من جديد يتفجَّر الجدل حول «آيا صوفيا».

ذلك الصرح الذي لا يتوقف العالم كله بشأن هويته التي تغيَّرت 3 مرات خلال تاريخه الطويل لتنعكس عليه بطبيعة الحال أي تغيرات في عرش الدولة التركية، حتى يُمكننا اعتباره ترمومتر أنقرة، ومُعبِّرًا رئيسيًّا عن توجهاتها.

فحينما كانت هذه الأراضي جزءًا من إمبراطورية مسيحية عُظمى كان البناء كنيستها الأم التي يحجُّ إليها الأرثوذكس من كافة أنحاء العالم طيلة 11 قرنًا، وبعدما دخل المسلمون تلك البقاع كان تحويل هذه الكنيسة إلى مسجد من أوائل قراراتهم لمدة 5 قرون، حتى أتى أتاتورك بعلمانيته التي عادت كلا الديانتين فنزع الصبغة الدينية عن المكان وأمر بتحويله إلى متحف!

وهو القرار الذي حمل الرقم 1589، وأصدره مجلس الوزراء التركي في 24 نوفمبر 1934م، ووضع «آيا صوفيا» في خانة الحياد الديني من وقتها حتى بضعة أيام مضت، حينما أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ذو الميول الإسلامية، أنه سيُحوِّل «آيا صوفيا» إلى مسجد مُجددًا.

وصف أردوغان قرار أتاتورك بـ«الخطأ الكبير»، معتبرًا أنه بهذا الإجراء يُحقِّق «مطلبًا يتطلع إليه الشعب التركي والعالم الإسلامي منذ أعوام».

وبالرغم من أنها ليست أول مرة يُدلي فيها
أردوغان بمثل هذه التصريحات، فلقد اعتبر العام الماضي أن إعادة تحويل المتحف إلى
مسجد هو أبلغ رد على قرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.

وفي العام 2013م جرى، بالفعل، تحويل كنيسين صغيرين كانا يحملان اسم «آيا صوفيا» إلى مسجدين، الأول في مدينة طرابون والثاني في مدينة نيقيا ذات الأهمية التاريخية المسيحية الكبيرة.

إلا أن هذه المرة لاقت الإجراءات والتصريحات
التركية ردود أفعال واسعة بسبب الطبيعة الاستثنائية التي تحكم هذا البناء.

فهل يُمكنك
تخيُّل مكانٍ يجمع بين رفات قديسة مسيحية شهيرة وسلطان عثماني قضى جُلَّ وقتِه في
محاربة المسيحيين؟

أمر مستحيل،
أليس كذلك؟

فماذا لو علمتَ أن ذاتَ المكان يعرض مجموعة من أهم آثار القديسين المعروفة بِاسم «آلام المسيح» (Passion)، وبجوارها مكتبة عريقة تضمُّ أنفس مخطوطات الكتب الإسلامية؟

لا أتحدث عن مُجمَّع أديان تعانق فيه الهلال مع الصليب، وإنما ما حدث أن الهلال تسلق فوق أكتاف الصليب وجثم فوق أنفاسه حتى كاد يحجبه عن الرؤية، ومن لحظتها نالت هذه الأمتار الـ700 التركية (مساحة المكان) خصوصية مُطلقة في شكل الصراع الإسلامي المسيحي الذي تأرجحت نتائجه بأمرٍ من تقلُّبات الدهر بين الجانبين صعودًا وهبوطًا.

لذا، إن أردت أن تعرف تاريخ الألفي سنة الأخيرتين من العالم، ولم يكن وقتك يتَّسع لقراءة آلاف الكتب، فما عليك إلا زيارة «آيا صوفيا»، وحين تُطالع نقوش «محمد رسول الله» و«علي عليه السلام» بجوار أيقونات المسيح والسيدة مريم ستفهم كل شيء؛ لقد مرَّ العالم كله من هنا، وترك كلٌّ بصمته على الجدران برسمٍ هنا وفسيفياء هناك.

