شاركها 0FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram 59 كان لها مظهر فضفاض بعض الشيء، وتحتوى عددًا كبيرًا من الجيوب يكفي لحمل الطعام في وقت الاستراحة، ووضع بعض الأقلام أو كراسة صغيرة، ولها حزام عند الخصر يمكننى من زمّها، وآخر عند الأكمام يتحكم في طول الكم وحجمه. لحسن الحظ أن سترتي الكحلية التي لازمتني من الصف الخامس الابتدائي وحتى الصف الثالث الإعدادي كانت مصنوعة من مادة تسبب تدفئة عالية دون أن يتضخم مظهرها، ناسب ذلك مظهرى الدقيق وبنيتى الضعيفة، وناسب أيضًا البرد الشديد الذي كنت أعانيه وأنا أستقل حافلة المدرسة في السادسة صباحًا كل يوم. بطريقة ما، وُفقت أمي لشراء سترة تتناسب مع كل احتياجات ابنتها كي ترافقها 5 سنوات دراسية، كانت رفيقتي علامة مميزة في صور المدرسة وعاملًا مشتركًا بين أغلب ذكرياتي المدرسية. نحن نبيع الأقدام الجميلة يعتني التسويق بخلق صورة ذهنية معدلة ومحسنة تتضمن فلسفة حياتية، فيخلق صانع المادة الإعلانية حالة شعورية كاملة يكون المنتج فيها ركن الصورة. أن تنتج إعلانًا ناجحًا لماركة أحذية نسائية لا يعني أن تهتم بأناقة تصميم الحذاء وكونه مريحًا، يتمحور الأمر حول الترويج للأقدام الجميلة، سيكمل العقل الصورة، أن تحصلي على قدم جميلة يعني أن ترتدي هذا الحذاء بالذات. تصل هذه الحالة الشعورية بسهولة إلى الذات العميقة وسرعان ما تتبناها كتعريف، وتبدأ حمى الرغبة فى التحسين المستدام للوصول إلى تلك الصورة الفردوسية النهائية، وبالتالي فعملية التسويق لا تخاطب الاحتياج الفطري، بل تخاطب الشهوة العميقة المختفية عن أنظار حتى أصحابها، وتعيد إبرازها وتوليتها موقع القيادة من الذات.. أن تعاني برودة الجو يعني أنك تحتاج إلى سترة مناسبة تقوم بالتدفئة، أما أن تشاهد وصلة إعلانية لمحال ثياب فسيتحول الأمر إلى الحاجة إلى سترة تبرز مفاتنك وتجعلك تحت الأنظار وتغذي شعورك بالتفرد، وبالطبع تؤدي مهمة التدفئة. أدت الثورة الرقمية إلى نشأة نمط جديد للاستهلاك، فقد صارت هنالك حاجة ماسة لخلق احتياجات جديدة لدى المستهلك تدفعه لمزيد من الشراء، وبالتالي مزيد من التصنيع ومزيد من دوران الماكينات والمال. كان ذلك قبل نحو أربعة عقود من الزمان، وقبل أن تتولى وسائل التواصل الاجتماعي القيادة. الآن الحاجة لا تُخلَق عند المستهلك وحسب، بل المستهلِك ذاته يتم خلقه. فعبر سلسلة من الدعايات الموجهة والمباشرة والخفية جدًا يتم خلق طبقات جديدة من المستهلكين لمنتَجات جديدة، ثم يتم بيع هذه الطبقة للمعلن، فتصير أنت بهويتك الإلكترونية ضمن «نوع مستهلكي المنتج كذا»[1]، وبالتالي تضمن وسائل التواصل الاجتماعي وصول الإعلان للشخوص المستهدفين بدرجة دقة أعلى بكثير من تلك التي كانت تمنحها وسائل الإعلام العادية كالتلفاز والراديو. فبينما كان يبيع التلفاز للمعلن مساحة من البث في وقت محدد، ويتولى المعلن تخمين ما إن كان المستهلك المستهدف سيتعرض تلك المادة المعلنة في هذا الوقت أو لا، يقوم فيس بوك – مثلًا – ببيع