ضابط نازي، متوسط القامة، حاد الملاحظة، شخصيته قوية يرتبك الهواء في حضورها، لا شيء سوى الصمت حتى يغتاله هو بكلماته الهادئة، لكنها شديدة التحديد، هل يوجد أحد آخر في هذا المنزل؟ الضابط يبحث عن يهودٍ قد يكونون مختبئين في منزل عائلة غير يهودية.

العائلة مسالمة لدرجة أنها لا يمكن أن تخالف أمرًا مباشرًا للجيش النازي بعدم إيواء يهود، وأضعف من أن تحتمل الاستجواب البارد الذي يجري، لكنها أكثر إنسانيةً من أن تخون بشرًا التجأوا إليها هربًا من عمليات قتلٍ على الهوية.

مشهد عبقري يصوِّره المخرج الهوليودي كوانتين تارنتينو في

فيلمه

«أوغاد مجهولون» (Inglourious Basterds) لكن الأشد عبقريةً هو أن المشهد لم يكن مبالغةً سينمائية، بل شهد الواقع أحداثًا مشابهة له تمامًا، لا تختلف عنه إلا أن التوتر فيها كان حقيقيًّا، والقتل فيها كان عقابًا فوريًّا، وأبطال العديد من تلك الأحداث كانوا عربًا ومسلمين، والأهم أن معظم قصصهم لم تُسجل فطواها النسيان.


المشهد الافتتاحي للفيلم

من القصص التي استطاعت النجاة من ركام النسيان

قصة محمد حلمي

. مصري وُلد في الخرطوم، التي كانت تابعةً لمصر آنذاك، عام 1901. سافر رفقة والديه عام 1922 إلى ألمانيا ليدرس الطب هناك، نجح في دراسته والتحق بمعهد روبرت كوخ، وترقى فيه حتى

أصبح رئيسًا

لقسم المسالك البولية.

لم تدم سلاسة حياته طويلًا، إذ

طُرد من المعهد

عام 1937 لأنه لم يكن من الجنس الآري. امتد الاضطهاد ليشمل منعه من العمل في المنظومة الصحية الألمانية بالكامل، كذلك أصبح ممنوعًا بقرار رسمي من الارتباط بخطيبته الألمانية.

السير على الهاوية لإنقاذ آخرين


تقرير مُصغر عن الدكتور محمد حلمي

عامان سيئان قضاهما حلمي بعد طرده

كُلِّلا بالقبض عليه

عام 1939 مع عدد من المصريين، بعد أسابيع من الاعتقال تم الإفراج عنه بسبب مشاكل صحية. الاعتقال كان لرغبة السلطات الألمانية في استبدال 20 إلى 30 مصريًّا بجنود ألمان أُسروا في شمال أفريقيا، ووضعت قائمةً بـ 30 مصريًّا من ذوي المكانة الاجتماعية في ألمانيا، وحاملين لشهادات عليا، بجانب أن يكونوا من الناشطين سياسيًّا ضد النازية، كي يضمن النظام الألماني أن لهم شعبية ستدفع الحكومة المصرية للقبول بالمقايضة.

رغم مشاكله الصحية وتربص الألمان به،

تحدث حلمي علنًا

بنقد النظام النازي، وكان أعظم اعتراض قدَّمه على النظام هو ما فعله سرًّا. صديقةٌ له، آنا بوروس، كانت تحاول الهرب من الترحيل خارج ألمانيا فلجأت له. خبَّأها حلمي في كوخ يملكه في برلين، وظلت فيه حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. تقول آنا في مذكراتها إنها فقدت كامل اتصالها بالعالم الخارجي لمدة عامين، وكان حلمي هو من يتكفل بكل ما تحتاجه، كان عمرها 17 عامًا في تلك الفترة.

قالت أيضًا إن الجستابو الألماني علم أن دكتور حلمي هو طبيب آنا وعائلتها؛ لذا

استدعوه أكثر من مرة

لسؤاله عني، لكنَّه كان يتهرب منهم كل مرة. وحين يشعر أن الألمان سيفتشون كوخه كان يُخرجها لتقضي أيامًا مع أصدقائه مدعيًا أنها ابنة عمه. ولتنطلي عليهم تلك الحيلة زوَّر لها حلمي أوراقًا تثبت أنها مسلمة، ثم لاحقًا زيَّف لها احتفالًا صغيرًا دعا إليه الأصدقاء ليُعلن فيه زواجها على «عبد العزيز حلمي حماد»، مصري يبلغ من العمر 36 وكان رفيق حلمي في أسابيع السجن، لكنه

لم يكن زواجًا حقيقيًّا

، وكان عبد العزيز مشاركًا فيه ليدعي دور الزوج لا أكثر.

