تُعتبر مسألة البدايات التاريخية المبكرة لظهور مذهب أو فرقة دينية معينة، من أصعب المسائل التي تواجه الباحث في تاريخ الأفكار بشكل عام وتاريخ الدين على وجه الخصوص. السبب الرئيس في صعوبة ذلك الأمر يتمثل في أن أتباع كل مذهب يرفضون القول بتاريخية هذا المذهب، ولا يوافقون على الادعاء أن قيام مذهبهم وتشكله كان نتيجة ومحصلة لمجموعة من العوامل والظروف التاريخية البشرية التي تطورت مع مرور الزمن، لتتمخض في النهاية عن قيام المذهب بصيغته النهائية المعتمدة.

هذا الموقف من الممكن أن نلاحظه بشكل واضح في الكثير من الكتابات الشيعية التي ناقشت توقيت ظهور المذهب الشيعي، حيث نجد أن جميع علماء الشيعة على مر التاريخ قد قالوا بأن التشيع لم يكن أمرًا طارئًا على الإسلام، وأن الشيعة الأوائل قد ظهروا في عصر الرسول نفسه، ومن ذلك قول الحسن بن موسى النوبختي في كتابه «فرق الشيعة» أن «الشيعة وهي فرقة علي بن أبي طالب عليه السلام، المسمون شيعة علي في زمان النبي، معروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته…»، ويتابعه في ذلك عدد من أعلام الشيعة المعاصرين، الذين ادعوا «أن أول من وضع بذرة التشيع في حقل الإسلام هو صاحب الشريعة الإسلامية نفسه»، بحسب ما يذكر العالم الشيعي المعاصر محمد الحسين آل كاشف الغطاء في كتابه «أصل الشيعة وأصولها»

.


الظهور التاريخي الأول لأنصار علي بن أبي طالب

من الممكن أن نلاحظ أن الفترة التي أعقبت وفاة الرسول واختيار الخليفة الأول أبي بكر الصديق في سقيفة بني ساعدة، قد شهدت الميلاد الحقيقي لما يمكن أن نسميه البذرة الأولى للتشيع، حيث تتضافر الروايات السنية والشيعية على القول بأن هناك نفرًا من المسلمين قد أيدوا علي بن أبي طالب في موقفه الرافض لنتائج اجتماع السقيفة، وأن مواقف هؤلاء قد تباينت واختلفت في طبيعتها وشدتها، فمنهم من تعاطف مع علي وإن كان قد بايع أبا بكر، ومنهم من رفض مبايعة الخليفة الأول رفضًا مطلقًا وحمل السلاح في سبيل ذلك.

من أهم الشخصيات التي تجتمع المصادر السنية والشيعية على موالاتها لعلي بن أبي طالب في تلك الفترة التاريخية الدقيقة، شخصية الزبير بن العوام، حيث تؤكد المصادر التاريخية أن الزبير قد انقطع مع علي في بيته، ورفض أن يبايع أبا بكر، بحسب ما ورد في صحيح البخاري، بل إن بعض المصادر قد أكدت على أن الزبير قد شهر سيفه وأقسم ألا يرجعه لغمده حتى يُبايع عليًّا بالخلافة، وذلك بحسب ما يذكر ابن الأثير في كتابه «الكامل في التاريخ».

في الحقيقة، نستطيع أن نتقبل فكرة نصرة الزبير لعلي في تلك المرحلة، خصوصًا وأن هناك صلة قرابة قوية تجمع بينهما، فالزبير هو ابن لصفية بنت عبد المطلب، وهي عمة علي بن أبي طالب.

في السياق نفسه، فإن الأخبار قد تواترت واجتمعت على أن الهاشميين كلهم قد وقفوا مساندين لعلي في موقفه تجاه نتائج السقيفة، فكان من أهم رجال بني هاشم الذين أيدوه هم العباس بن عبد المطلب وأبناؤه، بحسب ما يذكر اليعقوبي في تاريخه.

