نملك الملايين لكننا فقراء، نستطيع بالكاد شراء الطعام، لكن في حال حدوث أي طوارئ صحية فسنموت بسبب الارتفاع المبالغ فيه لأسعار الأدوية.





ميجاليدا أورونوز، ممرضة فنزويلية تبلغ من العمر 43 عامًا.

خمس سنوات والأزمة الاقتصادية لا تزال تتفاقم، أرفف محلات البقالة فارغة، معدلات الجريمة تسجل أرقامًا قياسية، وعملة وطنية تتآكل قيمتها على نحوٍ متسارع. بين تهمٍ بالفساد تُلقيها المعارضة على الحكومة ودفاعٍ مستميت من الحكومة عن نفسها يضيع حق المواطن، الذي وجد نفسه غير قادرٍ على تحمل تكاليف الطعام والدواء.

هذا هو الحال في دولة فنزويلا الواقعة على الساحل الشمالي لأمريكا الجنوبية. دولةٌ معروفة بغناها بالموارد الطبيعية وباحتياطيها الضخم من البترول. إلا أنها تواجه أزمة تضخم هائلة، فلا قيمة لعملتها الوطنية «بوليفار» أمام الارتفاع الجنوني لأسعار السلع والدواء.

فصار المواطن الفنزويلي في صراعٍ يومي من أجل البقاء، فأصحاب المتاجر يخزنون البضائع لأنهم على يقين أن أسعارها سترتفع أضعافًا مضاعفة خلال أيام. وباتت المقايضة الوسيلة الأكثر رواجًا، فلا عجب أن تجد أحدهم يقايض سمكًا طازجًا ببعض أكياس من الدقيق، كما ظهر في صور نشرتها وكالة رويترز.

فقد تسبب هذا الوضع القاسي في إجبار مئات الآلاف من المواطنين على الفرار من البلاد لأنهم لا يجدون ما يأكلونه؛ إذ أشارت

السلطات الكولومبية

إلى أن نحو 870 ألف فنزويلي موجودون الآن في كولومبيا.


تضخم «جامح» رغم غنى الموارد

إن فنزويلا من أشد حالات التضخم الجامح التي شهدناها منذ مطلع القرن العشرين تقريبًا.





روبرت رنهاك، مسئول في صندوق النقد الدولي.

تزخر فنزويلا بالعديد من الموارد الطبيعية، إذ يبلغ احتياطيها من النفط الخام المثبت على موقع منظمة الدول المصدرة للبترول«أوبك» نحو 302,809 مليون برميل، وهو ما يمثل أكبر احتياطي نفطي في العالم. كما تمثل إيراداتها النفطية 98% من العائدات الإجمالية لصادراتها.

هذا إلى جانب غناها بقدر هائل من الموارد الطبيعية الأخرى؛ كالغاز الطبيعي والحديد والذهب والألماس وغيرها من المعادن الثمينة. لكن بالرغم من كل ذلك، فإنتاجها من النفط قد انخفض بمقدار النصف خلال العشر السنوات الماضية حتى وصل إلى 1,4 مليون برميل في يوليو/تموز الماضي. الأمر الذي ساهم في خلق أزمة اقتصادية طاحنة.

إذ ارتفعت نسبة العجز بمقدار 20% من

إجمالي الناتج

الداخلي. بينما بلغ الدين الخارجي نحو 15 مليار دولار، في حين أن احتياطياتها من النقد لا تتجاوز تسعة مليارات دولار. فيما انخفضت قيمة العملة الوطنية وأصبح سعر الدولار المبيع في السوق السوداء يعادل 3.5 مليون بوليفار، ووصل

الحد الأدنى

للأجور إلى 5 ملايين بوليفار في الشهر.

