صدر فيلم «المصفوفة The Matrix» في العام 1999، وهو أول أجزاء ثلاثية من بين الأعمال الأكثر نجاحًا وتأثيرًا في تاريخ السينما. تحكي السلسلة ملحمة تخوضها قلة من المناضلين لتحرير الإنسان من سيطرة ذكاء اصطناعي انقلب على البشر فأفناهم عدا قدر يرقد في سبات داخل مزارع للطاقة، تحيا أدمغتهم معًا في عالم افتراضي زائف يدعى «المصفوفة»، لكنه يقدم محاكاة واقعية طبق الأصل. يلعب كيانو ريفز دور البطولة، فهو نيو المبرمج الذي يمارس القرصنة الإلكترونية سرًا. وفي مشهد مبكر، قبل اكتشاف الحقيقة والانضمام إلى المقاومة، نراه يخفي ملفاته الرقمية غير القانونية داخل كتاب عنوانه «التشبيه والمحاكاة Simulacra and Simulation»، فما علاقة الكتاب بعالم المصفوفة الكابوسي؟


بودريار وعالم ما بعد الحداثة

the-matrix-books

نيو يخفي ملفاته غير القانونية في نسخة من كتاب جان بودريار.

نشر جان بودريار «1929-2007»- عالم الاجتماع والفيلسوف والناقد الثقافي الفرنسي – كتاب «التشبيه والمحاكاة» عام 1981. وقد أظهر في تلك الحقبة عزوفًا متزايدًا عن الماركسية، وتحمسًا لكتابات مارشال ماكلوهان «1911-1980» – الأكاديمي والفيلسوف الكندي – حول أحقية وسائل الإعلام ذاتها – وهي عنده جميع صور التكنولوجيا – بالدراسة من المحتوى، فهو القائل: «الوسيط هو الرسالة». وسرعان ما بات تأثير وسائل الإعلام والصور والرموز الموضوع الرئيسي لكتابات بودريار، باعتبارها المؤسس الحقيقي لعالم ما بعد الحداثة، حيث لم ينتفِ المعنى والقيمة والحقيقة فقط.

في كتابه، يرى بودريار أن علاقة الرمز والصورة بالواقع قد تبدلت أكثر من مرة خلال العصر الحديث. فحتى نهاية العصور الوسطى، كانت للرموز معانٍ ثابتة متفق عليها، إذ كانت تعكس واقعًا منفصلاً وسابقًا عليها. لكن بحلول عصر النهضة، بدأ النزاع حول هذه المعاني، مع انتقال الرموز إلى التعبير عن واقع مثالي أو مزيف أو غيبي، مثل الفنون الباروكية ورسومات الكنائس، لكن الواقع المتواري لم يبرح الوجود. ثم اندلعت الثورة الصناعية ونشأ مجتمع الحداثة، لتجتاح العالم نسخ متطابقة لا أصل واقعي لها، فهي نسخ عن تصميمات ونماذج أولية لا تعكس موجودات سابقة، حينئذ بدأ الواقع ذاته في الانكماش والغياب.

أخيرًا، شهد القرن الأخير انتقالاً من الرمز إلى التشبيه/الصورة الزائفة «Simulacra». والتشبيه هو ما ليس له أصل أو نماذج أولية في الواقع، ولا يحمل أي قيمة دلالية أو رمزية. وقد تفاعلت وتشابكت تلك التشبيهات مع عناصر مختلفة منها تحول ثقافة الإنتاج إلى ثقافة الاستهلاك، لتكتسب حضورًا وجاذبية وواقعية غير مسبوقة.

بفضل السمة الأخيرة، أضحت التشبيهات في المجتمع المعولم أشد مصداقية من الواقع ذاته؛ أي أنها أضحت «واقعًا فائقًا Hyperreality». وهو مصطلح ناقشه عدد من مفكري ما بعد الحداثة مثل الأمريكي نيل بوستمان (1955-2003) والإيطالي أومبرتو إيكو «1932-2016»، لكن بودريار اتخذه محورًا رئيسيًا لمشروعه الفكري.

عالم ما بعد الحداثة عند بودريار سيل من الصور والرموز واللغة التي لا أصل لها، بدأت تنهال على رؤوس المستهلكين مبكرًا، مع استشعار الجشع الرأسمالي فرص الربح الكامنة، وتضاعفت الوتيرة بفضل التطور التكنولوجي الهائل سواء في الإعلام والترفيه والتواصل الذي ضاعف إبهار وجاذبية تلك التشبيهات المستقلة بواقعها، أو قل السابقة على واقعها، فهي النموذج التي سيسعى الواقع إلى محاكاتها لاحقًا، ويتحاكم في واقعيته إليها. ما يظهر جليًا في تحاكم السلع في جودتها إلى تصميم رقمي على الشاشة؛ أو الأجساد التي تحاكم/تقارن تلقائيًا بصور العارضين المعدلة رقميًا التي لا تطابقها حتى أجساد العارضين الأصلية، ناهيك بالصور المخلقة – يدويًا أو رقميًا – بالكامل. ولا حاجة هنا إلى بيان أضرار ذاك الضغط النفسي على حياة مئات الملايين حول العالم، بفضل جهود التوعية خلال العقود الأخيرة.