صرحٌ متفوقٌ على هيكل سليمان

كنيسة صارت إلى مسجد :: هدية السيد للسيد

كانت لعيسى حرمًا فانتهت :: بنصرة الروح إلى أحمد





الشاعر أحمد شوقي متحدثًا عن «آيا صوفيا»

عندما اعتنق الإمبراطور قسطنطين الأول (324م-337م) Constantine I المسيحية، قرَّر الابتعاد عن العاصمة التاريخية للإمبراطورية؛ روما الوثنية، وتدشين عاصمة جديدة «طابعها مسيحي»، فأمر بإنشاء القسطنطينية سنة 330م، والتي آوت بين جانبيها عشرات الكنائس عظيمة المعمار مثل كنيسة «الرسل المقدسين» (Holy Apostles) و«آيا صوفيا» (Hagia Sophia)، التي لم يتم الانتهاء منها إلا في عهد خليفته الإمبراطور قسطنطين الثاني (337-361م).

في العام 360م، تم الانتهاء من بناء كنيسة «آيا صوفيا»، وتعني باليونانية «الحكمة الإلهية».

وهنا يقول الحميري: لما أكمل قسطنطين بناء هذه الكنيسة ورفع عليها الصلبان كتب بذلك إلى
جميع البلدان، وبهذا صار عيد الصليب وهو لأربع عشرة ليلة تمضي من أيلول (سبتمبر).

وتعتبر كثيرٌ من الروايات التاريخية أن اسم «آيا صوفيا» هو اسم لقديسة قبطية من مصر، وتحديدًا من البدرشين -أحد مراكز محافظة الجيزة جنوب القاهرة- كانت تعبد الأوثان ثم تابت واعتنقت المسيحية وتعمَّقت في العبادة صومًا وصلاة حتى بلغت أخبارها الحاكم الوثني أقلوديوس فقبض عليها وحاكمها بتهمة الكفر بعبادة الأوثان.

في السجن تم تعذيبها حتى ترتد عن دينها وهو ما احتملته بصبرٍ وجَلَد حتى ماتت، فاعتُبرت واحدة من أبرز شهداء الدين المسيحي.

وفيما بعد نجحت بعض السيدات المسيحيات في تهريب
جثمانها من السجن بعدما رشون الحارس، وبعدها لففن جثتها بالأقمشة الغالية، ودفنَّها
في مكانٍ سري.

لم يلبث هذا المكان أن افتضح أمره، بعدما أشاع الناس عددًا من الخوارق المرتبطة بجسدها، مثل أنه كان يُشعُّ النور أو يُفرز رائحة عطرية زكية وغيرها.

لم تنتشر الأخبار في برِّ مصر وحده، وإنما وصلت الأنباء إلى الإمبراطور البزنطي قسطنطين الأكبر المتحمِّس جدًّا للمسيحية، فاعتبر هذه القديسة تستحق مكانًا أفضل من مصر، فأمر بنقل الجثمان إلى مدينته الجديدة القسطنطينية، حيث دفنها في إحدى بقاعها وأقام فوقها كنيسة ضخمة.

وبالرغم من عظمة بناء الكنيسة التي أشاد بها جميع مَن زارها، بمن فيهم عددٌ من الرحالة العرب الذين وفدوا على المكان وانبهروا بما رأوه؛ فذكر المسعودي أنها «إحدى عجائب العالم»، فيما وصفها ابن بطوطة بقوله: «من أعظم كنائس الروم، وعليها سور يطيف بها، فكأنها مدينة».

إلا أن الكنيسة بقيت يُنظر لها كمجرد بناءٍ جميل لمدة 90 عامًا تقريبًا، حتى عُقد مجمع خلدقونية سنة 451م، والذي نتج عنه صدع هائل في المسيحية لا يزال مستمرًّا حتى اليوم، بعدما انقسمت الديانة إلى فئتين كبيرتين؛ الأولى غربية للكاثوليك وكنيستها الأم هي الفاتيكان، أما الثانية فشرقية للأرثوذكس وكنيستها الأم هي آيا صوفيا.

وهكذا باتت «كنيسة الحكمة» كعبة الأرثوذكس وممثلتهم الدينية الرسمية أمام العالم، ما أكسبها مكانة دينية كُبرى في العالم المسيحي، ومثَّل سقوطها بين أيدي المُسلمين فاجعات كُبرى كُتب فيها من اللطميات والبكائيات ما لا يُعدُّ ولا يُحصى.

لم تحمِ المكانة المقدسة الكنيسة من نوائب الدهر، فهُدمت مرتين، الأولى عام 415م، بعد زلزال مباغت، فأعاد بناءها الإمبراطور ثيودسيوس الثاني (408- 450م) Theodosius II.