الأمر الذي خلق حالة من التضخم «الجامح» كما يسميه الخبراء. هذا المصطلح يستخدم للدلالة على الارتفاع الشديد والمتسارع في الأسعار الذي تفقد معه العملة الوطنية قيمتها ويضطر الناس إلى تخزين السلع، وهو ما يجعل الأسواق أكثر فقرًا وشحًا. حالة التضخم تلك دفعت مسئولين في صندوق النقد الدولي إلى التنبؤ بأن معدل التضخم في فنزويلا سيتجاوز مليون% بحلول نهاية عام 2018.

فيما أشار «ستيف هانكي» الأستاذ في الاقتصاد التطبيقي بجامعة «جونز هوبكنز» إلى أن

معدل التضخم

المسجل في فنزويلا منذ مايو/آيار الماضي يعد الرقم 23 في ترتيب الدول الأعلى في معدلات التضخم عبر التاريخ وفقًا لدراسة أعدها.


مؤامرة خارجية أم فساد سياسي؟

في الوقت الذي تُلقي فيه المعارضة في الداخل وصندوق النقد الدولي والولايات المتحدة اللوم على الحكومة الفنزويلية، يعتبر الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، الذي حاز على ولاية جديدة في انتخابات هذا العام، أن بلاده ضحية مؤامرة خارجية وتواطؤ داخلي.

وفي بيان صدر عن صندوق النقد، حمّل فيه الحكومة الفنزويلية المسئولية عن انخفاض إنتاج النفط والاختلالات الكبيرة في

هيكل الاقتصاد

الكلي للدولة. كما تنبأ بأن المسئولين الحكوميين سيشكلون عجزًا ماليًا إضافيًا عن طريق طباعتهم للمزيد من الأموال. وقد عبر «أليخاندرو فيرنر»، مسئول بارز بصندوق النقد الدولي، أنه إذا استمر الوضع على ما هو عليه، فسينكمش الاقتصاد الفنزويلي بنسبة 50%، مضيفًا أنه بذلك سيكون خلال ستة عقود من بين الدول الأشد انخفاضًا في مستوى الاقتصاد في العالم.

تأتي تلك البيانات والتصريحات في

إطار العقوبات المالية

التي فرضتها الولايات المتحدة على فنزويلا في أغسطس/آب عام 2017، إذ تتهم واشنطن الرئيس الفنزويلي بحرمان شعبه من المواد الغذائية والطبية، وأنه يعمد إلى القمع السياسي بسجن ممثلي المعارضة المنتخبة ديمقراطيًا. فالكثيرون داخل فنزويلا يلقون اللوم على مادورو، ويرون أنه لا يكترث إلا بتشديد قبضته على كرسي السلطة دون النظر إلى الحال الذي آل إليه المواطن الفنزويلي.

لكن الرئيس الفنزويلي له رأي آخر، إذ يعتبر العقوبات المالية من واشنطن «العدوان الأكبر ضد فنزويلا منذ 200 عام»، وأن ما تقوم به الولايات المتحدة يُعد حربًا اقتصادية يدعمها فيها المصرفيون من القطاع الخاص

الذين يهربون

الأموال إلى كولومبيا كجزء من مؤامرة مدبرة لتخريب الاقتصاد.


إجراءات الحكومة للقضاء على التضخم

في محاولة من الحكومة الفنزويلية لإيجاد حل للأزمة أصدرت الاثنين الموافق 20 أغسطس/آب عملة جديدة، أطلقت عليها اسم «البوليفارات السيادية». إذ حذفت من العملة القديمة خمسة أصفار كخطوة لإعادة تقييم العملة. كما بدأت بتداول ثماني فئات ورقية جديدة من العملة، وفئتين معدنيتين. وبحسب ما قاله محافظ البنك المركزي الفنزويلي فإن عملة البوليفار القديمة:

هذه الخطوة صحبها عدة إجراءات؛ تقول الحكومة عنها إنها ستساعد الاقتصاد المتعثر في التعافي، من هذه الإجراءات الآتي:

1. زيادة الحد الأدنى للأجور بنسبة 3500%، أي 34 ضعف معدله السابق، بدءًا من 1 سبتمبر/أيلول.

