أحياناً بإمكان كوب شاي اعتيادي تشربه بعد وجبة غداء أن يكون حفرة الأرنب التي تقودك لعالم مليء بالجدل والتناقضات وتاريخ طويل من الصراع بعمر الإنسانية ذاتها. كان بإمكان منشور كتبته فتاة عن حقها في ألا تعد كوب شاي لزوجها في الوقت الذي يكون قادراً فيه على إعداده لنفسه، كان بإمكان هذا المنشور أن يمر مرور الكرام كآلاف وربما ملايين المنشورات التي تعج بها مواقع التواصل الاجتماعي يومياً إلا أنه لم يفعل، وثارت حوله الكثير من النقاشات والانتقادات والردود والسخرية والدعوات للتجاهل وقامت عدة وسائل إعلامية باستضافة صاحبة المنشور.

ربما لأنه يحوي من الرمزية ما يستطيع به تسليط الضوء على علاقات القوة والإنتاج والأدوار الاجتماعية والمؤسسية في لحظة تبدو فيه هذه الأدوار والمؤسسات بالهشاشة الكافية التي تسمح لكوب شاي بقلبها والإطاحة بها. لا تقتصر الرمزية إذن على المطالبة الاجتماعية الكامنة في المنشور بل في توقيته كذلك. قد يكون من الغريب أن يصبح هذا المنشور «ترينداً» في الوقت الذي شاهد فيه الآلاف من مشاهدي التلفاز ورواد مواقع التواصل الاجتماعي تسجيلاً مسرباً لما يبدو وكأنه الجيش المصري يعدم مواطنين أسرى لديه خارج نطاق القانون. وغير بعيد كذلك من الجدل المتجدد حول كتاب «الدولة المستحيلة» للأكاديمي الأمريكي وائل حلاق الذي أعلن فيه استحالة نجاح مشروع الحركة الإسلامية دون تغيير هيكلي في بنية الدولة الأمر الذي يعد أكثر استحالة ربما!


جدل الرمزية والتاريخ

الدولة العربية الحديثة إذن في طور التحلل بعد تخليها عن منبع سيادتها الرمزية، وهو احتكار العنف ضمن إطار القانون، ناهيك عن فشلها في تحقيق وعود الرفاهية والتقدم والتحديث. في المقابل فإن أكبر الأنماط المعارضة لهذه الدولة الحديثة وهو المشروع الإسلامي يعاني أيضاً فشلاً على مستوى الواقع وآخر على المستوى النظري. في هذا الوضع الهش السائل قد يكون كوب الشاي الذي تعده الزوجة بعد الغداء هو الثابت الوحيد بالنسبة للبعض!

المفارقة أن الشرر لم يصدر هذه المرة ضمن إطار صراع الهوية أو الذات بين الشرق والغرب. يعاني الغرب مما يبدو وكأنه عملية تفكيك للذات، وارتداد عن القيم التي بشّر بها ضمن مشروع كوني ينقسم فيه العالم إلى الغربي المتقدم العقلاني الكفؤ والديمقراطي وراعي حقوق الإنسان والمرأة، مقابل الآخر الذي يمنعه وضعه العرقي/الجغرافي/الثقافي/الديني/الاجتماعي والسياسي من أن يصبح مثل هذا الغربي. لم يكن خطابًا نقيًا ضمن منظومة تشكّل الذات والآخر بالتأكيد، إنما حوت أبعاداً إمبريالية استعمارية، واستغلالاً اقتصاديًا لهذا الآخر.

ربما هذا الارتداد بسبب إمبرياليته المفرطة لكنه على كل حال لم يعد لديه ما يكفي من الوقت للاهتمام بمن يصنع كوب الشاي للآخر في العالم العربي. الشرر هذه المرة من داخل البيت وتحت عنوان جديد مسبوقاً بعلامة الشباك التي تناسب طابع منصات التواصل الاجتماعي. هذا العنوان هو (#النسوية_الإسلامية).

العنوان الجديد مكون من شقين إذن أو مفهومين يختزل كل واحد منهما أبعادًا فلسفية وثقافية وسوسيولوجية متداخلة ومتباينة في آن. ماهي النسوية إذن وهل بإمكانها في هذه اللحظة التاريخية أن تكون إسلامية؟


من القبول إلى المواطنة الكاملة

يشير مصطلح «النسوية» إلى حركة سياسية وفكرية تسعى إلى إنهاء كل أشكال الظلم والتفريق على أساس النوع ضد المرأة. تُعبر النسوية بالأساس عن سيرورة اجتماعية نحو اعتبار المرأة إنساناً كاملاً يتمتّعُ بالمظلة القانونية والاجتماعية التي توفرها حقوق الإنسان وأن تصبح مواطناً كامل المواطنة بما يعنيه هذا من مشاركة فعّالة في الحكم وتقرير المصير ورسم السياسات واتخاذ القرارات والمشاركة في أوجه النشاط الإنسانية المختلفة.