كما أن عددًا من الأنصار كانوا يرون أحقية علي في الخلافة في ذلك الوقت، ويشهد على ذلك ما أورده الطبري في «تاريخ الرسل والملوك»، من أن بعض الأنصار قد قال: «لا نبايِع إلا عليًا» أو «لا نبايع حتى يبايِع علي».

وكذلك فيما أورده اليعقوبي في تاريخه أنه أثناء المجادلات ما بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة، أن أحد الأنصار وهو المنذر بن أرقم، قد قال: «إن فيهم – يقصد المهاجرين – لَرَجلاً لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد»، يعني عليًا بن أبي طالب.

وتجتمع المصادر التاريخية، مثل تاريخ الطبري وطبقات ابن سعد، على القول بأنه كان هناك عدد آخر من الصحابة؛ كعمار بن ياسر، والمقداد بن عمرو، وأبي ذر، وسلمان الفارسي، والبراء بن عازب، وحذيفة بن اليمان، وأبي بن كعب، وأبي الهيثم بن التيهان، وخالد بن سعيد، وعبادة بن الصامت، وبريدة الأسلمي، وأم أيمن يتشيعون لعلي ويعتقدون بأحقيته في خلافة الرسول.

من الملاحظ أن شيعة علي بن أبي طالب في تلك المرحلة كانوا في معظمهم من الصحابة الذين اعتقدوا بأفضليته وأحقيته بالخلافة لمكانه وقرابته من الرسول، ولكنهم لما وجدوا الأمر قد استقر لأبي بكر فإنهم قد تراجعوا عن مواقفهم المعترضة، بل إن بعضهم، مثل سلمان الفارسي على سبيل المثال، قد انضوى تحت لواء دولة أبي بكر وعمر، وشارك في الحروب التوسعية التي خاضتها الجيوش العربية في تلك الفترة. ليس ذلك فحسب، بل إنه أيضًا تولى بعض الوظائف والمناصب القيادية في تلك الدولة، كما حدث عندما تولى إمارة المدائن زمن عمر بن الخطاب.


يوم الدار: الانبعاث القبلي الأول للتشيع

في عام 35هـ، اندلعت الثورة ضد حكم الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وانتهت تلك الثورة باغتياله في بيته على يد مجموعة من الثوار الناقمين على سياساته المالية والإدارية في 18 ذي الحجة 35هـ، وهو اليوم الذي اشتهر في المصادر التاريخية الإسلامية بـ«يوم الدار».

من المعروف أن ثوار الأمصار من الكوفة والبصرة والفسطاط كانوا هم أول من بايع علي بن أبي طالب بالخلافة بعد مقتل عثمان، وأن معظم الصحابة من المهاجرين والأنصار قد انخرطوا في البيعة بعدهم عن رضا وقبول.

من الأمور اللافتة للنظر في وقائع مبايعة علي بن أبي طالب بالخلافة أنها قد تزامنت مع ظهور طبقة جديدة من الشيعة على الساحة السياسية، وكان معظم أفراد تلك الطبقة من القبائل العربية البعيدة عن قريش، وممن كان لهم جهد مذكور وبلاء مشهود في حركة الفتوحات الإسلامية، وخصوصًا في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، حيث كان الكثير من أفراد تلك الطبقة ممن خمل ذكرهم في فترة حكم عثمان بن عفان، وقد ساءهم تسلط بني أمية على شؤون الحكم والسلطة في الدولة، فنهضوا للاعتراض والثورة على الخليفة الثالث، حتى إذا ما تم الأمر بمقتله، هرعوا إلى علي بن أبي طالب وقد وجدوا فيه الشخص المثالي لتقلد مقاليد الخلافة.

ومن الممكن أن نحدد الاعتبارات التي جعلت هؤلاء يُقبلون على علي بن أبي طالب ويرتضونه كخليفة، في مجموعة من النقاط: أولها، أن قريشًا كانت تتطاول على باقي العرب بقربها إلى الرسول، فكان اللجوء إلى علي بن أبي طالب ابن عم الرسول وزوج ابنته وأبي أحفاده، فيه ما فيه من إبطال لحجج القرشيين التي لطالما تفاخروا بها على باقي القبائل العربية.