نوع مستهلكين محدّد دقيق بأعداد تقريبية يصلهم الإعلان بشكل مباشر واستهداف عالي الدقة، وبتكلفة أقل. وكمستهلك لمنتَج ما يتم خلقك وتصميمك عبر اختراق حاجز التجاهل الإعلاني الذي طوره النوع البشرى عبر عقود من التعرض لوصلات إعلانية مباشرة، فبينما تظن أنه بإمكانك الإفلات من التلاعب التسويقي عبر تجاهل الإعلان المباشر يتم اختراق وعي مستخدي الموقع عبر بث المفهوم المجرد للاحتياج ليتحرك بصورة فيروسية، فيصلك عبر منشورات الثقات المقربين من الأصدقاء الذين تخيّرتَهم بعناية ظنًا منك أنك خلقت بيئة آمنة لأفكارك، فتتسلل الحاجة إلى وعيك الداخلي شيئًا فشيئًا، وتتهيأ نفسيًا لتقبل المنتج الاستهلاكي الذي يصلك عبر المعلن كمنقذ من الضلال والتيه الذي تعانيه نفسك لفقدان المعنى الذي يسده هذا المنتج. تصنع وسائل الإعلام الاجتماعي ثقافة الاحتياج للمنتَج، وتهيئ جمهورًا متشوفًا ومستقبلًا للمنتَج قبل إخراجه في وصلات دعائية، يحدث ذلك بقصد أو بصورة تلقائية جراء عمليات المشاركة المتكررة للأفكار والصور الذهنية التي تخبرك دومًا كيف تعيش حياة أفضل. ذاكرة بحجم الأقراص المدمجة إن كنت ترى أنني أراك بطريقة لا تحبها فإنك ربما تميل إلى مواءمة وتعديل ذاتك إلى أن ترضيك في النهاية الطريقة التي ترى أنني أراك بها. — لوتشيانو فلوريدي، الثورة الرابعة، ص106 في أعوام الثورة الأولى، وبينما أنهت لتوها المرحلة الثانوية، كانت تحتفي بمظهر خارجي واحد وتجتهد في تطبيقه، عززت تلك الصورة عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي ولجت إليها حديثًا؛ صورة الفتاة النحيلة التي ترتدي الجينز وحجابًا قصيرًا وحقيبة ظهر وحذاءً رياضيًا وبيدها كوب قهوة سريعة التحضير من الحجم الكبير، تنتقل من مسيرة إلى مسيرة، ومن ندوة إلى اجتماع إلى وقفة احتجاجية. بعد أعوام، خفتت الحالة الثورية واستحالت هذه الصورة إلى فتاة ترتدي فستانًا مخمليًا ذا نقوش مزهرة، وحجابًا ورديًا مع خاتم فضي رقيق، وتمسك بيدها فنجانًا من القهوة التركية المحضّرة على مهل، وكتابًا. تختلف كثيرًا منشورات الفتاة بين الحالتين؛ فبينما كانت الفتاة ذات الجينز تشارك أصدقاءها الافتراضيين أبيات درويش وتضع صورة جيفارا واجهة لحسابها، كانت الأخرى تنثر صور الزهور وأبياتًا من الغزل القديم. قدّم الإنترنت نفسه كوسيلة للحفظ إضافة إلى كونه وسيلة تواصل، فالتطور التكنولوجي عُني أيضًا بتطوير عمليات تخزين البيانات وتسهيل استرجاعها. لكنه عُني أكثر بحمى التطوير، فبينما كان المنتَج الإلكتروني يقدِّم إليك نفسه من جهة كأداة لتخزين البيانات وسرعة الوصول إليها، كان يقدِّم نفسه من جهة أخرى كأداة منبتة الصلة عن سابقتها، فأنت مع كل منتَج متطور تبدأ علاقة جديدة مع عالم الإلكترونيات؛ فالحاسبات اللوحية ذات نظام تشغيل (أندرويد) لا يحتاج التعامل معها إلى أدنى معرفة بنظام التشغيل السابق عليها (مايكروسوفت ويندوز). يعني ذلك أن مخزون المعلومات على أجهزة ويندوز سيستحيل التعامل معه مع إحلال أندرويد محله