فقدان الشهية العصابي
صور فوتوغرافية لمريضة بفقدان الشهية العصابي.


نظرية الواقع الفائق

إذا انتبهنا إلى أن هؤلاء المستهلكين هم أنفسهم ضحايا الإعلام الممطرون بأكوام هائلة من معلومات وأخبار متناقضة ومتشعبة سلبتهم الثقة في مواقفهم وولاءاتهم وواقعهم بدرجة أو بأخرى، وهم الذين يعانون سيولة في المعاني نتيجة غياب العلاقة بين الدال «التشبيه» والمدلول «الواقع الخارجي»، سهل علينا تفهم ما سيصيبهم من اغتراب يفوق اغتراب الطبقة العاملة عند ماركس، أنتج احتياجات استهلاكية زائفة ومعقدة يستحيل إشباعها إلا آنيًّا، ليرجع المستهلك البائس ثانية لاستهلاك المزيد أملاً في الإشباع، وهو ما يضمن استمرار دوران عجلة الاستهلاك. أو كما تقول ليلي ألين – مغنية وممثلة إنجليزية – في أغنية «الخوف»:

أنا سلاح استهلاك شامل

وليس لي في ذلك ذنب

هكذا برمجت، هذا كل ما في الأمر

في الواقع، الفائق بالطبع، يتجاوز دور السلعة مجرد سد الحاجة الحياتية إلى سد الحاجة الهوياتية بالتعبير على الوضع الاجتماعي والخلفية الثقافية والموقف السياسي وغيرها. تمامًا مثل دلالة نمط الاستهلاك اليوم على الوضع الطبقي التي فاقت في موثوقيتها الحسابات المصرفية. كما يصبح المحتوى المعروض إعلاميًا عن الحياة الاجتماعية والعلاقات الإنسانية والمشاكل الحياتية وقصص الحب أكثر واقعية من الواقع المعاش، ما يفقد الجمهور قدرته على التمييز بين الواقع والخيال، فيتفاعل مع المتخيل ويتخذه مُثُلاً يسعى إلى نسخها. ويسهل تمييز صدى الأخيرة – مثلاً – في الانتقاص/الاستخفاف السائد على نظرة المراهقين اليوم إلى العلاقات الرومانسية والزيجات التقليدية الهادئة.

إلى جانب ذلك، اعتاد الجمهور بهوياتهم القلقة عوالم وشخصيات خيالية يجدونها أقرب إليهم من عوالمهم وأصدقائهم أنفسهم. إذ يسهل على كل جماعة ذات ثقافة أو نمط حياة مشترك أن تتصور بشبه إجماع ما كانت شخصية تلفزيونية لتفعله في موقف ما، أو الاستشهاد بمواقفها وأقوالها المأثورة. ولعل في ذلك مدخلاً إلى فهم ثقافة «تقمص الشخصيات الخيالية Cosplay» الآخذة في الانتشار عربيًا، حيث تطغى «هوية وقت الفراغ Leisure Identity» بوضوح على غيرها من الهويات/المكونات التقليدية.

وإذا مددنا الخط على استقامته، يعترضنا فيلم «هي Her» الصادر عام 2013، والذي حاز عنه مؤلفه ومخرجة «سبايك جونز» جائزة الأوسكار لأفضل سيناريو أصلي. يدور الفيلم حول حياة «ثيودور تومبلي» الذي لعب دوره «خواكين فينكس»، وهو مواطن في مدينة ما بعد حداثية نموذجية ومثالية، يمكن اعتبارها – إلى درجة كبيرة – العالم المنشود الذي تنهمك تقنياتنا الحالية في خلقه الآن. هناك – لا هنالك – يعمل تومبلي في شركة متخصصة في كتابة الرسائل العاطفية باسم عملائها. ولا شك أن تلك الرسائل المدونة عبر لوحة المفاتيح لكن بخط يحاكي خط اليد، المصاغة وفق شخصية العميل وخبراته وتجاربه بحرفية متطورة، كانت رسائل غرامية أكثر واقعية مما كان العميل ليدونه بنفسه، أو أنها على الأقل باتت كذلك مع صدور الخطاب الأول، الذي سيتحتم على المحبين من لحظتها محاكاته لاكتساب المصداقية.