من ضمن احتياجات آنا كان إخفاء والدتها وجدتها وزوج والدتها، وقد تكفل حلمي بذلك أيضًا. لكن ذات صباح في عام 1944 وقع زوج والدتها في يد الألمان، وتحت وطأة التعذيب اعترف بمساعدة حلمي لهم. داهم الجنود الألمان منزل حلمي وقد ظفروا أخيرًا بدليلٍ ضده، لكنه بهدوء أخرج لهم رسالةً زعم أن آنا كتبتها له. في تلك الرسالة التي كتبها سابقًا بخط يده كان يقول على لسان آنا إنها تسكن مع خالتها.

إسرائيل تبحث عن البطل


التكريم الإسرائيلي لمحمد حلمي

لم ينكر حلمي علاقته بها أبدًا، بل إنه درَّبها على إجراء بعض الفحوصات الطبية وكيفية استخدام الميكرسكوب كي يمكنها التواجد معه في عيادته بصفتها مساعدته. كما رتب لوالدتها وزوجها متجرًا يمكنهم العمل فيه تحت هوية عربية مزوَّرة.

سنوات مرعبة عاشها حلمي ورفاقه حتى انتهت الحرب، وهاجرت آنا وعائلتها إلى الولايات المتحدة. وفي أوائل الستينيات كتبوا رسالةً إلى مجلس الشيوخ الألماني يطالبونه بتكريم حلمي، لكن الرسالة ضاعت ضمن العديد من الوثائق التي لم يُلتفت لها آنذاك.

ظل حلمي في ألمانيا ليتزوج خطيبته، آني إرنست. تُوفي حلمي عام 1982 قبل أن تُكتشف قصته، فلم تكتشف إلا عام 2013 حين وُجدت رسالة آنا، وبدأ موظفو الوثائق في تتبع خيوط قصة آنا وحلمي. حتى بعد اكتشافها أخذت قصة حلمي منحنى آخر، إذ لم تعثر الهيئة الإسرائيلية على أقرباء له ليتسلموا التكريم نيابةً عنه، فلم يُرزق حلمي بأبناء من زواجه. لجأت مؤسسة «

ياد فاشيم

» إلى السفارة المصرية للوصول إلى أبناء أخيه كي يتلقوا التكريم.

تظل خيوط قصة حياة حلمي واضحة المعالم نوعًا ما حتى تصل إلى نقطة التكريم تلك، أخبار متضاربة عن أن عائلته رفضت التكريم لأنه جاء من إسرائيل، وأخبار أخرى تقول إنهم قبلوا التكريم بالفعل، وأخبار تجمع بين الأمرين فتقول إن عائلته قبلت بالتكريم بعد سنواتٍ من الرفض من جانبهم والإلحاح من الجانب الإسرائيلي. والمؤكد أن ناصر قطبي، ابن أخيه، البالغ 81 عامًا قد

استلم شهادة التكريم

من مؤسسة ياد فاشيم في 27 أكتوبر/ تشرين الأول عام 2017.

إيرانيون وأتراك منسيون

لم يكن محمد حلمي الأول ولا الأخير في هذا المضمار، كثيرون كانوا معه.  تونسي آخر وطبيب آخر كان يعمل في مستشفى مدينة «بوبيني» الفرنسية، وكثيرًا ما خاطر بعلاج الجرحى اليهود سرًّا في عيادته الخاصة.

أما بعيدًا عن علاج المصابين  فـالجزائري «قدور بنجربيت» كان

سبَّاقًا في مساعدة اليهود

للتملص من الأفران النازية. قدور هو مؤسس المعهد الإسلامي في جامع باريس الكبير، واستغل منصبه ومقامه في تزوير أوراق لليهود تثبت إسلامهم. كان من ضمن من أنقذهم قدور شاب أصبح لاحقًا مطربًا وممثلًا جزائريًّا مشهورًا، سالم الهلالي، واسمه الحقيقي كان سيمون الهلالي.