إحلالًا كاملًا. تحديدًا هذا ما حدث مع بيانات الأقراص المدمجة وقبل ذلك أشرطة الفيديو. كذلك هو حال صفحات الويب التي لا تتعرض لتحديث، تسقط من ذاكرة شبكة التواصل العالمية[2]. في عالم تتحكم فيه التكنولوجيا بشكل مفرط تنتَج أجيال بأدمغة إلكترونية، تمتاز بنفس صفات أجهزتها التي تداوم التواصل معها أكثر من استدامة التواصل البشري. فذوات أجيال التسعينيات تعاني توهم الحفظ والتسجيل، فبينما تدفع بكل ذكرياتها وخبرتها البشرية إلى مواقع التواصل الاجتماعي متوهمة حفظها بذلك، تفقد من جانب آخر القدرة على التواصل مع ذلك القديم المخزون، إما بتغيير أنظمة التشغيل التي يمكنها قراءة تلك البيانات، أو بتطور الذات نفسها. فتلك الذات إلكترونية الصفات أيضًا حملت من أجهزتها حمى التطوير اللا-متناهي، فهي في وهم التطور والرقي الذاتي منبت الصلة عن ماضيه في كل لحظة؛ ما يجعلها تعاني من التواصل مع نسختها القديمة مع كل تطور تتبناه. يقول زيجمونت باومان فى كتابه «الحب السائل»: يبدو متصفح واجهة حسابه على فيس بوك في لحظات الصباح الباكرة كفأر يعاني تغير مجاريه مع كل منشور يتعرّض له. فبينما عملية التعلّم، أو بالأحرى عملية بناء الذات تحتاج إلى فترة من التعرض المستقر لخبرة ما والاحتكاك بها والتفاعل معها، يتعرض مستخدم فيس بوك لعدد لا نهائي من الخبرات والصور الذهنية الكاملة المرسومة بعناية فائقة والتي تنفذ لذاته في لحظة واحدة. وبما أننا نملك ذاتًا إلكترونية تعاني من حمى التطوير المتسارع فنحن ننتج من ذواتنا نسخًا سطحية هشة لم تخضع لعملية تعلم وتطور متقنة، لتكمل بدورها الدوران في رحلة حمى التطور مع كل خبرة إلكترونية تتعرض لها. لماذا لا أحب سترتي الجديدة؟ في بيئة غير مستقرة، فإن الحفظ واكتساب العادات، وهما السمتان البارزتان للتعلم الناجح، يأتيان بنتائج عكسية، بل ربما ينجم عنهما عواقب وخيمة. فما يثبت أنه مميت في كثير من الأحيان للفئران تلك الكائنات الذكية للغاية والقادرة على التعلم بسرعة — إنما هو عنصر عدم الاستقرار، عنصر تحدي القواعد.[3] سبّب إحلال الآلة محل اليد البشرية في عملية التصنيع وفرةً فى المنتجات، كما أدى إلى شيوع مفهوم إمكانية الاستبدال، بل خلق الحاجة للاستبدال، وأمكن لهذا المفهوم التسلل للعلاقات البشرية فلم تعد مقولة مثل «قد تعاهدنا ألا يفرقنا إلا الموت» مقولة حاكمة للعلاقات الإنسانية، يمكنك الاستبدال بها سعي دءوب نحو علاقات أكثر سهولة وأسرع تحققًا ولا تطلب تضحيات ومتاعب للحصول عليها، فالقاعدة الأساسية في الحياة صارت هي أننا «يمكننا استبدال كل شيء»[4]. أصبحنا ننتج علاقات هشة سريعة قابلة للاستبدال والتفتت مع الأشخاص، وعززت سرعة وسطحية العلاقات على وسائل التواصل الاجتماعي التي لا تتطلب إلا كبسة زر لتبدأ أخرى – موت تلك المهارة لدينا، مهارتنا في خلق علاقات جديدة. كان طبيعيًا أن نعاني حالات شعورية هشة تنسحب بشكل مباشر على علاقتنا بالأشياء القابلة بصورة أسرع وأخف للاستبدال، فبدلًا من منتجات ذات دوامية عالية نحمل معها ذكريات كثيرة وخبرات متتالية، صارت علاقتنا بالأشياء تعني «أنا أستخدمك إلى أن يجدّ جديد». قد تبدو تلك المقالة محاولة لفهم تطور مفهوم الاستهلاك لدى إنسان العصر الحديث المفرِط تكنولوجيًا، أو تساؤلًا حول ما إن كان ما نتبناه ونحبه نابعًا من ذواتنا أم أننا أصبحنا لا نملك ذواتًا داخلية عميقة بالأساس؟ لكن الواقع أن تلك المقالة ليست إلا محاولة للبحث عن سترة كحلية مناسبة لا أكثر. المراجع فلوريدى، لوتشيانو (2017)، الثورة الرابعة: كيف يعيد الغلاف المعلوماتى تشكيل الواقع الإنسانى، ترجمة: لؤى عبد المجيد السيد، عالم المعرفة، المجلس الوطنى للثقافة والفنون: الكويت، ص86. المرصدر السابق: ص119 باومان،زيجمونت.(2017).”الحب السائل: عن هشاشة الروابط الإنسانية”، ترجمة حجاج أبو جبر. الشبكة العربية للأبحاث والنشر:بيروت.ص40 المصدر السابق:ص39 مكنيل،جون روبرت.(2018).”الشبكة الإنسانية: نظرة محلقة على التاريخ العالمى”،ترجمة مصطفى كامل.عالم المعرفة:المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب، الكويت. قد يعجبك أيضاً رمضان في العهد العثماني: روحانيات ومباهج أشهر 50 خرافة في علم النفس: حان وقت البحث عن الحقائق أحكام الإعدام: هل تحقق العدالة الناجزة في مصر؟ تشاثام هاوس: الأسد أكثر سعادة في لعبة الانتظار شاركها 0 FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram يمنى مدحت Follow Author المقالة السابقة الدين والطب: التداوي بالحبة السوداء والعسل أم الطب الحديث؟ المقالة التالية عمرو خالد: من إسلام السوق إلى سوق من غير إسلام قد تعجبك أيضاً احفظ الموضوع في قائمتك ليس بالصلاة والملائكة: سر انتصار المسلمين على جيوش الفرس والروم 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك شاهَد صراع محمد علي والمماليك: «القاهرة عام 1807» كما رآها... 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الليبراليون في الخليج العربي: الماضي والحاضر السياسي 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك 5 عوامل تعيق الاستثمار الجيد في بيئة العمل المصرية 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك قتل أكثر من 1000 من «الروهينجا»: إبادة مستمرة وعالم أصم 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك سياج بغداد: خطة أمنية أم حاجز جديد؟ 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك قراءة في مفهوم الحاكمية عند «سيد قطب» 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك كارل بوبر: الفنون والفلسفة وأمور أخرى 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك المجتمع المنسي في خطاب «المثليين» 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك المدارس الدولية في مصر: 7 معلمين يحكون تجاربهم 28/02/2023 اترك تعليقًا إلغاء الرد احفظ اسمي، البريد الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح للمرة القادمة التي سأعلق فيها.