الأمر الثاني، أن شخصية علي كانت أقرب إليهم من شخصية عثمان وغيره من بني أمية، فهؤلاء الثوار قد بنوا شهرتهم على أساس أنهم محاربون ومقاتلون أشداء، حاربوا الروم والفرس في اليرموك والقادسية وغيرهما من المعارك الكبرى، وكان علي بن أبي طالب يمثل لهم النموذج الكامل التام للفروسية والفتوة، ولمَ لا وهو الذي ضُربت في شجاعته الأمثال في معارك بدر وأحد والخندق وخيبر؟ أما عثمان فكان يمثل لهم شخصية التاجر الثري الذي يغدق من أموال الخلافة على أقاربه ومعارفه دون أن يحفظ لفارس حقًا أو لمحارب سابقة.

وقد كان من أهم أفراد تلك الطبقة الجديدة من الشيعة كل من مالك بن الحارث المعروف بالأشتر النخعي، صعصعة بن صوحان، زيد بن صوحان، محمد بن أبي بكر، عبد الرحمن بن عديس البلوي، وعمرو بن الحمق الخزاعي. ويمكن القول إن الأسس التي جعلت أفراد تلك الطبقة ينضمون لعلي بن أبي طالب كانت في حقيقة الأمر أسسًا قبلية ومجتمعية أضيفت إليهما بعض النزعات الدينية محدودة التأثير.

وقد ظهرت أولوية الدافع القبلي في تكوين تلك الطبقة الجديدة في الكثير من المواقف، فالأشتر – وكان من أعظم أصحاب وأعوان علي بعد استخلافه − يبدي اندهاشًا وانزعاجًا واضحًا عندما يبلغه خبر تعيين الخليفة الرابع لبعض أبناء عمه العباس على بعض الولايات، ويبدي دهشته في قوله: «على ماذا قتلنا الشيخ أمس؟» وذلك بحسب ما يذكر ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة»، فهو يتعجب من سياسة الخليفة الجديد؛ تلك السياسة المشابهة لسياسة سلفه التي أثارت الغضب والأحقاد في صفوف العرب.

كما أنه يُلح على علي بن أبي طالب مرارًا في إجبار من تخلف عن بيعته، فقد ورد أنه قال لعلي: «دعني يا أمير المؤمنين أوقع بهؤلاء الذين يتخلفون عنك، فقال له علي: كف عني، فانصرف الأشتر وهو مغضب».

تلك الحادثة تبرز التضاد الواقع ما بين الخليفة الرابع من جهة والطبقة الجديدة من المتشيعين له من جهة أخرى، ذلك أن عليًا بن أبي طالب كان يهتم بالمكانة الدينية لمن تخلف عنه، وكان فيهم عدد من كبار الصحابة مثل عبد الله بن عمر على سبيل المثال، أما الأشتر وجماعته فكان همهم الأساس ينصب على الدولة، ولم تكن مكانة وسابقة من تخلف عن بيعة علي لتبعدهم عن بطش أفراد تلك الطبقة، وهم الذين اشتركوا في قتل الخليفة الثالث نفسه من قبل.

ونلاحظ أن الروايات السنية لم تلتفت مطلقًا إلى العلاقة الوطيدة التي نشأت ما بين الطبقة الجديدة من الشيعة (وكان منهم كثير ممن اشتركوا في قتل عثمان) من جهة، والخليفة الرابع من جهة أخرى، فقد أبرزت الرواية السنية النمطية تبرؤ علي من قتلة عثمان في العديد من المواقف، وحاولت أن تعلل عدم الاقتصاص منهم بكثرتهم وقوتهم، ولكنها تغاضت عن عمد عن تفسير السبب الذي جعل الكثير من قتلة عثمان يصبحون قادة بارزين في جيش علي بن أبي طالب، إذ لو افترضنا أن عليًا لم يكن بصاحب قدرة على القصاص من القتلة، فإنه كان يمتلك بالتأكيد القدرة لتعيين كبار مساعديه وقادة جيشه.