منذ 3 سنوات، استيقظ المجتمع السعودي على فضيحة فساد كبرى، ليس فقط من ضخامة حجم الأموال التي أكدت نهبها وسائل الإعلام المقربة من السلطة الملكية، وإنما من فخامة الأسماء التي استضافها «ريتز كارلتون» قسرًا، ووردت بقوائم التحقيقات، وبعد أن كان جُلها من رواد القصور، أصبحوا «حبيسي قصور» ينتظرون الفَرَج، وكان من أبرز «المساجين» أحد أغنى رجال العالم؛ الوليد بن طلال.

تقارير إعلامية كثيرة ربطت فورًا بين سجن «الوليد» وبين مواقف أبيه طلال المعارضة، مُستحضِرة تاريخه القديم في الوقوف أمام بني أسرته في مناسبات عِدة، ليس فقط في استقالته من هيئة البيعة 2011 اعتراضًا على تعيين الأمير نايف بن عبد العزيز وليًا للعهد، وفي ظهوره المتكرر بالفضائيات العالمية داعيًا للتغيير، ولا حتى في انتقاداته اللاذعة لأسرته عبر حسابه الشخصي على موقع «تويتر»، وإنما لأنه قاد يومًا حركة كادت تطيح بحُكم نسل الملك عبد العزيز إلى الأبد.

في فُندق سُجن الابن، ومن فندق اندلعت أشهر معارك الأب مع الأسرة الحاكمة في الستينيات، ليس من داخل الحجاز هذه المرة، ولكن من أقصى الشام في فندق «سانت جورج» المعلم السياحي الشهير الذي استضاف مؤتمراته المعارِضة، والتي خرجت فيها عباراته تكوي بني سعود، وتتوعَّد مُلْكهم بالدمار إن ظلُّوا على ما هم فيه من انغلاق.

كوَّن الأمير طلال بن عبد العزيز وبعض إخوته أهم حركة ليبرالية ظهرت على الساحة السعودية خلال العقد الأخير، عُرفت بـ «الأمراء الدستوريين» أو «الأمراء الليبراليين»، لكن ظل لقبها الأشهر هو «الأمراء الأحرار»، وعلى الرغم من عمرها القصير فإنها تُعد أخطر «معارَضة» أوشكت على الإطاحة بمُلك آل سعود من الجزيرة، خاصة أنها نتأت في خِضَم فترة مضطربة كان عرش خَدَم الحَرَم فيها يترنح من فرط ضغوط الداخل والخارج.

فيصل أم سعود.. أم عبد الناصر؟

تقول مضاوي الرشيد، أستاذة الأنثربولوجيا الدينية في كتابها «تاريخ العربية السعودية بين القديم والحديث»، إنه فور وفاة الملك عبد العزيز في نوفمبر 1953م، ومن بين أبنائه الـ 43 نشب صراع كبير على السلطة بين وَلَديه الكبيرين سعود (1902م) ولي العهد ونائبه في نجد، وفيصل (1906م) نائبه في الحجاز، كاد أن يؤدي إلى انهيار حكم الأسرة بأكملها، وفي الخلفية شارع عربي مُلتهب بخُطب عبد الناصر التي وعدته بجنَّة اشتراكية تقضي على رجعية الملوك وتحرر الأقصى من آسريه، دعوات كانت غريبة على الأذن الصحراوية، لكن مع الوقت بدأت تستطيبها وتتطلع لتجربتها.

وتتابع «الرشيد» بأنه تلت وفاة الملك أزمة على مستوى القيادة؛ لأنه لم يخلِّف سابقة تاريخية يهتدي بها ورثته، ما أنشأ الحاجة لابتكار طريقة يُمكن بها تقسيم المُلك بين الأخوَين دون الدخول في صراعات مطولة، وهو ما لم يحدث.

حاوَل الملك عبد العزيز حل هذه المشكلة قبل وفاته بشهر، بتعيين «فيصل» نائبًا عن الملك لرئاسة مجلس الوزراء، وكان يُراد له أن يكون هيئة تنفيذية للحُكم، وكانت له سلطة إصدار القرارات الوزارية، ولكن لم تكن له سلطة مستقلة عن المَلِك الجديد الذي يجب أن يوافق على كل شيء، ما زاد من تفاقم الأزمة.

