شاركها 0FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram 65 تؤوي اللغة العربية بين جنباتها ظاهرة لفظية مدهشة تُعرف بـ «الأضداد»، وهي تلك اللفظة التي تُطلق على الشيء ونقيضه في آنٍ واحد، مثل كلمة «القُرْء»، التي تعني الحيض والطهر منه، و«الصريم» التي قد تعني الليل تارة والنهار تارة أخرى، وغيرها من التعبيرات التي قد تُقدِّم حروفها الشيء ونقيضه في آنٍ واحد. كان هذا أول مثال طرأ على ذهني حين مرَّت على مسامعي عبارة «الإباحية الأخلاقية» لأول مرة، فشِقَّا تلك الجملة حافلان بأضداد حياتية مُركزة تجعل الجمع بينهما أمرًا مستحيلاً في أي تفكيرٍ بديهي. كيف يُمكن أن تُوصف مهنة قائمة على التجرد الأخلاقي بالأخلاق؟ هل من المنطقي أن يُحاول أحدهم ترسيخ مفهوم صناعي/ اجتماعي جديد لإعادة تقديم صناعة المواد الإباحية إلى العالم بعد طلائها بلونٍ جديد يزيدها لمعانًا ويمنحها بريقًا مزيفًا؟ ما هو مفهوم «الإباحية الأخلاقية» الذي بدأ ينتشر في أوروبا تدريجيًّا؟ وكيف تصوَّر شخصٌ ما أنه يُمكنه أن يُنبِت وردة وسط الرماد؟ إباحية الحشمة والأدب في البداية، علينا توضيح سريع بأن صناعة الأفلام الإباحية لا تتمتَّع في الغرب بالنظرة المشؤومة التي يمنحها إياها المشرقيون، فهي وبالرغم من التنديدات الاجتماعية المتتالية بحقِّها في مجالات انتهاك حقوق البشر والتنكيل بالنساء والقُصَّر وإجبار الممثلين على العمل في ظروفٍ أقرب إلى السُّخرة، لكنها تبقى قطاعًا اقتصاديًّا قائمًا في كثيرٍ من المجتمعات الأوروبية، التي تسمح لشركات إنتاج الأفلام الإباحية بالعمل وتصوير مشاهدها وتداولها في الأسواق بأريحية طالما التُزِم بألا تُباع لمَن هم دون السن القانونية. ولكن، بالرغم من الإقبال الهائل على المنتجات المرئية لماكينة صناعة الأفلام الإباحية بأشكالها المختلفة، فإن أغلب صنَّاعها يُواجهون مصاعب جمَّة خلال عملهم، أهونها إجبار الممثلين على تعاطي المخدرات، والممثلات على تصوير مشاهد غير متفق عليها، وعدم الالتزام بالسنِّ القانونية للعمالة، والاستعانة بخدمات أطفال دون الـ 18 عامًا، وانتهاءً بعدم منح الممثلين حصَّة عادلة من الأرباح. وربما من أشهر الأمثلة على ذلك ما كشفته الممثلة الأمريكية اللبنانية مايا خليفة، التي حققت شهرة هائلة فور دخولها عالم صناعة الأفلام الإباحية، مع أنها لم تجنِ إلا 12 ألف دولار بالرغم من أن أرباح المواقع من تداول أفلامها وحدها لم تقل عن 500 ألف دولار، وفقًا لأقل التقديرات. كشفت مايا أنها كانت تشعر بالخوف من مُنتجي أفلامها الذين كانوا لا يأبهون لها، ويصرون على تصوير المشاهد حتى لو كنت حياتها هي ثمن ذلك. وحتى شركات الإنتاج الذين يُتَّهمون دومًا باستغلال البشر وإجبار الممثلين على العمل في ظروف قاسية تُعاني هي الأخرى بسبب أعمال القرصنة الواسعة التي تجري على أفلامها وتعرضها بشكلٍ مجاني على منصَّات أخرى، ما يحرم شركة الإنتاج من عوائد ضخمة كانت ستظفر بها حال استمرارها في التمتُّع بحصرية العرض. يقول «إيان