أما محور الأحداث فعلاقة عاطفية عميقة يخوضها تومبلي مع نظام تشغيل بذكاء اصطناعي وعاطفي متطور، وصوت أنثوي، انتقى لنفسه اسم سامانثا. مثلما اتخذت جارته من نظام تشغيل متطور آخر صديقة لها، وشجعته على الاستمرار في علاقته بسامانثا للتحسن الملحوظ في حياته. وعلى مدار الجزء الأكبر من علاقة تومبلي وسامانثا، التي تضمنت قضاء العطلات معًا، نتيجة صدق المشاعر التي يكنها البطل، يتعامل كما لو أن ما يمنع اجتماعهما مشكلة في المسافة لا الوجود من الأساس. لكن أليست المسافة هي ما يفصلنا حقًا عن ميكي وبيتر بان وسندريلا وعوالم ديزني الخيالية؟


الواقعية الفائقة وترسيخ الخيال الأمريكي

لا يحتاج الكثيرون اليوم سوى تذكرة سفر وبعض المال لزيارة أقرب مدن ديزني لاند الترفيهية إليهم. هناك، في المدن الكارتونية الملموسة، وبين الشخصيات الخيالية الحية، سيشعرون بألفة قد لا يجدونها في المنزل بين العائلة. وهو نموذج نال بالفعل اهتمام بودريار وإيكو. وعنها

يقول

الأخير: «تُنبئُنا ديزني لاند أن التكنولوجيا قادرة على منحنا واقعية أشد مما تمنحنا إياه الطبيعة».

بياض الثلج وسندريلا تستقبلان زوار مدينة ديزني لاند في هونج كونج

بياض الثلج وسندريلا تستقبلان زوار مدينة ديزني لاند في هونج كونج.

لا غرابة في ذلك، إذ تعد الولايات المتحدة الأمريكية الحاضنة الأبرز والمعرض المفتوح للواقعية الفائقة، حتى خصص لها بودريار كتابه «أمريكا» عام 1986، كما نالت النصيب الأكبر من كتاب إيكو «رحلات في الواقعية الفائقة» عام 1987، نشر أولاً باسم «الإيمان بالزيف» عام 1986، وفيهما – وفي غيرهما – وجها نقدًا قاسيًا إلى الثقافة والمجتمع والهوية الأمريكية. إلا أن الواقع الفائق ملازم للتكنولوجيا الحديثة والإعلام المعاصر الذي يسود العالم، بغض النظر عن العولمة التي حقنت الثقافة الأمريكية في أوردة العالم حتى يسعنا نعتها بالـ«أمركة» إن شئنا الدقة، وهو ما يفسر قدرتنا على استشعار مدى تأثير الواقعية الفائقة – ذات النزوع الاستعماري التوسعي – في سلوكياتنا ونمط حياتنا وأغلب ما يحيط بنا هنا في العالم الثالث.

وإن تكن كتابات وأفكار بودريار الحماسية ظلت مثار

جدل

في الحقل الأكاديمي، تعرض صورة عدمية لا جدوى فيها للفعل، فإنها تظل كتابات مؤثرة ثقافيًا، تحفز الروح النقدية وتنبه إلى خلل جسيم في واقعنا المعاصر. لكن تشخيص بودريار الكابوسي لا محل له في فيلم ديستوبيا يعرض ملحمة كفاح ومقاومة لا مبرر لها بغير الإيمان بالجدوى. فزيف عالمنا يختلف جوهريًا عن زيف المصفوفة. يتمتع نيو ورفاقه في أسوأ ظروفهم بترف الكفاح والتضحية ليقينهم بأن لهم واقعًا حقيقيًا بانتظارهم على خلاف عالم الزيف المهيمن هناك. أما نحن فلا حقيقة ولا واقع يسترد من الأساس. نحن نحيا الواقعية المفرطة، حالة بالإضافة إلى كونها أكثر واقعية من الواقع ذاته، فإنها لم تُخفِ الواقع الفعلي أو تُزِحْه إلى أحد الأركان عَلّنَا نسترده يومًا، بل أحالته عدمًا إلى غير رجعة.


المراجع



  1. جان بودريار، المصطنع والاصطناع، جوزيف عبد الله (مترجم)، بيروت، المنظمة العربية للترجمة ،2008.
  2. بدر الدين مصطفى أحمد محمد، من المحاكاة إلى الواقع الفائق: قراءة في فكر جان بودريار، الكويت، حوليات الآداب والعلوم الاجتماعية، الحولية 37، الرسالة 458، 2016.
  3. Niall Lucy, A dictionary of postmodernism, West Sussex, John Wiley & Sons, 2016.
  4. Rojek, Chris. and Turner, Bryan S. Forget Baudrillard? / edited by Chris Rojek and Bryan S. Turner Routledge London ; New York 1993

  5. Douglas Kellner, “Jean Baudrillard”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Winter 2015 Edition), Edward N. Zalta (ed.)