والمرة الثانية، حين شهد العام 532م، ثورة عارمة على حُكم الإمبراطور الروماني، حينها، جُستنيان (527- 565م) Justinian I، وانفجرت ضده ما عُرف بثورة «نيقا» (Nika)، بعدما ثار شطر من أهل المدينة الساخطين على الفساد المالي وكثرة الضرائب في الحكم الإمبراطوري، فعمَّت مظاهرات التخريب المدينة والثوار يصرخون: «نيقا.. نيقا»، أي: النصر، باللغة اليونانية.

نجح جنود
الإمبراطور في وأد هذه الفتنة التي كادت تُطيح بعرشه لكن كان الثمن فادحًا؛ اشتعلت
النار في عددٍ من المباني الأثرية مثل مبنى الشيوخ وكنيسة آيا صوفية وكنيسة سانت
إيرين ومستشفى سومبسون وغيرها من معالم المدينة، بالإضافة إلى مقتل 35 ألف شخص
وفقًا لأقل التقديرات.

لم يشأ الإمبراطور المنتصر ترميم المكان المتداعي، وإنما رغب في إقامة بناءٍ جديد على الأطلال المحترقة، بعدما ادَّعى أن رجلاً عجوزًا أتاه في المنام ورآه واقفًا في موضع الكنيسة المنهارة، ثم أظهر له خريطة رسم عليها شكل البناء المطلوب.

رغب جستنيان في تخليد اسمه وانتصاره ببناء «أعظم كنيسة في الوجود» ليضمن تردد اسمه على الألسنة إلى الأبد، ولتحقيق هذا الغرض تمرَّد على العبقرية الرومانية المعمارية وجلب أشهر معماريين في آسيا الصغرى، وهما المهندسان أنتيميوس الترالي (Athemius of Tracies) وأيزيدور المليتي (Miletus of Isidoros)، وكانت مهمتهما البسيطة أن يُحوِّلا أحلامه إلى حقيقة.

قرَّر المهندسان التمرُّد على كل ما هو مألوف في شئون العمارة؛ فوضعا تصميمًا بازيليكيًّا يمزج بين نماذج العمارة الدينية المستديرة والعمارة الدنيوية المربعة.

بدلاً من الحجارة تم الاعتماد على الآجر المقاوم للزلازل، جُلبت مواد البناء من الحجارة والأعمدة الرخامية من مصر وأثينا وروما، ودشَّن المهندسان القُبَّة من طوب صُنع لها خصيصًا في جزيرة رودس، فيما زُخرفت الجدران الداخلية باللوحات الجدارية الفسيفسائية للأباطرة والإمبراطورات ورجال الدين والسيد المسيح والسيدة مريم عليها السلام.

ويضيف محمود مقديش في كتابه «نزهة الأنظار في عجائب التواريخ والأخبار»، أن الإمبراطور طلب العواميد من قرية قُرب حرَّان، وكان بها كنيسة عظيمة الشأن يتعبد بها إبراهيم الخليل – عليه السلام – فهدموها.

وهكذا، بدأ
البناء في النصف الثاني من عام 532م، وبعد 5 أعوامٍ من العمل الشاق الذي قام به 10
آلاف عامل، وبتكلفة إنشاء قيل إنها تجاوزت 320 ألف رطلٍ من الذهب، تم افتتاح
الكنيسة في حفلٍ ضخم عام 537م.

وما أن رأى جُستنيان كنيسته حتى وصفها مبهورًا: «المجد لله الذي قدَّر أني جدير بإنجاز هذا العمل العظيم، لقد جاوزت فيه قُدرة سليمان وتفوقت عليه».

وهنا يقول محمد كرد علي في أطروحته «تاريخ الحضارة» خلال حديثه عن الكنيسة:

في الداخل ترى السواري من الرخام الثمين كاليصب والسماقي، وكلها ذات خطوط حمر وخضر، وأرضها مبلطة بالفسيفساء المتألقة والحوائط مزدانة بصور مرصعة من ذهب، وغدت هذه الكنائس ذات القباب المستديرة والمذهبة أنموذجًا للمهندسين منذ القرن السادس إلى القرن الحادي عشر لا في الإمبراطورية البيزنطية بل عند جميع المسيحيين في الشرق.

الأيقونات المسيحية في آيا صوفيا من الداخل وعليها أثر المحو

وتؤكد نجلاء توفيق، أستاذة التاريخ في كلية الآداب بجامعة أسيوط، في أطروحتها «كنيسة آيا صوفيا» أن آيا صوفيا احتلَّت مكانة بارزة في الدولة البيزنطية فكان أي إمبراطور بيزنطي يحرص على أداء الصلاة داخل الكنيسة كطقس يومي، يبدأ في السابعة صباحًا من كل يوم وسط موكب كبير من كبار رجل دولته.