كما ساعد المسئولون الإيرانيون والأتراك عائلاتٍ يهودية بمنحهم جوازات سفر تركية وإيرانية، وساعدوا عائلاتٍ أخرى بتقديم مستندات مزورة للسلطات الألمانية تفيد بأن بعض المحال والبيوت موضع الاشتباه هي ملك أتراك وإيرانيين، رغم أنها مملوكة ليهود في الحقيقة. من هؤلاء المسئولين كان عبد الحسين سرداري، مدير القنصلية الإيرانية في باريس، سرداري أنقذ منفردًا ألفي يهودي.

الطريف في قصته أنه لم ينقذ ذلك العدد كله بتزوير أوراق هوية، بل أنقذ أغلبهم بالحيلة. كان النازيون يعتبرون الإيرانيين من الجنس الآري بصورةٍ ما، فاستخدم سرداري تلك النقطة في

إقناع الضباط النازيين

أن اليهود الإيرانيين هم آريون أيضًا.

الفترة بين عام 1940 وعام 1945

شهدت أحداثًا كثيرة

، لكن لم يكن الجميع يملك صلاحياتٍ تمكنه من تزوير أوراق لحماية اليهود، لذا تعددت وسائل إنقاذهم من يد الألمان. مثل تخبئة العائلات اليهودية في بيوت ومزارع مسلمين مثلما فعل التونسي خالد عبد الوهاب. ومثله فعلت عائلة «بيلكو/ بلقيس» المسلمة التي أخفت اليهودية الألمانية جُهانا نُيمان ووالداتها في مزرعتهم في ألبانيا.

ألبانيا ذات الأغلبية المسلمة في وقت الحرب العالمية الثانية كانت نموذجًا كبيرًا للتضحيات الفردية التي قام بها السابقون، فعلى المستوى الرسمي رفضت الدولة تقديم مستندات بأسماء اليهود المقيمين فيها. كذلك تكاتف الدولة، حكومةً وشعبًا بأغلبية مسلمة، لتزوير أوراق هوية لليهود بأسماء مسلمين، واستضافت كل عائلة مسلمة بضع أفراد من اليهود وقدَّموهم وقت التفتيش النازي بأنهم أقرباؤهم.

السياسة تتحكم في كتابة التاريخ


جولة في شارع «النبلاء بين الأمم»

غالب تلك القصص طواها النسيان، ليس في ذاكرة اليهود فحسب، بل في ذاكرة الدول التي ينتمي إليها المنقذون كذلك. لعل أكثر من نال حظه من الثناء كان أوسكار شندلر. شندلر أنقذ 1000 يهودي، وتحوَّلت قصته لفيلم حصد عديد الجوائز، وبعد انتهاء الحرب مُنح وسام صليب الاستحقاق الألماني.

بالطبع مع تصاعد التوترات الإسرائيلية الإيرانية والتركية اختفت تضحيات القنصلية الإيرانية والتركية من الذاكرة الإسرائيلية.

مؤسسة «ياد فاشيم» المسئولة عن وضع الأسماء في قائمة النبلاء

نفت أكثر من مرة

أن يكون ذلك عن عمد منها، ولفتت النظر إلى وجود 60 اسمًا لمسلمين ضمن القائمة، لكنها في الوقت نفسه لم تنفِ أو تثبت أو تُضف ذكرًا عن العديد من القصص التي رواها اليهود أنفسهم عن أشخاص إيرانيين وأتراك وجزائريين ساعدوهم.

فعلى عكس شندلر، تحكمت السياسة في الاعتراف الإسرائيلي بأسماء من خاطروا بحياتهم من أجل إنقاذ اليهود من براثن هتلر. ففي شارع «النبلاء بين الأمم» حيث يوجد النصب التذكاري الذي يُذكِّر بمن أنقذوا اليهود من المحرقة توجد أسماء 24 ألف شخص. من بين تلك الآلاف الكثيرة يندر وجود أسماء لمسلمين. أما أسماء العرب، فمحمد حلمي هو أول عربي يُضاف لتلك القائمة عام 2013.