تتكون النسوية إذن على مستوى البنية من مُركّبين اثنين؛ الأول، وهو الحركة والنضال السياسي الذي بدأ خجولاً متواضعاً في القرن السابع عشر ثم ما لبث أن اشتد أواره بعد الثورة الفرنسية وفشلها في الاعتراف وتضمين حقوق المرأة السياسية ضمن نظام الحكم الجديد والمؤسسات الجديدة. لكن هذا النضال السياسي لم يكن مدًّا مستمرًا من التقدم والإنجازات، ولم يكن متجانساً في مطالبه ووسائله؛ لهذا يُقسّمه الباحثون إلى ثلاث موجات رئيسية وأخرى رابعة لم تنضج ملامحها بعد.

الموجة الأولى

ظهرت الموجة الأولى للنسوية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وتركزت مطالبها حول المساواة في الحقوق السياسية وحقوق المواطنة للمرأة. ركزت هذه الحركة بشكل كبير على الحقوق السياسية وحق التصويت للنساء، وأسهمت بشكل كبير في تقدم تعليم الإناث باعتباره الأساس الذي يبنى عليه الحق في التصويت والمشاركة السياسية.

نجحت الحركة في انتزاع حق التصويت للإناث فوق الثلاثين عاماً واللواتي يمتلكن منازل في بريطانيا عام 1918م ثم تم تعديل القانون ليسمح بتصويت الإناث فوق سن الواحد والعشرين عام 1928م، بينما حُسمت مسألة حق التصويت في الولايات المتحدة الأمريكية في العام 1919م حيث مُنحت النساء حقّ التصويت بموجب الإعلان الدستوري الذي منحهن هذا الحق على مستوى جميع الولايات الأمريكية.

الموجة الثانية

بدأت الموجة الثانية للنسوية ضمن المد السياسي العام الذي رافق فترة الستينيات وذلك بعد الانتكاسة التي شهدها وضع النساء الاجتماعي والاقتصادي في الولايات المتحدة وأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. اهتمت الموجة الثانية بشكل كبير بمحاربة الأوضاع الاجتماعية للنساء المبنية على الإقصاء والتحيز والتنميط، وجاءت هذه الموجة ردًا على الفصل القاسي الذي أحدثته الليبرالية بين ما هو عام وما هو خاص باعتبار أن النساء يمثلن الجانب الخاص من المجتمع.

شهد عام 1949م الإسهام الشهير للفيلسوفة والأديبة الفرنسية سيمون دي بوفوار في كتابها «الجنس الآخر» والذي أشارت فيه إلى أن النساء لا يولدن كذلك، إنما يصبحن نساءً بعد الولادة ضمن عملية صناعة اجتماعية ممتدة تُصوّر النساء باعتبارهن آخر، باعتبارهن غير اعتياديات ومختلّفات عن الأصل حتى إن الفيلسوفة النسوية الأشهر ماري ولستونكرافت اعتبرت أن الرجل هو الحالة المثالية التي يجب أن تتطلع إليها كل النساء. تشير سيمون إلى أن الحركة النسوية لن تحدث أي تقدم في وضع النساء الاجتماعي مالم تتخل عن هذا وهذه النظرة تجاه النساء.

بعد الإلهام الذي قدّمته دي بوفوار كتبت النسوية الأمريكية بيتي فريدان كتاباً هو الأكثر تأثيرًا في تاريخ الحركة ويعتبره البعض من الأكثر تأثيراً في القرن العشرين بعنوان «لغز الأنوثة» هو الذي حرّك الموجة الثانية من الحركة النسوية عام 1963م. تنتقد فريدان في الكتاب ما تُسمّيه نظام الاعتقاد الخاطئ الذي تتعرّض له النساء والذي يدفعهن لإيجاد الهوية ومعنى الحياة في رعاية أزواجهن وأطفالهن بمعنى أن المرأة تفقدُ هويتها الذاتية تمامًا في سبيل أسرتها. فككت بيتي هذا النمط من صناعة الأنوثة لدى الطبقة المتوسطة وسكان الضواحي في الولايات المتحدة الأمريكية ما بعد الحرب العالمية الثانية في الوقت الذي جعلت التكنولوجيا الحديثة من وجهة نظرها الأعمال المنزلية أقل صعوبة وبالتالي أقل قيمة ومعنى.