ويُفسِّر هذا الإقبال الإمبراطوري المستمر
على الكنيسة ما رُوي في بعض كُتب التاريخ عن وجود رواق خشبي يربط بينها وبين القصر
الحاكم مُباشرة، ليُمكن الإمبراطور من الانتقال إليها بيُسرٍ وأمان؛ لأداء الصلاة
وحضور الاحتفالات الكُبرى.

وكان على أي زائر أجنبي ألا يُغادر القسطنطينية إلا بعد أن يزور «آيا صوفيا»، ويستمتع بمعمارها الفريد والكنوز النفيسة التي تحويها.

ويروي ابن بطوطة، أنها كانت مكانًا لآلاف الرهبان الذين سكنوها وانقطعوا فيها على العبادة، وهي العادة التي لم تتوقف على الرجال وحسب، بل امتدت للنساء أيضًا، فيؤكد ابن بطوطة أنه كان بداخلها بناء مخصص للنساء تعيش فيه أزيد من ألف بكر منقطعة للعبادة.

ويحكي العالم الجغرافي هارون بن يحيى، الذي تعرَّض للأسر على أيدي البيزنطيين ونُقل إلى القسطنطينية، أن السجاد كان يُفرش من باب القصر إلى باب الكنيسة يخطو فوقه الإمبراطور وسط الآلاف من حاشيته، وما أن يدخل الكنيسة حتى يأمر بأن يُقاد الأسرى المسلمون إليه، حيث يدخلون البناء وينظرون إلى ما حولهم من زينة وأبهة فيصيحون أطال الله بقاء الملك ثلاث مرات ثم ينصرفون.

كما نعرف من دائرة المعارف الإسلامية في الفصل الذي خصصته للحديث عن آيا صوفيا، أن عدد قساوستها بلغ 425 فردًا، وعدد البوابين 100 رجلٍ، كما قُدِّر عدد موظفي هذه الكنيسة قبيل انهيار الإمبراطورية البيزنطية بثمانمائة موظف.

وفي سنة 879م اجتمع فيها المجمع المسكوني الثامن، الذي أقرَّ دستور الإيمان الذي وضعه المجمعان الأول والثاني، وهو آخر مجمع مسكوني تام الشروط اتَّبع نظام المجامع المقدسة.

لم تدم أيام المجد المسيحية هذه كثيرًا، فالأمة المنقسمة على نفسها تُواجه عدوًا أحمر مخيفًا لن تتوقف سنابك خيله عن الركض حتى تُخضع كافة البقاع المسيحية إلى سيطرتها.

فالسلطان العثماني محمد الثاني (الفاتح)، لم ينتظر كثيرًا وبعد توليه الحُكم بـ3 أعوام فحسب، أمر بتدشين حملة عسكرية كُبرى تطرق أبواب المدينة التي استعصت على المسلمين منذ اندلاع محاولتهم الأولى في عهد الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان 44هـ وحتى السلطان العثماني مراد الثاني (824هـ- 863هـ).

كل واحدٍ من هؤلاء الملوك كان يسعى لنيل مجد أن يكون هو المقصود بالحديث النبوي الشهير: «لتفتحن القسطنطينية لنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش».

وفي سبيل منع الفاتح من نيل هذا المجد، أقدم البيزنطي الأرثوذكسي قسطنطين الحادي عشر على خطوة غير مسبوقة؛ استنجد بالغرب الكاثوليكي، ووافق على الاتحاد الكنسي بين روما والقسطنطينية الذي تمَّ داخل كنيسة «آيا صوفيا» في الـ13 من ديسمبر عام 1452م، على الرغم من اعتراض معظم سكان القسطنطينية على ذلك.

يقول دكتور محمد الرشيدي في كتابه «محمد الفاتح»:

هجر الروم (البيزنطيون) كنيسة آيا صوفيا ونبذوها، فقد تنجست في نظرهم وتدنست على أثر تلك الصلاة (صلاة الوحدة)، وأصبحت في نظرهم كمعبدٍ يهودي أو وثني، وخيَّم الظلام والسكون المُوحِش على هذه الكنيسة العظيمة التي لطاما عجَّت بالصلوات وتصاعد فيها البخور وانتشرت فيها الأضواء.

