في عالم تحول فيه الإنسان إلى «فأر تجارب»، حيث تجرى عليه البحوث والدراسات من حيث لا يدري، ليقع فريسة الاكتئاب والأمراض النفسية والعصبية، بفضل العالم الأزرق الذي اخترق خصوصياتنا وأصبح المتحكم الأول في مشاعرنا ودرجة وعينا.

فمنذ تأسيسه عام 2004، انبهر العالم بموقع التواصل الاجتماعي «الفيسبوك»، والذي ساهم في فتح قنوات الاتصال بين مختلف الجنسيات والأعراق والأعمار، بصورة فنّدت وبشكل كبير مقولة «مارشال ماكلوهان» الخالدة «العالم صار قرية كونية صغيرة»، لتحل محلها عبارة «العالم بات شاشة مصغرة».

ومؤخرًا،

قام الفيسبوك بتجربة

لمعرف مدى سيطرته على مشاعر مستخدميه، وبالفعل نجحت التجربة؛ إذ استطاع الموقع أن يغير حالات مستخدميه المزاجية ويتحكم في مشاعرهم وإحساسهم، الأمر الذي اعتذر عنه الفيسبوك لاحقًا.

تجارب الفيسبوك أماطت اللثام عن المحتوى الذي نشاهده عبر وسائل التواصل، والذي يشكل جزءًا مهمًا من وعينا، ويؤثر على أحلامنا وحالتنا النفسية وتصوراتنا حول أنفسنا والآخرين.

فتعتبر خصوصية المستخدم أمام الفيسبوك «صفرًا»، حتى الأشياء التي تقوم بمشاركتها بشكل خاص أو تحت خيار only me يعلمها الموقع الأزرق، ويستطيع إدراك علاقاتك العاطفية، ومكان وجودك عن طريق الـ «GPS» في هاتفك، وتحديد مطاعمك المفضلة، ديانتك وآرائك، والأفلام التي شاهدتها… إنه يعرف كل شيء.

المرعب في الأمر أن الفيسبوك لا يعرف كل شيء عنك فقط، بل عن قرابة مليار شخص من مُستخدمي الموقع حول العالم، بدءًا من تحرك الفأرة على صفحة حاسوبك حتى أعداد الإعجابات التي تقوم بها كل يوم. تخيل أن هذه القوة المهيمنة على المستخدمين، التي تتحكم في حالتهم النفسية والمزاجية ومستوى وعيهم، صارت في يد روبوت وليس بشرًا.


الخوارزميات والسيطرة الافتراضية

الهدف النهائي لفيسبوك هو أن يكون له خوارزمية مطابقة لاختيارات الفرد في تغذية المحتوى واهتمامات كل مستخدم.





كريس كوكس، رئيس قسم المنتجات بشركة فيسبوك

هي ليست خوارزمية واحدة بل مجموعة ضخمة من الخوارزميات، بعضها متاح الاطلاع على كيفية عملها، والأغلب يحتفظ به فيسبوك لنفسه. وهي مجموعة من الأكواد البرمجية تعطي أوامر تنفيذية معينة، تسعى لضبط المحتوى والتكيف مع تفضيلات المستخدم الفردية، فالفيسبوك ينظر إلى جميع القصص والأحداث في دائرة المستخدم الاجتماعية، ومن ثم يقرر ترتيب هذه القصص أو الأحداث بشكل تسلسلي فى صفحة آخر الأخبار «News Feed»، وبالتالي يتحكم في الحالة النفسية والمزاجية للمستخدم.

وتعتبر

التغذية الإخبارية

هي الخوارزمية الأساسية عندما أطلقها الفيسبوك لأول مرة في عام 2006، حيث احتلت المنشورات بأنواعها المختلفة قيمًا مختلفة، وقد تغيرت الخوارزميات على مدى سنوات بعد تزايد عدد المستخدمين بشكل هائل؛ منها إعطاء قيمة للمنشور الذي يحتوي نصًا فقط نقطة واحدة، في حين أن المنشور الذي يحتوي على نص ورابط فتعطيه الخوارزمية قيمة نقطتين، وتتضاعف قيمة المنشور بتضاعف عدد المستخدمين والمتفاعلين معه، فيما تسمح خوارزمية البث المباشر بالانتشار ثلاثة أضعاف الفيديو العادي المرفوع على فيسبوك.

ومع مرور السنوات تطورت خوارزمية التغذية الإخبارية لتشمل حداثة النشر، فضلاً عن العلاقة بين الشخص الذي يقوم بالنشر والشخص الذي يتفاعل معه، هذا التكرار للخوارزمية يعرف باسم «إدجيرانك» EdgeRank Score. ولكن في عام 2011، تخلى الفيسبوك عن هذه الخوارزمية وتبنى أخرى أكثر تعقيداً تعتمد على التعلم الآلي.

و

عقد الفيس بوك مؤتمر

F8 conference في عام 2010 الذي كشف عن ثلاثة عناصر تعتمد عليها خوارزمية EdgeRank، منها Affinity Score، وتعني درجة الصلة بين منشئ القصة ومستقبلها، ولا يتوقف ذلك العنصر على حساب مدى درجة التفاعل مع صفحة معينة، بل أيضًا يقوم بحساب مدى تفاعل الأصدقاء مع نفس الصفحة أيضًا.