ركزت الحركة انطلاقاً من هذين العملين على مقاومة أشكال الإقصاء والتمييز الاجتماعي والثقافي ضد المرأة لكنها من وجهة نظر المثقفة والنسوية الأمريكية من أصل أفريقي تجاهلت بشكل كامل مشاكل العرق والتمييز الطبقي وركزت على تحرير المرأة البيضاء المنتمية للطبقة المتوسطة.

الموجة الثالثة

بدأت الموجة الثالثة للنسوية في أوائل التسعينيات كرد فعل على فشل الموجة الثانية في مواجهة العديد من المشكلات والانتقادات التي وجهت لها باعتبارها تسعى لتحرير امرأة الطبقة الوسطى العليا البيضاء. لم تتبنَ هذه الموجة وجهة نظر واحدة ومتّسقة حول قضايا المرأة وكان لها منطلقات عديدة بين وجهات النظر التي اعترفت بوجود فرق سيكولوجي حقيقي بين الرجل والمرأة وأخرى ترى عدم وجود فروق ثابتة ومتوارثة إنما ينتج الفرق من عملية التكييف المجتمعي التي تفرض على المرأة.

الموجة الرابعة ما بعد النسوية

ظهرت ما بعد النسوية كحركة نقدية للحركة النسائية في الثمانينيات من القرن الماضي دون أن تعارض أهدافها في تحرير المرأة. ركّز نقد ما بعد النسوية على المقاربات النظرية والفلسفية والحركية للحركة النسوية ومدى ملاءمتها لأهدافها والتغيير الاجتماعي الذي أحدثته عبر مسير نضالها الطويل. أما الموجة الرابعة، التي ظهرت عام 2008م تعرفها كيرا كوكرين بأنها حركة نسوية متّصلة عبر التكنولوجيا، بينما ترى ديانا دياموند بأنها تنبعثُ من منطلقات سيكولوجية وسياسية وروحية للاستمرار في مسيرة التغيير.


الالتجاء في كنف الفلسفة

تنطلق المقاربات الفلسفية للحركة النسوية من تصور معياري للعدالة، أي ما يجب أن يكون عليه وضع الرجل والمرأة والعلاقة بينهما وفقاً لمنظور العدالة المتبع ثم يتلوه مقاربة وصفية تحدد مدى بعد الواقع المعاش أو اقترابه من معيار العدالة المتصور؛ فاختلاف التصورات المعيارية للعدالة في المناهج الفلسفية المختلفة واختلاف المقاربات الوصفية كذلك جعل من الفكر الفلسفي والأكاديمي للحركة النسوية فكراً متنوعاً شديد الثراء ليس في إضافته لقضية المرأة فحسب، إنما في إضافته للفلسفة والقضايا الفكرية والمنهجية بشكل عام، ويمكننا بشكل عام تقسيمه إلى ثلاث مظلات فلسفية كبرى وهي الفلسفة القارية والفلسفة التحليلية والفلسفة النفعية.

الفلسفة القارية

يستخدم هذا المصطلح في تحديد الإرث الفلسفي في القارة الأوروبية، بالتحديد الفلسفتين الألمانية والفرنسية والذي يتميز بالكليانية والمنهجية الإبتسمولجية. لجأت الحركة النسوية للمناهج التي توفرها هذه الفلسفة منها على وجه التحديد التحليل النفسي للاكان ومناهج ما بعد الحداثة كالتفكيك والجينالوجيا والفيمينولوجي.

استخدمت الباحثات النسويات «بنوية لاكان» في التحليل النفسي وعودته إلى الفرويدية في تفكيك مركبات الهيمنة الذكورية النفسية، لكن على الرغم من التقدم الكبير الذي حققنه باستخدام هذا المنهج إلا أنهن لم يسلمْنَ من الانتقاد بسبب المركبات أو «العُقد» الذكورية الشخصية لفرويد ولاكان الكامنة في منهجيْهما، حيث كان فرويد يعزو الهستيريا لدى النساء إلى مشكلة الرحم ويتجاهل واقع الاغتصاب والعنف الجسدي لدى مريضاته في تحليله النفسي لهن. كان الحل إذن أن يتم إخضاع نصوص فرويد ولاكان لنفس منهج التحليل النفسي الذي يعرضانه لـتفكيك مُركّبات الذكورية والعُقدة تجاه الجنس الآخر وتطوير هذه المنهجية بعيداً عن هذه المركبات وتنقية الممارسة منها.

لكن على كل حال يُعد استخدام الفيلسوفة الأمريكية جوديث بتلر منهجية دريدا التفكيكية في كتابها «مشكلة النوع» أكثر إسهامات هذه المدرسة عمقًا وإثارة للجدل حيث استمرت على نهج سيمون دي بوفوار في نفي نشوء النوع بالولادة إنما عبر الأداء أو الممارسة اللغوية عبر نظام رمزي اجتماعي يقوم بالتفريق بين الجنسين.