وتجسَّد الرفض البيزنطي للاتحاد بالكاثوليك مهما كان الثمن في مقولة الرجل الثاني في الدولة البيزنطية لوكاس توتارا:

إنه لمن الأفضل لنا في النهاية أن نرى عمائم الأتراك المسلمين في شوارع القسطنطينية، من أن نرى فيها قلنسوات رجال الدين اللاتين الكاثوليك.

وهو ما سيدفع ثمنه لاحقًا البيزنطيون غاليًا
بعد نجاح جيوش العثمانيين في تجاوز أسوار المدينة الحصينة، ولم تشفع لهم صلواتهم
الضارعة التي أقاموها في الكنيسة ملتمسين من العذراء حمايتهم كما فعلت من قبل،
فوفقًا لاعتقادهم أن بركة السيدة مريم وحدها هي التي أنقذت المدينة من حصار السلطان
مراد الثاني لها عام 1422م.

هذه المرة كان النصر المُبين حليف الأتراك، وعلت الرايات الحمراء منازل القسطنطينية، ولجأ إلى «آيا صوفيا» الشيوخ والنساء والرجال الهاربين من القتال يرتعدون حول المذبح بِانتظار قرار حاكم المدينة الجديد فيهم.

ولم يُنقذ أهل المدينة الملاك الحارس الذي وعدهم القساوسة بظهوره ما أن يُحيط الأتراك بـ«آيا صوفيا».

آيا صوفيا جامعي

يقول محمد فريد في كتابه «تاريخ الدولة العلية»:

دخل السلطان المدينة عند الظهر فوجد الجند مشتغلة بالسلب والنهب، فأصدر أوامره بمنع كل اعتداء فساد الأمن حالًا، ثم زار كنيسة آيا صوفيا وأمر بأن يؤذن فيها بالصلاة إيذانًا بجعلها مسجدًا جامعًا للمسلمين.

وتضيف «الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي» أن محمد الفاتح سار على ظهر جواده إلى كنيسة «آيا صوفيا» حيث تجمع الشعب البيزنطي ورهبانه ما إن علموا بوصول السلطان الفاتح.

وأمام البناء نزل من على ظهر حصانه وصلى ركعتين شكرًا لله على توفيقه له، بالفتح، ثم سار يقصد شعب بيزنطة ورهبانه، وقال لهم:

فأنا السلطان محمد، أقول لكم ولجميع إخوانكم ولكل الموجودين هنا، إنكم منذ اليوم في أمان في حياتكم وحرياتكم.

دخل الفاتح المدينة يوم ثلاثاء، وأمر بأن تجرى أعمال سريعة لتحويل «الكنيسة العُظمى» إلى مسجدٍ عظيم يُصلِّي فيه الجمعة المُقبلة، ولمَّا كان هذا الإجراء مستحيلًا في ظِل النقوش المسيحية التي ملأت الجدران فقد جرت عمليات حميمية لتغطيتها بالجبس ورسم زخارف هندسية ونقوش إسلامية فوقها، وفيما بعد سقطت طبقات الجبس وعادت المشاهد المسيحية للظهور مُجددًا.

كان هذا الإجراء السريع كافيًا ليُصلِّي محمد الثاني فيما أطلق عليه «آيا صوفيا جامعي»، وبعد ذلك جرت زيادات هندسية أضافت المآذن والمحاريب إلى البناء، كما ارتفعوا فيه بمنارتين حتى أكسبه سمتًا إسلاميًّا، دون أن ينسى القائمون على الأمر بالطبع كتابة لوحة كبير بحديث النصر: «لتفتحن القسطنطينية، ولنعم الجيش جيشها، ونعم الأمير أميرها».

كتب محمد الفاتح وثيقة ضخمة تأمر بتحويل الكنيسة إلى جامع، بلغ طول الوثيقة 71 مترًا، واحتوت الوثيقة على أدق التفاصيل فيما يتعلق بالمسجد والمدرسة والدكاكين والمرافق التي أوقفها للإنفاق على المسجد.

وفي ختام هذه الوقفية كتب الفاتح:

فمن غيَّر شيئًا من شرائطه أو بدَّل قانونًا في ضوابطه ويسعى إلى إبطاله وتبديله، وقصد في نسخه وتحويله بتأويل فاسد وأباطيل مزخرفة … فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

ولمَّا كانت «آيا صوفيا» كغيرها من كنائس البيزنطيين نحو بيت المقدس، كان على المسلمين أن يُغيِّروا في قِبلتهم قليلاً ناحية الجنوب ليضمنوا أنهم يوجهوون وجوههم شطر مكة خلال الصلاة.

