لطالما كانت ثورة 1919 في الذاكرة التاريخية المصرية ثورة سلمية عفوية وتلقائية، إلا أن تلك الثورة كانت على أرض الواقع ولاسيما في الريف المصري أكثر عنفًا بكثير من تصورها المستقر في المتخيل التاريخي السائد. كما جرت خلالها أحداث أشد قسوة بما لا يقاس مع ما ظهر في الأعمال الدرامية والسينمائية المصرية التي ركزت دومًا على فاعليات ومجريات الثورة في القاهرة، من خلال عرض المشاهد التمثيلية لمسيرات ومظاهرات القساوسة والمعممين والأفندية في شوارع وأزقة العاصمة.

أيضًا لم يأتِ اندلاع ثورة 1919 عفو الخاطر، كرد فعل تلقائي وحسب على نفي سعد زغلول ورفاقه من أعضاء الوفد المصري إلى «مؤتمر الصلح»، ولكن كانت هناك بنية تنظيمية سرية لعبت دورًا في دفع الأحداث من وراء المشهد، وفي دحرجة كرة اللهب التي ازدادت اشتعالًا من خلال التفاعل الجماهيري الواسع وغير المتوقع في كثافته من جموع الشعب المصري.

العنف والبنية التنظيمية السرية في تلك الثورة، هو موضوع هذا المقال من ملف إضاءات «

مائة عام على ثورة 1919

».


قصة إنشاء الجهاز السري

رغم الغموض الذي يكتنف نشأة الجهاز السري لثورة 1919، فإن تتبع المواقف وخط تطور الأحداث في أواخر العقد الثاني من القرن الماضي، يشير إلى أن ذلك الجهاز نشأ بتراكم خبرة العمل السياسي السري الذي كان يسير بالتوازي مع جهود تشكيل الوفد المصري للمطالبة بالاستقلال بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.

كما يحتفظ الأرشيف البريطاني فى سجلاته بوثائق في ملف مصنف كسري معنون باسم «عبدالرحمن فهمي ومحاكمته». ويعتبر الأخير المصري الوحيد الذى تحتفظ بريطانيا بملف أرشيفي كامل سرى باسمه، وهذا يوحي بمدى أهمية الرجل في أعين الاحتلال البريطاني. وقد اطلعت د.شاهيناز طلعت على تلك الوثائق، ونشرتها لأول مرة في مصر في كتابها: «الدعاية والاتصال» المنشور عام 1987.

لو أردنا أن نضع أيدينا على نقطة بداية محددة، من الممكن أن نعزو بداية الجهاز السري للقاء الذي تم في 13 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1918، بين سعد زغلول، وكيل الجمعية التشريعية المصرية في ذلك الوقت، مع عبدالرحمن بك فهمي، لترتيب النشاط التنظيمي السري الذي صاحب العمل السياسي المعلن لسعد ورفاقه.

تجيب السيرة الذاتية لعبدالرحمن فهمي عن السؤال عن سر اختيار الأخير تحديدًا من قبل سعد زغلول للقيام بهذا الدور، حيث خدم فهمي في الجيش المصري كضابط 8 سنوات، وخرج منه عام 1898 برتبة يوزباشي بعد حصوله على الوسام المجيدي وهو ملازم ثانٍ، وميدالية الحرب المصرية، وعلى النجمة المصرية، ونيشان الامتياز من تركيا، ووسام السيف السويدي، تقديرًا لدوره في حروب السودان.

كما خدم فهمي في الإدارة الحكومية المصرية مدة غير قصيرة من الزمن، حيث عمل مأمورًا لمركز سمالوط، ثم وكيلاً لمديرية القليوبية، ثم الدقهلية، ومكث في هذا الإطار 18 سنة وكيلًا في المديريات المصرية، ثم ترقى مديرًا في عام 1906 حيث أصبح مديرًا لبني سويف ثم للجيزة، ثم عين وكيلاً للأوقاف.

في اللقاء المشار إليه أعلاه، أسند زغلول لفهمي مهمة الإشراف على عملية جمع التوكيلات من الشعب المصري، كما كلفه بمراقبة الوزراء وكبار الشخصيات الرسمية التي تقاوم تلك العملية. وكان سعد يجتمع بفهمي يوميًا على انفراد قبل نفيه إلى جزيرة مالطة. وقد فكر زغلول في البداية أن يختار فهمي عضوًا في الوفد، ثم عدل عن ذلك، وآثر أن يبقى الأخير في الظلال بعيدًا عن الأضواء.

خلال عملية جمع التوكيلات البريئة في مظهرها، كان فهمي يشكل أجهزة سرية تتصل به مباشرة، وكان من أبرز صفات فهمي الشك، لذا كان يراقب الجميع، الأصدقاء و الأعداء على حد سواء، وعلى هذا النحو استطاع في وقت قصير تدشين بنية تنظيمية واستخبارية محكمة تمكّن من إدارتها بكفاءة ودقة.