وتضيف «الرشيد»: أُعلن سعود مَلِكًا وأصبح أخوه فيصل وليًا للعهد، لكن الأول أثبت عدم كفاءته، فتضاعفت الديون الخارجية، وفقد الريال السعودي نصف قيمته الرسمية أمام الدولار، وتدخلت شركة «أرامكو» بشكل مطلق في إدارة شئون البلاد، وبالرغم من ذلك واصل الإنفاق على بناء قصور فخمة، وخصص راتبًا شهريًّا ضخمًا لكل أمير بلغ 31 ألف دولار.

يقول الأمير طلال، في إحدى حلقات برنامج «شاهد على العصر» على قناة الجزيرة، إنه قرر الاستقالة من منصبه كوزير للمواصلات 1954م بسبب ما اعتبره «اختلافًا في وجهات النظر» داخل المجلس بعد قرار سعود نقل صلاحياته إلى الملك بدلًا من رئيس الوزراء، بالإضافة لوجود نزاعات جوهرية بشأن «ميزانية الدولة»، عمل بعدها سفيرًا للسعودية في

فرنسا

9 أشهر، ثم عاد إلى البلاد ليبدأ مسار دعواته الإصلاحية.

خلال هذه الفترة بدأت تتكون 3 مراكز قوى في المملكة؛ الأولى حول سعود وأحاط به أبناؤه خالد ومنصور وبندر وسلطان، والثانية حول فيصل مؤلَّفة من إخوته غير الأشقاء (المجموعة التي عُرفت بلقب السبعة السديرية، نِسبة إلى زوجة المؤسِّس الثامنة حصة بنت أحمد السديري)، فضلاً عن أعمامه بقيادة مساعد بن عبد الرحمن وعبد الله بن عبد الرحمن (كلاهما من إخوة ابن سعود) وكبار تجار الحجاز، والتكتل الأخير، الأضعف سياسيًّا والأقوى ثقافة وطموحًا، هو طلال والذين معه.

ويضيف المؤرخ مفيد الزيدي، في كتابه «موسوعة تاريخ المملكة العربية السعودية: الحديث والمعاصر»، أن طلال أحاط نفسه بمجموعة الشباب المتعلمين الذين عملوا في وزارات عِدة، وتأثروا بالاتجاهات الفكرية المحيطة بهم، وخاصة الناصرية، كما انضمَّ له الأمراء بدر وفواز وعبد المحسن ومشعل ومتعب ونواف وعبد الله، وتمركزت مطالبهم في وضع دستور دائم للبلاد، وإسناد صلاحيات لمجلس الشورى تحيله لمجلس استشاري فعَّال، وإعادة تنظيم الحكم الملكي في الأقاليم، ووضع نظام للمشورة ضمن العائلة الحاكمة.

وتؤكد همسة الجميلي، أستاذة العلوم السياسية، في كتابها «الإصلاح السياسي في دول مجلس التعاون الخليجي»، أن «تنظيم الأمراء» قدَّم في 1958م مذكرة إلى الملك سعود تضمنت 4 مطالب، هي:

1. تحديد دستور للبلاد.

2. إحياء مجلس الشورى، ليكون بمثابة مجلس تشريعي حقيقي.

3. تطوير الشورى داخل الأسرة المالكة.

4. وضع خطط تنموية، وشق الطرق والمواصلات، والاهتمام بالميزانية والصحة.

وتضيف أن فيصل حاول مِرارًا كسب موقف «أمراء طلال» إلى جانبه في صراعه مع شقيقه من خلال اللعب على ورقة إيمانه بمطالبهم، لكن الأخير كان أسرع في استمالتهم، وبالرغم من وعوده بالإصلاحات فإنه رفض تنفيذها في نهاية الأمر بشكل غير مباشر، حين أحالها لهيئة تشريعية تؤكد موقعها من الحلال والحرام، فضاعت للأبد.