العنصر الثاني Edge Weight، ويعني أن أي نشاط سواء تعليق أو مشاركة أو مجرد الإعجاب بالمنشور له وزن معين، بينما يعتمد عنصر Time Decay، والذي يأخذ عامل الزمن بعين الاعتبار عند تسلسل الأحداث في صفحة «آخر الأخبار».


تأثيرات نفسية وصحية.. وعقلية أيضًا!

خصصت مراكز أبحاث عالمية مئات من الدراسات واستطلاعات الرأي، للحصول على صورة أوضح للعلاقة بين استخدام وسائل الإعلام الاجتماعية ومستوى الرفاه العام، وخلصت في مجملها إلى القول بأنه «كلما استخدمت الفيسبوك أكثر، سوف تشعر دائمًا بالأسوأ».


وقال الباحثان

سان دييغو ونيكولاس كريستاكيس من جامعة كاليفورنيا، إن «معظم مقاييس استخدام فيسبوك توقعت انخفاضًا في الصحة النفسية، ومع استمرار النقر على الروابط ومشاهدة الصور التي تتيحها مضامين الفيسبوك، تتسبب بشكل كبير في انخفاض الصحة البدنية والعقلية، ومستوى الرضا عن الحياة».

وفي أبريل/نيسان 2016، دعم تقرير صادر عن

مؤسسة «هارفارد بيزنس ريفيو»

حجة مفادها أن الاستخدام المفرط للفيسبوك يؤدي إلى مقارنات ذاتية سلبية مع مستخدمين آخرين عبر الفيسبوك، وبالتالي يؤدي ذلك إلى زيادة خطر الإصابة بالاكتئاب المزمن.

وقام فريق الدراسة التي نُشرت في جريدة Journal of Social and Clinical بملاحظة 154 مستخدمًا تتراوح أعمارهم بين 18 و42 عاما لمدة أسبوعين، وكان موضوع الدراسة هو «حياة المستخدمين اليومية على الفيسبوك»، وفي نهاية فترة الأسبوعين لاحظ الفريق ظهور علامات اكتئاب على المستخدمين، فضلاً على انشغالهم بمستوى معين من المقارنة الاجتماعية.

وأشارت ماي لي ستيرز، أحد الباحثين بالدراسة، إلى أنه:

من المهم أن ندرك أن معظم الناس يميلون إلى التفاخر على موقع الفيسبوك، لذلك فهم يصورون أنفسهم دائمًا في أفضل الأحوال، ولا يعرضون سوى الجوانب الجيدة فقط في حياتهم، مُخفين السيئة، ومع ذلك فنحن لا ندرك أن هذا يحدث، ونحن نحاول دائمًا أن نقارن أنفسنا بالآخرين، بما حققوه وبما وصلوا إليه، وسنشعر لا إراديًا بأننا لا نعيش نفس الحياة الطيبة التي يتمتع بها أصدقاؤنا.


«العواطف المعدية»: الفيسبوك وتهديد ديمقراطيات الدول

«الفيسبوك يمثل تهديدًا حقيقيًا على الديمقراطية الأمريكية»، ظهر ذلك الاتهام جليًا بعد تفشي الأخبار المضللة عبر الفيسبوك، خلال الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، وخاصةً في أعقاب انتصار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب غير المتوقع، حيث علت التساؤلات حول دور الموقع الاجتماعي في الدعاية للمعلومات غير الدقيقة والمنحازة أثناء السباق الرئاسي، وحول إذا ما كان لها تأثير على نتائج الانتخابات.

وفي مايو/أيار 2016، قال 44% من الأمريكيين إن مواقع التواصل الاجتماعي هي مصدر أخبارهم. ومن جانبها،

أظهرت دراسة عن النشاط السياسي

لمستخدمي فيسبوك أن ما يقرب من نصف المبحوثين (49%) يصفون المناقشات السياسية على مواقع التواصل الاجتماعي بـ «الغاضبة».

وحينما يتعلق الأمر بالسياسة، فالغضب يُمثل دافعًا عاطفيًا قويًا يجعل الناس أكثر استعدادًا لقبول الأكاذيب المتحيزة، وأكثر عرضة لنشر وتبادل المعلومات السياسية، التي تُعزز معتقداتهم حتى وإن كانت مزيفة، حيث إن ضمان وجود المعلومات الدقيقة قد لا يكون مهمًا في هذه الحالة.

وبذلك أصبح الفيسبوك في منظور البعض «منصة للمشاعر المعدية، ويكون عبرها المواطنون أقل قدرة على تمييز الحقيقة من الخيال».


«ذعر» الآباء: هكذا خط الفيسبوك الحزن على وجه الطفولة



يكمن الوجه المرعب للفيسبوك في أنه لا يوجد بشري واحد ملّم بكل الخوارزميات، وإلى أين سينتهي بنا هذا الذكاء الاصطناعي، الذي يجعلنا نعيش في أحد أفلام الخيال العلمي.

