بدا الأمر مختلفاً هذه المرة، فالمرويات التاريخية والكتابات التي قرأها المسلمون عن سنوات أغلقت فيها المساجد أبوابها خشية انتقال المرض، كان محض تاريخ مكتوب، ربما لم يخطر على بال أحد أن يحياها ويراها رأي العين، حتى هاجم كورونا الأجواء وصار التاريخ واقعاً، وأغلقت المساجد أبوابها لشهور طوال، ظهر فيها كيف ارتبطت الجمعة كشعيرة أسبوعية بنفسية العامة من المسلمين وأثرت فيها، وظهر لنا أن التاريخ لم يكن بخيلاً في وصف ذلك.

البداية لأجل الاجتماع

ربما تغيب تلك الرواية عن بعض المسلمين بالفعل، لكنها موضحة في الحقيقة للكثير بشأن صلاة الجمعة كشعيرة دينية وكرمزية لاجتماع المسلمين بصورة دورية، حيث إنها لم تكن في البداية ضمن الصلوات المفروضة حينما فرضت الصلاة، لكنها وبوصول المسلمين إلى المدينة كهجرة وانتقال وتأسيس جديد، طلب المسلمون من رسول الله أن تكون لهم صلاة تجمعهم كل أسبوع كما هو الحال عند المسيحيين واليهود، فجعل الله ذلك الجمع هو صلاة الجمعة، والتي وللمفارقة كانت كصلاة العيد باعتبارها عيداً أسبوعياً لكل مسلم.

وظهر بعض الخلاف بين أهل التاريخ الإسلامي فيما يمكن أن تكون أول صلاة جمعة صلاها المسلمون، فقد أخرج الدارقطني عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن أول فرض لصلاة الجمعة كان في مكة، لكن المسلمين لم يفلحوا في إقامتها تحت إمامة رسول الله لضعف شوكتهم وقلة عددهم، وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى مصعب بن عمير، وهو أول من أوفده رسول الله إلى المدينة: «أما بعد فانظر اليوم الذي تجْهَر فيه اليهود بالزَّبور لسَبْتِهِم، فاجمعوا نساءكم وأبناءكم، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقرَّبوا إلى الله بركعتين».

وعلى هذا يكون مُصعب أول من صلَّى بهم الجمعة في المدينة، وكان عددهم اثني
عشر رجلاً، كما في حديث الطبراني عن أبي مسعود الأنصاري، وهذا الحديث ضعيف.

وفي رواية أخرى أن اجتماع المسلمين لصلاة الجمعة كان اجتهاداً فردياً واختير يوم الجمعة لما له من وضع قديم عند العرب فيما يسمى بيوم العروبة -بفتح العين- حيث جاء في حديث مُرسل عن ابن سيرين قال: جُمِعَ أهل المدينة قبل أن يقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وقبل أن تنزل الجمعة، قالت الأنصار: لليهود يوم يجمعون فيه كل أسبوع، وللنصارى مثل ذلك، فهلمَّ فلنجعل يومًا نجمع فيه، فنذكر الله تعالى ونصلي ونشكره، فجعلوه يوم العَروبة، واجتمعوا إلى أسعد بن زُرارة، فصلى بهم يومئذٍ ركعتين وذكَّرهم، فسَموا الجمعة حين اجتمعوا إليه، فذبح لهم شاة فتغدوا وتعشوا منها، وذلك لقلتهم فأنزل الله تعالى في ذلك: (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ …).

حادثة التغير الكبرى

بعد أن استقر المقام برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المدينة واستقر أمر صلاة الجمعة، كانت الجمعة كصلاة العيد، يصلي الناس ركعتين في البداية ثم يجلسون للخطبة كما اعتاد المسلمون أن يصلوا العيد، لكن حادثة غيَّرت الأمر وجعلته على ما نحن عليه الآن.

حيث روى أبو داود في سننه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين، حتى كان يوم جمعة والنبي -صلى الله عليه وسلم- خطب وقد صلى الجمعة فدخل رجل فقال: إن دحية بن خليفة قدم بتجارة، وكان دحية إذا قدم تلقاه أهله بالدفاف، فخرج الناس فلم يظنوا إلا أنه ليس في ترك الخطبة شيء، فأنزل الله عز وجل: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا.) فقدَّم النبي -صلى الله عليه وسلم- الخطبة وأخَّر الصلاة.

ومن هنا تغيرت طريقة صلاة الجمعة حتى يومنا هذا لتصبح على ذلك النمط
الجديد.

أسبوع بلا جمعة

على مدى التاريخ الإسلامي كله تقريباً كانت الجمعة جزءاً أصيلاً من الشعيرة الدينية للمسلمين واستطاعت أن تحصل على ذلك الارتباط في نفوس الكثيرين لرمزيتها الجامعة للمسلمين كل أسبوع، ولارتباطها بالخطبة التي كانت جزءاً من أحداث التاريخ الإسلامي فيما مضى، وجزءاً من الوعظ المجتمعي في الحاضر القريب.