كيرنر – ian kerner»، الطبيب النفسي والمختص في العلاقات الجنسية، في أحد كتُبِه ، إن أحد مواقع الإباحية الشهيرة حقَّق في عام 2019م وحده 43 مليار زيارة، أي بمعدل 117 مليون زيارة في اليوم، وهو ما يساوي مجموع سكان كندا وأستراليا وبولندا وهولندا، زاروا جميعًا الموقع في يومٍ واحد، كما أن الموقع رفع ما يزيد عن 1.36 مليار ساعة من محتويات جديدة سُرقت من إنتاج الشركات، وهو ما يحتاج إلى 155 عامًا لمشاهدتها، هذه العوائد الضخمة لا ينال أصحابها أي شيءٍ منها، وتنصبُّ مباشرة في جيوب أصحاب المنصات الإلكترونية. هذه الظروف المأساوية دفعت بعض شركات الإنتاج إلى اختراع ما سُمِّي لاحقًا بـ«الإباحية الأخلاقية»، وهو مبدأ تجاري/ صناعي قام على أساس تحسين الظروف التي يمرُّ بها العاملون في الصناعة، فلا تُجبَر الفتيات على تصوير أي مشاهد يرفضنها، ويتلقى الممثلون أجورًا كبيرة ورعاية طبية نفسية وجسدية طوال ساعات العمل، تضمن ألا تقودهم ضغوط العمل إلى تدهور أحوالهم المعيشية، وبالإضافة إلى ذلك فإن تلك الشركات تسعى لتقديم محتوى مُناسب لكل طوائف البشر، بلا تفرقة عنصرية، وفيهم أصحاب البشرة السمراء والأقزام وأصحاب الإعاقات الأزلية كفاقدي البصر. هذه الامتيازات الإضافية التي توفرها «الشركات الأخلاقية» لموظفيها خلقت المزيد من الأعباء المالية بالطبع، لهذا فإنها لا تُوفر خدماتها/ منتجاتها مجانًا للمستخدمين، ولا تُفرج عنها إلا عن طريق منصَّات مشفرة تفتح أبوابها فقط للمُشاهد الذي يدفع مقابلًا نقديًّا سخيًّا. وبالرغم من جهود هذه الشركات لتقديم نفسها باعتبارها «مؤسسات أخلاقية» فإن هذا المسعى لا يزال يثير الجدل حتى الآن، وسط المجتمع الغربي نفسه، الذي قد يقبل عقله وجود مؤسسة تعمل على إنتاج تلك النوعية من الأفلام، لكنه في المقابل يطلب منها أن تكون صريحة مع نفسها كشركة تستثمر أموالها في الجانب المُظلم من الإنسانية وتتلمَّس أرباحها من المتاجرة في غرائزها، ولم يبتلع حتى الآن كيف يُمكن أن تجتمع كلمتا «الدعارة» و«الأخلاق» في آنٍ واحد، وكأن لسان حاله يقول: «أنتم أشخاص سيئون، اعترفوا بذلك، لا تُمارسوا القذارة، وتحاولوا بعدها إقناعي أنكم تُمارسون قذارتكم بنظافة»، وبالطبع فإن صاحب هذه المقولة المُتخيلة لن يخطر على باله أن السينما المصرية قدَّمت عرْضًا فكريًّا مُشابهًا ذات مرة، ولكن بشكلٍ ساخر، بعدما عرض أحد مشاهد فيلم «الفرسان الثلاثة» (إنتاج سنة 1947م) مكانًا أُطلق عليه «كباريه الحشمة والأدب. حساسية البيض مُضرَّة مهما اعتنيتَ بالدجاجة يقول الكاتب الصحفي الأيرلندي «جون مكجوريك – John McGuirk»، في مقالته «هل هناك شيء يُمكن تسميته بـ (الإباحية الأخلاقية)؟» إن محاولة وضع كلمة «إباحية» بجوار كلمة «أخلاقية» لا تعني أن هذه المواد ستكون «أكثر فضيلة» من المواد الإباحية التي تُنتجها الشركات الأخرى (غير الأخلاقية)، بل إن الأمر أشبه بتناول البيضة من متجرين؛ الأول يُنظف قفص الدجاجة في نهاية اليوم والآخر لا يفعل، في النهاية إذا كنتَ تُعاني من حساسية البيض فستمرض إذا اشتريتَ من كلا المتجرين! ويعتبر مكجوريك أن هذا الطرح الجديد ما هو إلا محاولة لإعادة إحياء الصناعة التي تُواجه صعوبات مالية مُضنية بسبب أعمال القرصنة التي نقلت دفَّة الأموال من شركات الإنتاج إلى المواقع الإلكترونية التي تبثُّ الأفلام بشكلٍ غير مشروع، وذلك عن طريق محاولة إضفاء ثوب الفضيلة على المنتجات الجديدة وإقناع الجمهور بالدفع مقابل مشاهدتها، بدلاً من مشاهدة الأفلام غير الأخلاقية المجانية، ما قد يعدل الكفة المائلة ويعيد تدفق الأموال إلى شركات الإنتاج من جديد. وهو سلوك يلعب على وتيرة سعي شريحة من المجتمع للتميز عن غيرها في عمليات شراء يعتقدون أنها تحمل قدْرًا من التميز، بالضبط مثل شراء المنتجات العضوية أو الإصرار على استخدام الحقائب القماشية بدلًا من نظيرتها البلاستيكية، ومن هذا المنطلق سيكون من العبث اعتبار أن الطريق لصيانة حقوق المرأة وحمايتها من التعرُّض للأذى خلال تصوير مشاهد جنسية هو تصوير مشاهد جنسية أخرى موازية لها لا تتضمن قصتها تعريض المرأة للكثير من العنف، وإنما الحل المنطقي هو منعها من الأساس! وهنا تكمن الإشكالية الكبرى التي حصر فيها هذا المفهوم الأخلاقي لصناعة الأفلام الجنسية نفسه بالتركيز على تحسين ظروف الممثلين فقط، متناسيًا بقية الأضرار الكُبرى التي تُصيب متابعي هذه النوعية من الأعمال، والتي ستصيب المشاهدين في جميع الأحوال، سواء عمل الممثلون في ظروف مناسبة أم لا، مثل التهوين من الاعتداء الجنسي على النساء ما يزيد من معدلات الاغتصاب والعنف ضد المرأة. ففي العام 2010م، أجرى عدد من الباحثين مسحًا على عينة عشوائية تضمنت 300 مشهد إباحي، كشفت أن 88% منها احتوت على عدوان جسدي، ووفقًا لهذه الدراسة فإن أغلب مشاهدي الأفلام الإباحية يكونون أكثر استعدادًا للقيام بجرائم الاغتصاب، كما أنهم الأكثر امتلاكًا لنظرة مهينة بحقِّ النساء. بل إن الأمر قد يسوء أكثر من ذلك، وفقًا ل هذا البحث الذي يؤكد أن إدمان مشاهدة الأفلام الإباحية يُدمِّر العلاقات بين الأزواج، ويُفقد الشركاء اهتمامهم بشركائهم الآخرين، حتى إن إحدى الدراسات اعتبرت أن مشاهدة زوج لفيلم إباحي هو أكبر مؤشر على قُرب وقوع الطلاق بينه وبين زوجته. هذا التأثير المُدمر وغيره، مما أثبتته عشرات الدراسات البحثية التي اعتنت بفحص آثار مشاهدة الأفلام الجنسية على نفس الإنسان، تتساوى في إحداثها المُنتجات الإباحية جميعًا، سواء أكانت أخلاقية أم لا، ووثَّقتها شبكة «نيتفليكس» بـ 3 أفلام وثائقية تناولت الأجواء المُدمرة التي تعيشها صناعة مثل هذه الأفلام بشكلٍ عام، وهو ما دفع جون لاختتام مقالته بعبارة ساخرة يقول فيها: «نعم، الإباحية الأخلاقية أصبحت موجودة، لكن هذا لا يعني أنها خالية من الأذى». وتضيف الباحثة التربوية «ليز والكر liz walker»، في مقالها «الإباحية الأخلاقية.. ستار دخان على صناعة استغلالية»، أن الاختلاف الوحيد بين الإباحية الأخلاقية وغيرها هو أن المستهلكين يدفعون ثمنها، ما يضمن