أشهر قليلة هي ما فصلت بين

المكالمات

التي تلقاها الداعية السعودي «سلمان العودة» من كبار رجال الدولة في السعودية، برقية الملك «سلمان بن عبد العزيز»، واتصال هاتفي من كل من ولي العهد -حينئذ- محمد بن نايف، وولي ولي العهد «محمد بن سلمان»، معزين إياه بوفاة زوجته وابنه في حادثة سير، وبين توقف تغريداته على موقع تويتر على غير عادته، ليتبين لاحقًا اعتقاله -مع آخرين- على أيدي قوات الأمن السعودية.


لم تُفصح السلطات السعودية عن أسباب اعتقال العودة، وفي حين ذهبت بعض التكهات إلى الربط بين المسألة وبين دعوات احتجاج أطلقها معارضون من الخارج منتصف الشهر الجاري، فإن أكثر التفسيرات تشير إلى أن احتجاز الرجل يجئ على خلفية «

تعاطفه مع قطر

»، وهو ما يُعد جُرمًا لا يغتفر في المملكة هذه الأيام، بسبب ما أشيع عن رفضه الاصطفاف مع الخطاب الرسمي للمملكة المتهجم على قطر، وفي رواية أخرى بسبب تغريدة كتبها يثني فيها على الاتصال الذي جرى بين أمير قطر وولي العهد السعودي، ويدعو الله أن يؤلّف بين قلوب الرجلين لما فيه من خير لشعبيهما.

لا يُعد العودة «مجرد» داعية اعتيادي في المملكة، بل يُمكن اعتباره شخصًا «فوق العادة»، ليس فقط بسبب تأثيره الإعلامي الهائل عبر وسائل التواصل «14 مليون متابع على

تويتر

»، بل لأن مسيرة الرجل وتحولاته الفكرية زاخرة بالحيوية، ترسم تفاصيلها سطور مهمة من تاريخ المملكة، وهو أمر يندر أن يوجد اليوم في البلاد التي لا ترحب كثيرًا إلا بنمط واحد من الدعاة يسير في قافلة المؤسسة الدينية الرسمية.


ولد

العودة في منطقة القصيم وسط السعودية، وتدرج في التعليم حتى التحق بجامعة الإمام «محمد بن سعود» في القصيم، ونال منها درجة البكالوريوس فالماجستير، وعين فيها معيدًا ثم أستاذًا، إلا أن فُصل منها عام 1994 بسبب مواقفه السياسية.

أسس العودة موقع «الإسلام اليوم» عام 2000، وقدّم العديد من البرامج عبر المحطات الفضائية المختلفة، وله مؤلفات عدة في الفقه والتفسير والحديث، والسياسة والإصلاح الاجتماعي، وقد صار الأمين المساعد للاتحاد العالمي للعلماء المسلمين، وعضوًا في مجلس الإفتاء الأوروبي، بالإضافة إلى نشاطه في العديد من الجهود الإغاثية والخيرية في العالم الإسلامي.


سطع

نجم «سلمان العودة» في بداية التسعينات، إبّان حرب الخليج، إذ مثّل العودة مع آخرين -مثل سفر الحوالي وناصر العمر- ما يُطلق عليه «تيار الصحوة» اعتبر «حركة معارضة»، وهو الأمر غير المألوف في المملكة، وانتشرت محاضرات هؤلاء ودروسهم على أشرطة الكاسيت مما أسهم في زيادة تأثيرهم وسط المجتمع السعودي، وأعلن هؤلاء رفضهم التحالف مع الأمريكيين، كما وجهوا انتقادات للحكومة، مخالفين بذلك رأي المؤسسة الدينية الرسمية «هيئة كبار العلماء»، التي أجازت الاستعانة بالقوات الأجنبية ورأت في ذلك «دفعًا لأشد الضررين».

كان العودة من بين الموقعين على «خطاب المطالب» و«مذكرة النصيحة»، وهي عرائض سياسية قدمت إلى السلطات تطالب بالإصلاح السياسي والاجتماعي، وتفعيل مبدأ الشورى، ومراجعة اتساق القوانين مع الشريعة الإسلامية،والبعد عن التحالفات الخارجية المخالفة للشرع، وبرغم التأكيد على الالتزام بطاعة ولي الأمر والولاء لبيت آل سعود، فقد عُدّت تلك الخطوات في حينها تحديًا لسلطة آل سعود، وردت السلطات بصرامة على تلك الخطوات وإن تحققت الاستجابة لبعض مطالبها لاحقًا.

تصاعد الخلاف مع بيت آل سعود، الذي اصطفت خلفه المؤسسة الدينية الرسمية، وأصدرت «فتواها» بوقف محاضرات مشايخ الصحوة ما لم يعتذروا ويتوبوا، وأصدر العودة شريطه الشهير «

حتمية المواجهة

»، وفي نهاية المطاف، لم تجد السلطات السعودية بدًا من اعتقال العودة، حيث قضى في السجن خمس سنوات دون محاكمة، ليخرج بعدها متخذًا مسارًا جديدًا، «مراجعات فكرية» يسميها العودة «تطورًا»، و

يصر

أنها كانت نتاج جهد فكري شخصي تمامًا، ودون أي إملاءات أو ضغوط من السلطات.


صقلت سنوات السجن أفكار الشيخ وطورت آراؤه، وأكسبته هدوءًا في قراءة النص واستنباط أحكامه ومقاصده، فعدل عن أفكارٍ سابقة، صار -مثلًا* يقصر مسألة «

الولاء والبراء

» على «المحاربين»، معتبرًا أن البراء هو «إخلاص الحب العقائدي للدين، دون أن يشترط في ذلك خلو القلب من الحب الفطري، والعلاقات الإنسانية التي يتخللها نوع من الحب والمودة مع غير المسلمين، لأن الأصل في العلاقات مع غير المحاربين، حسن التعامل وتبادل السلم»، وتعد تلك الرؤية تطورًا نوعيًا حقيقيًا في الموقف السلفي من تلك القضية، سيما أنها جاءت في خضم تبعات أحداث 11 سبتمبر.

وبالرغم من تأييده لـ«عاصفة الحزم»، وإقراره بوجود خلافات جوهرية بين السنة والشيعة لا يمكن تسطيحها، إلا أنه نادى بتجاوز تلك الخلافات، والالتفات إلى الواقع والاتفاق على مصالح الحياة الدنيا، ومبادئ المواطنة والحق والعدل، كما أن مقالة العودة التي نشرها بعنوان «الإسلام والحركات»، والتي كان موضوعها الرئيسي هو أن الإسلام ليس هو الحركات الإسلامية، كانت كمن ألقى حجرًا في المياه الراكدة، وتسبب في ردود فعل غاضبة من قبل إسلاميين لم يتوقعوا من الشيخ أن يذهب إلى هذا البعد في مراجعاته.


في أطروحته لرسالة الماجستير في الدراسات الإسلامية، بعنوان «

سلمان العودة من السجن إلى التنوير

» يصف الكاتب السعودي «تركي الدخيل» تحولات سلمان العودة قائلًا «انقلب العودة من يمين الرموز الإسلامية إلى وسطها، أو ربما يسارها في نهاية العقد الأول من القرن الجديد، من تبنيه لخطاب المعارضة السياسية والتشدد الديني، إلى اعتناق خطاب أكثر نعومة وتسامحًا».

مر العودة بمراحل في طرحه الفكري، امتازت بالحدة في بداياتها، وبالنعومة والنقد غير المباشر بعد مرحلة السجن،وهي المرحلة التي يمثلها بوضوح ما يطرحه في برنامجه «حجر الزاوية»، لا يزال العودة رمزًا مهمًا، تتجدد شرائح جماهيره وتتزايد

لم تفُصح السلطات السعودة عن سبب اعتقال العودة، وهو الذي ما برحت وسائل إعلامها تحتفي به، باعتباره نموذجًا على الانتقال إلى مسيرة «الاعتدال»، لكن نظرة على مواقف الرجل من الثورات العربية وحق الشعوب في الحرية تفسّر كل شيء، وقف العودة مع حق الشعوب في التغيير السلمي، ووجه في عام 2013 خطابًا مفتوحًا إلى النظام السعودي، يطالب بإطلاق سراح المعتقلين، وتخفيف الغضب الشعبي، مما ترتب عليه حرمانه منابره، ومنعه من السفر،واليوم يأتي خبر اعتقاله ليكمل حلقات المسلسل.