في خضم الصراع، ونتيجة للخلافات المزمنة بين الطرفين، استقال فيصل من منصبه في ديسمبر 1960 بسبب رفض سعود التوقيع على الميزانية، لينتهز الأخير الفرصة ويُشكل حكومة برئاسته سُميت في الصحف بـ «وزارة الشباب»، عيَّن فيها نجله فهدًا في وزارة الدفاع، ونجله مساعدًا في الحرس الملكي، ونجله خالدًا في الحرس الوطني، ونجله سعدًا في الحرس الخاص، وأخاه طلالاً في وزارة المالية، ولم يكن هو الوحيد الذي مثَّل «الأحرار» في هذه الوزارة، وإنما عُين أحد كبار أنصاره وهو عبد المحسن بعد عبد العزيز وزيرًا للداخلية، كما اعتُمد الأمير فواز حاكمًا للرياض.

وبدأت بوادر حدوث تغيير جذري في المملكة، فنشرت صحفية «الجريدة» اللبنانية أول مسوَّدة دستور في تاريخ البلاد، أنجزه حقوقيون مصريون بتكليف من الأمير طلال من 220 مادة، شملت الاعتراف بعروبة البلاد، واستقلال القضاء، وإصدار القوانين المدنية والقضائية، والتأكيد على أن موارد الدولة ملك للشعب وليس للحاكم. تلكؤ سعود في تنفيذ أيٍّ من بنوده أعاد الخلافات إلى السطح، فأُقيل طلال من منصبه.

ولكن بسبب صحة الملك المتداعية، واضطراره إلى السفر لأمريكا للعلاج، استغل فيصل الأمر وعاد إلى الحكم أقوى مما كان، وفي مارس 1962 أصبح رسميًّا رئيسًا للحكومة، فأقال كل أعضاءها، واستبعد جميع أبناء سعود، وأعلن خطة إصلاحية من عشر نقاط شملت إعداد قانون أساسي، وإلغاء الرق، وإقامة مجلس قضائي، لكنها لم ترق لما أمله الإخوة الأمراء، فقرروا سَلْك مسار آخر للمعارضة من الخارج.

الهروب إلى الخارج

في 15 أغسطس 1962، عقد الأمير طلال مؤتمرًا صحفيًّا في «سان جورج» ببيروت، هاجم فيه النظام السعودي، دون أن يذكر اسم الملك، أوضح به أن الأمراء الأحرار طوال فترة وجودهم في الحُكم قاموا بمحاولات لتغيير الوضع ولم يتمكنوا، ولذلك تنازلوا عن الحكم وخرجوا؛ كي لا يتحملوا مسئولية سوء الأوضاع، وأكد أن ملك آل سعود زائل، وإن لم يصلح ذاته فسيجرفه التيار الثوري بلا رحمة.

يقول المفكر السوري ذوقان قرقوط في كتابه «تاريخ الأمة العربية الحديث»: إن أمرًا ملكيًّا صدر بسحب جوازات سفر الأمراء الخمسة، ثم أتبع ذلك بمصادرة أموالهم واحتلال قصورهم.

وتزعم بعض التقارير الصحفية أن السعودية مارست ضغوطًا على لبنان كي لا يحتضن هذه الحركة، وهو الأمر الذي أثار مخاوف حقيقية لدى بيروت، من أن يتسبب وجودهم في توتير العلاقات مع المملكة، فصدرت أوامر غير معلنة ولا رسمية بالتضييق على الأمراء.

يقول الأمير طلال في شهادته المتلفزة إنه فوجئ بقرار لبناني بسحب جوازات سفر جماعته، فالتقى السفير المصري ببيروت وعرض عليه اللجوء إلى مصر، فرحب فورًا، وهناك استقبلته مظاهرة إعلامية رتَّبها عبد الناصر لاستغلالهم في العلاقات السيئة التي جمعته بالمملكة وقتها.

https://www.facebook.com/watch/?v=1971367699585502

أعلن خلالها الأمراء أن معركتهم ضد سعود ستنتقل إلى «داخل السعودية» في أقرب وقت، وخُلع عليهم للأبد لقب «الأمراء الأحرار»، وأصبح ارتباطهم بمصر «أمرًا واقعًا».