لافتقادهم الخطوط الفاصلة بين العالم الحقيقي والافتراضي؛ يشكل موقع الفيسبوك بخصائصه المختلفة خطورة كبيرة على الأطفال والمراهقين، ولعدم خبرة الصغار، فإنهم قد يصبحون ضحايا لشبكات الفيسبوك.



تقول دراسة «آب»: «يحدث جزء كبير من التطور الاجتماعي لهذا الجيل أثناء وجوده على الفيسبوك، جنبًا إلى جنب مع ارتفاع مستوى الغضب والعنف. لذلك يشكل الفيسبوك ذعرًا أخلاقيًا حقيقيًا».

يتجلى ذلك في تكريس الجهد البدني والفكري والنفسي من أجل مشاهدة ما ينشره الأصدقاء من صور وأخبار سيئة تتعلق بالعنف والسلوكات الإجرامية والحروب، مما يولد الإحباط والاكتئاب للمراهق، ويفقده القدرة على النوم والتركيز.

وتشير

دراسة تابعة للأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال

(AAP) إلى أن الاكتئاب هو واحد من عوامل الخطر التي تواجه المراهقين مع التعرض المفرط لوسائل الإعلام الاجتماعية، وهو ناجم من الشعور بعدم القبول بين أقرانهم عبر الإنترنت، فضلاً عن الميل نحو الانخراط في أنشطة محفوفة بالمخاطر مثل تعاطي المخدرات، والجنس غير الآمن أو السلوكيات التدميرية الذاتية.

وحذرت الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال في دراستها من أن التفاعل بين هؤلاء المراهقين على مواقع الشبكات الاجتماعية آخذ في الارتفاع، حيث يكرر 22٪ من المراهقين الدخول على مواقعهم الاجتماعية المفضلة أكثر من 10 مرات في اليوم.

وعلى صعيد آخر،

يقول الدكتور ميغان مورينو

، أستاذ مساعد لطب الأطفال والمراهقين في جامعة ويسكونسن ماديسون، إن «وسائل الإعلام الاجتماعية هي أداة، وبالتالي لا يمكن أن تكون في حد ذاتها سببًا لمرض طبي». ويفسر طرحه بالقول إنه «في حين كانت البلطجة وضغط الأقران مشاكل شائعة للأطفال والمراهقين قبل ظهور الإنترنت، وفرت مواقع التواصل الاجتماعي منصة يشعر فيها المراهقون اليوم بالأمان في إظهار الاكتئاب أو التماس الدعم من الآخرين».

وفي دراسة حديثة أعدها

الباحث الدكتور هشام البرجي

، تحت عنوان «تأثير استخدام تكنولوجيا شبكات التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت على العلاقات الاجتماعية للأسرة المصرية»، تتناول واقع هذه الشبكات على الأسرة العربية بصورة عامة، وخلصت إلى أنه يمكن استشعار الخطر على الأسرة بصورة عامة، خاصة في ظل الثقة الزائدة لدى الآباء والتي تتجاوز النصف تقريبًا حول ما يُقدم عبر شبكات التواصل الاجتماعي، في الوقت الذي يحذر فيه خبراء الاجتماع والنفس من مخاطر ما يُعرض على هذه المواقع.

وبعد أن أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي وجبة دائمة الحضور على موائد الاهتمام، على مدى اليوم والساعة. ولضبط تلك الشاشة التي تصاحب أعيننا في كل مكان، أعلنت شركة فيسبوك ا

ستخدام البحث العلمي

الجاد لجعل المستخدمين أكثر صحة، حيث خصصت الشركة مؤخرًا مبلغ مليون دولار لدعم البحوث في مجال تنمية الطفل والتكنولوجيا.

وعندما أطلقت الفيسبوك خاصية فيديو البث المباشر، انتشرت مقاطع الفيديو عن أعمال العنف بما في ذلك الانتحار والقتل، مما يشكل تهديدًا لصورة الشركة. ولتفادي الأمر أعلن الفيسبوك في مايو/أيار 2016، أنه سيتم توظيف 3000 شخص لمراقبة المحتوى المنشور على الموقع.

وفي ذات الإطار،

استحدثت شركة «مانيفيستو»

التابعة لوادي سيلكون، برنامجًا يسمح بالكشف عن احتمالية وجود انتحار، فإنه ينبه فريقًا من العاملين في الفيسبوك الذين يتخصصون في التعامل مع هذه التقارير. كما تقترح الشركة وجود خط هاتفي للمساعدة في تلك الحالة، ويمكن لعمال فيسبوك أن يتصلوا بالسلطات المحلية للتدخل.

وأجملت الدكتورة كايت رانيز جولدي، في مقالها بعنوان

«التاريخ السري للاكتئاب الناجم عن الفيسبوك»

، تأثير موقع التواصل على المستخدمين بالسلب، داعيةً المعنيين بالمجتمع، قائلةً:

دعونا نكون أنفسنا مرة أخرى.