الوجه العنيف لثورة 1919

في 12 مارس/آذار عام 1919، بعد انتشار الإضرابات والمظاهرات في القاهرة على إثر اعتقال سعد زغلول وزملائه من أعضاء الوفد المصري المعد للسفر إلى مؤتمر الصلح بباريس، اتجه المصريون الغاضبون في الأقاليم إلى قطع خطوط السكك الحديدية وأسلاك التلغراف والتليفون، وكان أول خط قطع بين طنطا وتلا، وامتد القطع بعد ذلك إلى مختلف الخطوط، وتعذر على الناس الانتقال بين جهة إلى أخرى، إلا عن طريق السفن في النيل والترع، وصارت البلاد جميعها في حالة ثورة.

امتدت الثورة إلى صعيد مصر، ووصل لهيبها إلى مدينة أسيوط التي اشتعلت فيها النيران في مشهد مفزع عدة أيام جراء حرق الأكوام الهائلة من التبن المكدس لحساب السلطة العسكرية، حيث كان يُضغط التبن ويكبس في مكبس معد خصيصًا لعمل قوالب مضغوطة تصلح للوقود، وقد حطم الثائرون هذا المكبس وحولوه إلى أنقاض. كما هجم الثوار على مركز البوليس في المدينة وجردوه من السلاح، وهاجموا بها القوات البريطانية، التي تصدت لهم وكبدتهم خسائر جسيمة.

كان أحد أشد حوادث العنف في الوجه القبلي مهاجمة الثوار في 18 مارس/آذار 1919، القطار المقبل من الأقصر إلى القاهرة، في ديروط ثم في دير مواس؛ إذ كان في ذلك القطار ضباط وجنود إنجليز، قتلهم الثوار، وبلغ عدد هؤلاء القتلى ثمانية، ثلاثة ضباط من بينهم مفتش السجون في الوجه القبلي كله، وضابط آخر برتبة ميجور، وضابط برتبة ملازم، وخمسة جنود.

علي خلفية تلك الأحداث تفاقمت الحالة في أسيوط، واتخذ الجنود البريطانيون تشكيلًا دفاعيًا، وتعرضوا في صباح 23 مارس/آذار للهجوم قبل أن تصلهم الإمدادات اللازمة، حيث تمكن الثائرون من مهاجمة النطاق الدفاعي وأخذوا يطلقون النار على الجنود البريطانيين.

في 24 مارس/آذار، وصلت طائرتان حربيتان مائيتان إلى أسيوط، واشتركتا في أعمال الدفاع، وألقتا بعض القنابل فقتلت بعض الأهالي وأصابت بعضهم، كما سارت نجدات حربية نهرية، ولقت مقاومة عنيفة بين ديروط وأسيوط من الأهالي المهاجمين الذين بلغ عددهم بضعة آلاف مسلحين بالبنادق والعصي.

وقد أعلن الثائرون خلال ثورة 1919 تشكيل جمهوريات مستقلة في زفتى والمطرية وفارسكور والمنيا، معلنين تمردهم لا على الاحتلال البريطاني وحسب، بل على النظام الملكي كله.


بنية الجهاز السري لثورة 1919

كان الجهاز السري بحسب الكاتب الصحفي الراحل مصطفي أمين في كتابه «الكتاب الممنوع: أسرار ثورة 1919» ينقسم إلى عدة فروع:

1. دائرة استخباراتية استفادت من دعم أنصار ثورة 1919 داخل أروقة الحكم، فكان لها عيون في قصر السلطان حسين كامل ودار الحماية البريطانية، وعيون في قيادة جيش الاحتلال، وعيون على الوزراء وكبار السياسيين.

2. إدارة للاتصالات الخارجية، لها متعاونون في إنجلترا، وفي سويسرا، وفي إيطاليا، وفي باريس.

3. إدارة لتحريك المظاهرات والاضطرابات، وعمليات التخريب.

4. إدارة للدعاية تشرف على توجيه الصحف وتزويدها بالأخبار.

5. إدارة للاغتيالات.

كان الذين يعملون في كل فرع من فروع هذا الجهاز، لا يعرفون شيئًا عن باقي الفروع كما يقول أمين، لا أسماء أعضائها أو حتى أسماء تلك الفروع.

بحسب المدعي العام البريطاني مستر ماكسويل الذي طالب بإعدام عبدالرحمن فهمي في جلسة عقدت بتاريخ السبت 24 يوليو/تموز 1920، يتكون الجهاز الذي يشرف عليه عبدالرحمن فهمي من ثلاثة أقسام: قسم خاص بالمنشورات، وقسم للقنابل والاغتيالات، وقسم لشراء الأسلحة. كما ذكر ماكسويل أن السلطة العسكرية البريطانية عثرت داخل الأوراق المضبوطة لدى المتهمين، على مستندات تثبت أن لدى الجهاز اتصالات في السودان، وسوريا، والعراق، وتركستان، واليابان، وإيطاليا، وتركيا، وإنجلترا والهند.