ومن القاهرة، أصبح الظهور الإعلامي المتكرر لطلال مهاجمًا آل سعود أمرًا معتادًا. يقول محمد عبد العظيم في كتابه «مدخل لظاهرة الإرهاب في مصر والمملكة العربية السعودية»، إن المواجهة المصرية السعودية في اليمن بسبب ثورة السلال ضد البدر، أدت لتصاعد مؤقت في نشاط مجموعة «الأمراء الأحرار»، فشنُّوا حملة إعلامية قوية ضد التدخل السعودي ضد الثورة حفلت بالعديد من الخطابات النارية.

سجَّل «قرقوط» إحداها في كتابه، يقول فيها طلال:

«ما الذي حشر الملك سعود وجعله يتدخل في شئون اليمن الداخلية، السبب أن سعود يريد الإبقاء على الحكم الرجعي في اليمن حتى يبقى هو نفسه، أوليس الأفضل لسعود أن يحمي نفسه أولاً قبل أن يساعد غيره ويحميه؟ وهذه المبالغ الضخمة التي عودنا سعود صرفها يمينًا وشمالًا على مؤامراته ودسائسه، أليست البلاد في حاجة إلى كل قرش منها؟»

كما أُعلن في 23 أكتوبر 1962 عن تشكيل جبهة التحرير العربية، مستوعبة مجهودات كل المعارضين، وضمت جميع الأطياف الحزبية والأيديولوجية، ونصَّ ميثاقها على أنه «يُترك للشعب حرية اختيار نوع نظام الحكم الذي يقرره»، كما شدَّد في مواده في الباب الأول على حرية الفكر والنشر والصحافة، وحرية الاجتماع، وتشكيل الجمعيات والنقابات، وإقرار مبدأ التنظيمات السياسية.

ويضيف عبد العظيم أن العلاقات بين الأمراء الأحرار وعبد الناصر تدهورت بعد أن أذاعت إذاعة اليمن دعوة لـ «تصفية جميع أفراد الأسرة السعودية دون استثناء»، بينما يقول الأمير طلال في شهادته إن سبب الخلاف بدأ حين قصفت القوات المصرية جيزان، ما اعتبره تعديًا على التراب السعودي، فقال لعبد الناصر: «كله إلا ضرب البلد»، فنال قطيعته للأبد.

صلح فعودة

في الوقت نفسه كانت السعودية تسبح على أتون من اللهب يوشك على الانفجار، بعد أن عاد سعود من الخارج ورفض كل قرارات أخيه فيصل، وبلغ التراشق بينهما حدًّا كاد أن يندلع بسببه القتال بين الحرس الملكي (التابع لسعود) والحرس الوطني (التابع لفيصل)، تدخل عدد من أفراد الأسرة الحاكمة ورجال الدين، وفي 30 مارس 1964 أصدر العلماء فتوى تطلب من سعود أن يكون ملكًا رمزيًّا للبلاد، على أن يقوم فيصل بتصريف كل شئون المُلك، وفي أكتوبر من العام نفسه تقرر خلع الملك سعود عن عرشه رسميًّا، فغادر الدولة بعد حفل وداع رسمي، لم يُثْنَ عن مواصلة السعي إلى استعادة عرشه.

وصل سعود مصر لاجئًا سياسيًّا، ليبدأ رحلة الهجوم على فيصل، مستعينًا بكل التسهيلات التي منحها إياه عبد الناصر، وبسبب ذلك تخوف فيصل من أن يجتمع سعود وطلال ويشكلا معًا جبهة قوية لمعارضته، فعرض على جماعته الصلح مستغلًّا حالة الجفاء بينهم وبين مصر.

وفي فبراير 1964 عاد طلال إلى الرياض بعد أن كان إخوته قد وصلوا إليها قبل شهر، حيث احتواهم فيصل في عدد من المناصب المهمة، فعيَّن بدرًا نائبًا لقائد الحرس الوطني 1965، ونوافًا مستشارًا للملك 1968، وفوازًا أميرًا لمكة 1971، وعبد المحسن أميرًا للمدينة 1975، ولينفرط عقد الأمراء الأحرار إلى الأبد، وتنتهي أحلام عبد الناصر بالإطاحة بـ «الملكية الرجعية».