، يقول الأستاذ أحمد البهنسي: استخدم فيه المنهج التاريخي بشكل متناقض أو مبتسر لإثبات الفرضية الاستشراقية الإسرائيلية القائلة بأن الإسلام متأثر باليهودية والنصرانية.

وله بحث عن قبيلة خزاعة، وآخر عن قبيلة قُضاعة وبحث عن أكثم بن صيفي وبسطام بن قيس الشيباني، وبحث عن العمامة وغير ذلك. ولقسطر عدة أبحاث أخرى عن بعض الأشخاص والأمكنة التي وردت في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فله بحث عن مقام إبراهيم وغار حراء، وبحث عن الأقرع بن حابس، والمنذر بن ساوى التميمي، وحاجب بن زرارة التميمي، وخباب بن الأرت وغير ذلك.

كما كتب أبحاثًا في شرح بعض الأحاديث النبوية والقواعد الحديثية، كبحثه عن لفظ «التحنُّث»، وبحثه عن حديث لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، وقول بعض السلف لا تقرأ القرآن على مصحفي، ولا الحديث على صحفي. وله أبحاث في التأريخ لمدن الإسلام المقدسة وعلى رأسها القدس الشريف. وهو في أبحاثه متحيز لقومه كل التحيز، ففي بحثه:

«You Shall Only Set out for Three Mosques’. A Study of an Early Tradition» الذي تناول فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد»، حاول بكل ملكة لديه أن يقرر أنه ليس للقدس مكانة مقدّسة لدى المسلمين، وقد أورد بعض الأحاديث والآثار التي لم يصحَّ بعضها، وفسّرها بتدليس وجهل يخدم أغراضه، قائلاً: «هذه الآثار تعطي أدلة للحقيقة التي مفادها أنه كان هناك نوع من “الممانعة” بين علماء المسلمين في النصف الأول من القرن الثاني الهجري عن إعطاء اعتراف كامل بقدسية المسجد الثالث [الأقصى] ومنح “أورشليم” وضعًا مساويًا لمدينتي الإسلام مكة والمدينة». هذا المسلك ذاته قد سلكه تلميذه إسحاق حسون في مقدمة تحقيقه لكتاب «فضائل بيت المقدس» لأبي بكر الواسطي، فقد حاول أن يثبت أن حُرمة القدس لم تأخذ إجماعًا عند المسلمين، لذلك تناول هذا التحقيق العلامة عصام الشنطي بالنقد. وعموم هذه الأبحاث على أهمية بعضها، وكثرة اعتماد الباحثين عليها، لم تكن إلا لخدمة الصهيونية. تُوفي المستشرق الصهيوني مائير يعقوب قسطر في 16 أغسطس 2010 م بمدينة القدس المحتلة عن عمر ناهز خمسة وتسعين عامًا.


المراجع



  1. ترجمته من موقع الجامعة العبرية في القدس: http://www.kister.huji.ac.il/ar/node/113
  2. عن التواضع الأكاديمي: الدكتور والبروفيسور.. بلا أقواس! بقلم فتحي فوراني. http://www.aljabha.org/index.asp?i=74854
  3. مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة الجزء 45، الجزء 49.
  4. مجلة العرب السنة الثامنة، جُمَادیان 1394 هـ – يونيو، يوليو 1974م، والسنة التاسعة، جمادیان 1395 هـ – يونيو، يوليو 1975 م.
  5. مجلة معهد المخطوطات العربية المجلد السادس والثلاثون، الجزآن 1، 2. جمادی الآخرة، ذو الحجة 1412 هـ – يناير، يوليو 1992 م .
  6. إشكال “فهم” النص القرآني في الدراسات الاستشراقية (الاستشراق الإسرائيلي أنموذجًا) أحمد البهنسي مجلة دراسات استشراقية العدد ٢ السنة الأولى 2014م / 1436 هـ