للمُنتج ربحًا مؤكدًا. وتعتبر أن هذا المفهوم الخبيث يلعب على وتر شعور نسبة لا يُستهان بها من مشاهدي الأفلام الجنسية بوخزة ضمير كلما رأوا مشهدًا تُعنَّف فيه امرأة أو تُعامل كالحيوان. هذا الطرح الإباحي/الأخلاقي سيقود هذه النسبة من المشاهدين إلى مسار مُخيف يُريح ضمائرهم، وهو: «لا تقلق على شخصٍ آخر، كل ما تُشاهده بموافقة جميع الممثلين»، ما يقود إلى الإقبال على مشاهدة هذه النوعية من الأعمال، والتي تتضمن بالمناسبة جميع «تيمات» الأفلام الإباحية الأخرى، والتي تعتمد بشكلٍ رئيسي على إهانة النساء وتقديمهن كوسيلة للمتعة. وهي ذات الفرضية التي تبنَّتها الكاتبة إيما وود في مقالتها «هل توجد مواد أخلاقية إباحية؟» معتبرةً أن الطرح الوحيد الذي يجب التعاطي معه بشكل عميق عند تقديم الإباحية هو أنها مرفوضة تمامًا من الناحية الأخلاقية، والجمع بين النقيضين لن يستقيم أبدًا. ومن هذا المنطلق فإن النهج الأخلاقي الوحيد الذي قد يجمع الإباحية بالأخلاق يومًا ما هو العمل على إغلاقها والتوعية بمضارها الجسيمة، وعدم الارتكان إلى خداع الشركات مهما بدا برَّاقًا ومنطقيًّا … وأخلاقيًّا. قد يعجبك أيضاً بلال فضل و«المعذبون في الأرض» ما هي أبرز القضايا السياسية بعد 30 يونيو؟ مشروع «2 كفاية»: هاجس الزيادة السكانية ما زال مستمرًا 6 أدلة تُبرئ «مجانية التعليم» من التهم المنسوبة إليها شاركها 0 FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram أحمد متاريك Follow Author المقالة السابقة موقعة البويب: «ريمونتادا» فتح فارس المقالة التالية كلمة حق عند سلطان جائر: شيوخ خاضوا المعارك في سبيل الدعوة قد تعجبك أيضاً احفظ الموضوع في قائمتك القاهرة المملوكية (4).. بين الحارات والأزقة! 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الراسبوتيتسا: هل تغوص روسيا في الوحل الأوكراني؟ 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك التقرير السنوي لسيادة القانون: مصر الأخيرة عربيا وفى المركز الـ... 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك تعمى عنهم الدولة والمجتمع: ماذا تعرف عن حياة المكفوفين في... 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك هل نعرف ما هي «الخلافة»؟ 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك اختلاط الزيت بالماء: هل تأثرت الفلسفة تاريخيا بالتصوف؟ 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك فرانسوا بورجا: «الإسلام السياسي» في رواية أخرى 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك في السجون الفلسطينية: التعذيب هو «سيد الموقف» 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك يوم سقطت حلب في يد التتار 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك كيف تنشر كتابك الأول بأقل تكلفة مادية؟ 28/02/2023 اترك تعليقًا إلغاء الرد احفظ اسمي، البريد الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح للمرة القادمة التي سأعلق فيها.