2. تخفيف الرقابة على صرف العملات.

3. وضع نظام جديد لأسعار الوقود، بأن تحد من تقديم دعم للوقود لمن ليس لديهم هوية.

4. زيادة ضريبة الاستهلاك من 4% إلى 16%.

5. ربط البوليفار السيادي بالبترو (العملة الافتراضية)، التي تعتبرها الحكومة مرتبطة باحتياطيات النفط في فنزويلا.

فيما

أعلن مادورو

أن الدولة ستتحمل فارق زيادة الحد الأدنى للأجور لجميع الشركات الصناعية الصغيرة والمتوسطة، دون أن يحدد الكيفية.


هل قدمت الحكومة حلولًا واقعية؟

ستستمر لبعض الوقت في التداول، ولن يتم إيقاف التعامل فورًا إلا مع الفئات الأقل التي تعادل أقل من 1000 سترونغ بوليفار. أما الأوراق النقدية الجديدة فستطرح بعد عشرين شهرًا من طرح الحكومة لأوراق من فئة 500 ثم 20 ألفًا ثم 100 ألف بوليفار.

اعتبر محللون وخبراء اقتصاد أن برنامج الحكومة لإصلاح الاقتصاد غير واقعي وغير قابل للتطبيق، بل حذروا من أن تتسبب الإجراءات الجديدة في مضاعفة التضخم

بدلًا من كبحه

. فقد وصف «أسدروبال أوليفروس»، مدير أيكاناليتيكا، وهي شركة استشارات اقتصادية مقرها في كاراكاس عاصمة فنزويلا، هذا البرنامج بأنه:

حل تجميلي لن يفعل شيئًا، وفي غضون بضعة أشهر سنعود مجددًا إلى نفس الوضع.

في حين قارن بعض الخبراء وضع فنزويلا بوضع ألمانيا في الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى. كان الاقتصاد في ذلك الحين مُدمرًا، فبعد أن كان الدولار يعادل 4.2 من قيمة عملة ألمانيا الوطنية «المارك» قبل الحرب، بحلول عام 1923 بلغ سعر الدولار نحو 4.2 تريليون مارك.

وفي نهاية المطاف، استبدلت ألمانيا عملتها واستقرت بها. الفارق فقط أنه أثناء التضخم في ألمانيا كان الناس يحملون عربات يدوية يحملون فيها النقود عند شراء البقالة، إلا أن الناس في فنزويلا اليوم تحولوا إلى المعاملات الإلكترونية. لكن لايزال 40% من الفنزويليين لا يملكون

حسابات مصرفية

، فضلًا عن عدم رغبة آخرين في استخدام بطاقات الائتمان لدفع ثمن الأشياء البسيطة، لهذا السبب أصبحت المقايضة أكثر شيوعًا.

كما واجهت زيمبابوي أيضًا مصيرًا مماثلاً تحت قيادة روبرت موجابي بعد أن تسببت سياسة مصادرة الأراضي التي اتبعها موجابي إلى انهيار مالي. ففي مرحلة ما من الأزمة طبعت زيمبابوي عملة بقيمة 100 تريليون دولار. وفي النهاية ألغت البلاد عملتها أيضًا.

لكن الفارق الذي أشار إليه «لانسبيرج رودريغيز»، محلل اقتصادي، أن فنزويلا

قد تكون أقل نجاحًا

في حل مشكلة العملة بسبب تاريخ محاولاتها الفاشل لاستبدال البوليفار. وأضاف أن فرصة زيمبابوي لاستعادة عافيتها أكبر لأن لديها اقتصادًا أكثر تنوعًا من اقتصاد فنزويلا. مشيرًا إلى أن مستوى الفوضى في فنزويلا يجعل من فكرة استعادة الثقة والخروج من هذه الأزمة أكثر صعوبة.