حسب ما يشير ماكسويل، كان للجهاز رجال في مختلف المديريات، والأحزاب السياسية، وفي كل قسم في الجيش والإدارة والمحافظات، حتى في مكتب مفتي الديار المصرية، وكانت منشوراته تصدر تحت أسماء عديدة مثل «اللجنة المستعجلة» و«الشعلة» و«المصري الحر» و«اليد السوداء».

كان لدى الإنجليز تساؤلات عديدة حول قدرة الجهاز السري للثورة على الاتصال بفروعه في الأقاليم المصرية على الرغم من أن السكك الحديدية مقطوعة، والهواتف مراقبة، والبريد مراقب، والزعماء والقادة السياسيين المصريين تحت الرقابة، وعبدالرحمن فهمي نفسه مراقب.

وأثناء إقامته في باريس وقت مؤتمر الصلح، كان سعد زغلول يتبادل الرسائل مع عبدالرحمن فهمي بخصوص الثورة المندلعة في أرجاء البلاد آنذاك. كان زغلول يكتب تلك الرسائل بالحبر السري فوق مجلات فرنسية، وكان يحمعها رسول من باريس إلى القاهرة. وكان الزعيم السياسي الراحل أحمد ماهر هو المسئول عن عملية قراءة تلك الرسائل، بعد أن يمرر على صفحات تلك المجلات مكواة ساخنة؛ بل إن سعد كان يكتب رسائله بالحبر السري داخل نسخ من صفحات مضبطة مجلس العموم البريطاني، وعندما كان الإنجليز يفتشون البريد، لا يخطر ببالهم أن مضبطة مجلس العموم تحوي تعليمات سرية لثورة مصر، وكانت الكتابة تتم بطريقة معقدة ومبعثرة بين الآلاف الصفحات.

وتستعرض إحدى الرسائل السرية المرسلة من عبدالرحمن فهمي إلى سعد زغلول في لندن، مدى قدرة ذلك الجهاز على التعبئة السياسية والتواصل بين القيادة والقواعد، من خلال لفت النظر إلى تقرير صحفي لشبكة رويترز يتناول تلك النقطة.

سري

17 مارس سنة 1920

من عبدالرحمن فهمي بالقاهرة إلى سعد زغلول بلندن

أستلفت نظركم إلى ما بعث مُكاتب رويترز في القاهرة إلى الصحف الأوروبية تلغرافيًا، حيث جاء في آخر التلغراف المذكور ما يأتي: «إن تشكيل الوفد وهيئته التنفيذية (الطلبة) حالة من الضبط، بحيث إن كل الأوامر والتعليمات يمكن توزيعها وتنفيذها في جميع أنحاء مصر في 24 ساعة».


المجلس الأعلى للاغتيالات

كان ضمن جهاز عبدالرحمن فهمي السري، مجلس أعلى للاغتيالات، وكان هذا المجلس مكون من عدد من الشخصيات التي صار لها شأن بعد ذلك في الحياة السياسية والثقافية المصرية من أبرزهم الزعيمان الشهيران محمود فهمي النقراشي وأحمد ماهر، والمؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعي، كما كان يضم المجلس أعضاء آخرين كعبداللطيف الصوفاني وضابط البوليس مصطفى حمدي، ومحمد شرارة، وحسن كامل الشيشيني، وقد كانت الاجتماعات تعقد في منزل عبد اللطيف الصوفاني.

بعد عمليات الاعتداء على الوزراء، انسحب عبداللطيف الصوفاني وعبدالرحمن الرافعي، ثم انسحب محمد شرارة لأنه عُيِّن قنصلاً لمصر في مدينة ليون، ثم في باريس، وقد أصبح الأخير فيما بعد رئيسًا لهيئة البريد ثم سفيرًا ووكيلًا لوزارة الخارجية.

وقد أقدم الجهاز السري على عدد من المحاولات الفاشلة لاغتيال أعضاء مجلس الوزراء المصري، ومن تلك المحاولات على سبيل المثال:

1. إلقاء قنبلة على رئيس الوزراء يوسف باشا وهبة في أكتوبر/تشرين الأول عام 1919.


2. إلقاء قنبلة على إسماعيل سري باشا وزير الأشغال في 28 يناير/كانون الثاني 1920.

3. إلقاء قنبلة على محمد شفيق باشا وزير الزراعة في 22 فبراير/شباط 1920.

4. إلقاء قنبلة على حسين درويش وزير الأوقاف في 8 مايو/آيار 1920.