في عهد محمد الفاتح أقيمت أول مئذنة بـ«آيا صوفيا جامعي»، ومن بعده بنى سليم الثاني المئذنة الثانية في الركن الشمالي الشرقي، أما ابنه مراد الثالث فهو الذي بنى المئذنتين الأخريين ليستقر الشكل النهائي للبناء من الخارج.

وهنا نعرف من موسوعة «المفاهيم الإسلامية العامة» التي أصدرها مركز الدراسات والموسوعات الإسلامية، التابع لوزارة الأوقاف المصرية، أن هذا التصميم الجديد بات أيقونة لعشرات المساجد الأخرى التي سارت على حذوه معماريًّا، وذلك عبر إقامة قبة كبيرة تحفُّ بها قباب صغيرة (لمسة مسيحية) وفي كل ركن من أركانه الأربعة مئذنة ممشوقة (لمسة عثمانية)، وانتشر هذا الطراز الهجين في مختلف أنحاء الدولة العثمانية، ومن أبرز نماذجه: جامع بايزيد، وجامع سليمان، والسلطان أحمد في إستانبول، ومسجد الملكة صفية ومسجد أبي الذهب، ومسجد محمد علي بالقاهرة.

ولا ندري إن
كان سبب التكالب على هذا الشكل العمراني قناعة بأن هذا الطراز هو الأفضل، أم أن
هذا التقليد احتفاء معماري بالنصر الإسلامي الخالد على البيزنطيين.

ونعلم أن السلطان مراد الثالث أجرى ترميمات شاملة في المسجد، لإصلاح العيوب التي ظهرت به بمرور الزمن، وأزال الصليب الذي كان يُتوِّج القبة ووضع مكانه هلالاً ذهبيًّا قطره خمسون ذراعًا.

كما شرع
السلطان العثماني في تحويل فناء الكنيسة القائم إلى الجنوب من المسجد مباشرة إلى
أضرحة لسلاطين الترك، وأقدمها ضريح السلطان سليم الثاني، وهناك أيضًا دفن ابنه
مراد الثالث وحفيده محمد الثالث وإخوة محمد الثالث التسعة عشر الذين قتلهم بعد
اعتلائه العرش.

كما أمر السلطان مراد الرابع بتزيين حوائط المسجد، وعهد بهذه المهمة إلى الخطَّاط الشهير بجاقجى زاده مصطفى شلبي، فكتب هذا الخطاط عليها شواهد من القرآن بحروف كبيرة من الذهب، وبالرغم من نجاحه الساحق في هذه المهمة فإنه ليس صاحب الكتابات الأربعة الشهيرة والموجودة حتى الآن في سقف المسجد، وإنما من قام بهذه المهام هو الخطاط تكنجي زاده إبراهيم أفندي.

وفي عهد
السلطان أحمد الثالث أمر بإنشاء مكتبة المسجد، وهي لا تزال قائمة حتى الآن وتضمُّ
بين جنباتها عددًا كبيرًا من المخطوطات والكتب التاريخية الإسلامية.

وعندما احتلَّ السلطان سليم العثماني مصر انتزع منها بقية نسل الخلفاء العباسيين الذين احتضنتهم دولة المماليك، وأقام سليم في عاصمته إستانبول حفلًا تاريخيًّا تنازل فيه الخليفة المتوكل عن الخلافة نهائيًّا إلى سليم، لينقلها من نسل العباسيين إلى العثمانيين، وجرت مراسم هذا الحفل التاريخي في آيا صوفيا.

وبعدها استمرَّت «آيا صوفيا» إسلامية الهوية حتى أصدر أتاتورك قراره بـ«علمنتها»، ومن ثم تمَّت إزالة الجبس من على الرسومات المسيحية، فظهرت بعض الأشكال الأيقونية للسيدة مريم العذراء والسيد المسيح، بالإضافة إلى الإمبراطور قسطنطين (ومعه نموذج للبلدة التي أنشأها) والإمبراطور يوستنيانوس (ومعه نموذج لكنيسة آياصوفيا)، وهي الأشكال التي سيكون من المستحيل إبقاؤها على حالها إذا نفَّذ أردوغان قراره بتحويله إلى مسجد.

تُرى هل أعدَّ ما يكفي من جبس؟