في معرض الحديث عن هذه المدرسة الفلسفية لا يمكننا تجاهل أثر تحليل الفيلسوف ميشيل فوكو للسلطة ومنهجه الحفري على الفلسفات النسوية التي استخدمت هذا المنهج وتحديدا فكرة «السياسة الحيوية» و«آليات صناعة الذات» لتسليط الضوء على ما يسمى بـ«التجميلية (beautification)» أو القولبة الجمالية ودورها في صناعة الأنوثة وتحديد أدوارها.

الفلسفة النقدية

يُستخدم هذا المصطلح للإشارة إلى إرث كامل من التفكير الفلسفي السائد في البلاد الأنجلو ساكسونية تمثّله وضعية فيتجنشتاين وراسل ومور. تتميز هذه الفلسفة بالنقاء الجدلي ودقة المحاججة وغالبًا ما تدعي كونيتها الفلسفية وموضوعيتها وخلوّها من القيم الاجتماعية والزمانية. تعرض الاجتهاد الفلسفي النسوي من داخل هذه المدرسة وأسسها لنقد شديد بسبب سمعة هذه الفلسفة الذكورية وعدم قدرتها على تقديم خطابات ومقاربات وصفية تلائم السياقات المختلفة للتمييز الجنسي ضد المرأة.

الفلسفة النفعية

تشير الفلسفة النفعية إلى إرث ممتد من الفلسفة الأمريكية التي بدأت مع جون ديوي وجيمس ادامز ووليام جيمس. التفكير من داخل هذا الأفق الفلسفي أتاح للحركة النسوية رؤية أكثر عملية وأكثر ارتباطاً بالواقع حيث ركزت هذه المدرسة الفلسفية على التجربة والتعليم والفعل الاجتماعي والتنوع الثقافي والديمقراطية.

هذا الاشتباك النسوي بالفلسفة مكّن الباحثات والفلاسفة في مجال النسويات من تقديم مقاربات فلسفية مهمة وعميقة في مجالات تتجاوز قضية المرأة، ابتداءً من نظرية المواطنة التي عادت لواجهة الاهتمام النسْوي بعد الحرب العالمية الثانية والعَقد الاقتصادي والاجتماعي الجديد الذي تلى

مشروع مارشال

، وكذلك نظريات الفلسفة الأخلاقية والعدالة والفلسفة السياسية وفلسفة الجسد والاشتباك المهم والفعّال مع أيديولوجيا اليسار والطبقة العاملة ومشاكل التمييز العرقي وحقوق الإنسان والعولمة وغيرها من القضايا التي أسهمت فيها الحركة الفكرية النسوية إسهاماً بارزاً.


في إمكان أن تصير «إسلامية»

ليست النسوية مما سبق حركة واحدة متجانسة ذات أهداف ومنطلقات محدّدة، بل هي مظلة عامة تضم تحتها مختلف التصورات والمقاربات والسياسات التي تتمركز حول واقع المرأة ودورها في السياقات الاجتماعية المختلفة، ولا تدلنا تاريخ المجتمعات الإسلامية وسيرورتها ولا نصوصها المؤسسة على جوهر ثابت لرؤية الإسلام تجاه المرأة أو تصور مقدس لدور المرأة في المجتمع؛ هي كما الرجل إنسان كامل منوط به مسؤولية التوحيد الجوهرية في الإسلام، وهي كما الرجل ترتبط ضمن السياق الإسلامي بمحددات للحشمة العامة التي تضبط علاقتها بالآخر سواء بالرجال أو النساء.

إذا كان بإمكاننا من هذا المنظور أن نتجاوز البحث عن جوهر إسلامي في قضية المرأة أمكننا باستخدام مقاربات سوسيولوجية أن نحدد وضع المرأة في المجتمعات الإسلامية تقدماً وتقهقراً ضمن تحليل الأدوار الاجتماعية المتغيرة وعلاقتها بأدوات الإنتاج ومعادلات السلطة والمعرفة والمدنية في العالم الإسلامي.

ليست النسوية والإسلام إذن جوهرين ثابتين متناقضين، إنما هما مفهومان بالأحرى يخلوان من التجانس التاريخي والفكري، وإذا كان بإمكان النسوية أن تكون قارية ونفعية ونفسية وسوداء ويسارية فليس من المستبعد أن تجد لها مساحات حركة ومقاربات للعدالة تجاه المرأة من داخل الجسد الإسلامي الذي يمر بأكثر فتراته سيولة منذ بزوغ عصر الدولة الحديثة ربما.


المراجع




  1. Continental Feminism

  2. Pragmatist Feminism

  3. Women’s movement POLITICAL AND SOCIAL MOVEMENT

  4. Analytic Feminism