فبالرجوع إلى الخلف قليلاً كان الحديث عن امتناع المسلمين عن صلاة الجمعة يعتبر حدثاً جللاً تقشعر له الأبدان وتنشب على إثره الخلافات، حيث تخبرنا الأحداث التاريخية أنه وفي ظل انتشار طاعون عمواس في بلاد المسلمين فقد روى الإمام أحمد (ت 241هـ) -في مسنده- من حديث شهر بن حوشب (ت 112هـ) عن رابِّهِ (= زوج أمِّه) أنَّه كان قد شهد طاعون عمواس، فكان على قيادة الناس أبو عبيدة ابن الجراح فمات بالطاعون، ثم معاذ بن جبل فمات به أيضًا؛ «فلما مات استخلف على الناس عمرو بن العاص (ت 43هـ) فقام فينا خطيباً فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار، فتجبَّلوا منه في الجبال [وفي روايات أخرى: فتفرَّقوا منه في رءوس الجبال وبطون الأودية]. قال: فقال له أبو واثلة الهذلي: كذبتَ والله، لقد صحبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنت شرٌّ من حماري هذا (يُعيِّر عَمْرًا بتأخر إسلامه). قال [عمرو]: والله ما أرد عليك ما تقول، وايْم الله لا نُقيم عليه! ثم خرج وخرج الناس فتفرقوا عنه، ودفعه الله عنهم. قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب من رأي عمرو، فوالله ما كرهه».

وهي حادثة على وقعها الشديد في ظل انتشار موت قاتل بين الناس تكشف عن ذلك الخلاف العنيف الذي نشب بين عمرو بن العاص باعتباره قائداً للمسلمين وقتها وبين المصلين فقط لابتعاد الناس عن الاجتماع في صلاة الجمعة خشية على حياتهم من الطاعون القاتل، حتى إن روايات التاريخ المتضاربة لم توضح إن كان المسلمون قد امتثلوا لما قاله ابن العاص حينها أو لا.

والحقيقة أن هذه ليست حادثة وحيدة عبر ذلك التاريخ القديم، فالكثير من فقهاء الإسلام ومؤرخيه كتبوا ونقلوا عن مناسبات عدة ضربت فيها الأوبئة بلدان المسلمين، فتوقفت صلاة الجمعة خشية العدوى أو لاهتمام الناس برعاية مرضاهم الذين فتك بهم الوباء، حيث نقل ابن الجوزي ما حدث عام 449 هجرية من وباء ضرب البلاد والعباد واصفاً إياه «وقع في هذه الديار وباء عظيم مسرِف زائد عن الحد … والناس يمرُّون … فلا يرون إلا أسواقا فارغة وطرقات خالية وأبواباً مغلقة … وخلت أكثر المساجد من الجماعات».

وهو ما ينقل لنا أن حدث الأسبوع بلا جمعة كان لأمر عضال بالنسبة
للمجتمع المسلم بشكل عام كشعيرة دينية وكيوم للاجتماع واللقاء.

الجمعة كمظهر من مظاهر الدولة

تاريخياً لم تخلُ صلاة الجمعة كحدث جامع من الدخول في رمزيات أخرى ربما لم تكن واردة من قبل، كالرمزيات السياسية على سبيل المثال، ففي الدولة الأموية على سبيل المثال كانت خطب الجمعة فيها تحمل من البلاغة والعلم والفهم والاقتباس من القرآن واستخدام الأساليب اللغوية التي تشبه الشعر، لكنها كانت تستخدم الخصومة السياسية مع الصحابي علي بن أبي طالب وسبه كخصم سياسي لمؤسس الدولة ونجله، وهو ما كان له أثر في الاستخدام الأكثر تطوراً فيما بعد لحالة خطبة الجمعة كوسيلة لمبايعة الحاكم والدعاء له على المنبر كشكل من أشكال الإعلان عن الدعم له، كما حدث الحال في الدولة العباسية، وبعدها.

كان استمرار ذلك التقليد وذلك الارتباط بالنسبة للمسلمين أمراً مهماً في متابعة الأحوال الخاصة بالدولة عبر خطبة الجمعة، بل التعامل معها باعتبارها اجتماعاً يحصلون فيه على جرعة من كل شيء كقصص ديني ووعظ وخطبة سياسية وأبيات شعر وغيرها، وهو ما يمكن أن يفسر الأثر الكبير للارتباط المهم الذي أحدثته التغيرات الواقعة على صلاة الجمعة عبر تاريخ الدول وتغير حكامها.

يوم العائلة والوجبة المحببة

قدم ذلك المزيج الفريد من نوعه ليوم الجمعة حالة متفردة بالنسبة للفرد المسلم وبالنسبة للحالة المجتمعية، فهو لأنه يوم العيد يشهد استعداداً قبل الصلاة بالتزين والتعطر والتجهز للصلاة كيوم عيد فعلي تراه متمثلاً في صلاة الجمعة نفسها، ويكتمل الطقس بوجبة محببة من اللحم أو غيره كاحتفال الأسبوع واستكمال الاجتماع المبهج، وارتبط ذلك أيضاً بكونه يوم إجازة أسبوعية وفرصة للاجتماع العائلي باعتباره الطقس المكتمل للعيد الأسبوعي.

ربما يمكننا فهم حالة الحزن الحقيقي التي ضربت الكثير من النفوس طوال الشهور الماضية، والتي اختفت فيها صلاة الجمعة بسبب أزمة فيروس كورونا، فعشرون أسبوعاً من انتفاء الطقس الاحتفالي الجامع كان كافياً لرؤية حالة الاشتياق التي تملأ العيون والقلوب وهي تتحرك سراعاً نحو المساجد الكبيرة اليوم لإحياء شعائر صلاة الجمعة بثوب أبيض وعطر فوَّاح وسجادة صلاة ومعها إجراءات الاحتراز من لعنة كورونا، كل تلك الصور والمظاهر يمكنها أن تخبرنا الكثير عن فرض هو في الحقيقة جزء من كل الفروض التي يؤديها المسلمون بشكل دوري، لكنها تحوز حالة فريدة من التفرد والتميز تعطيها حالة خاصة المكانة عند المسلمين في كل أقطاب الأرض قاطبة.