شاركها 0FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram 74 على مدار التاريخ الإسلامي، امتزج الدين والسياسة بالألوان، فأضحى لكل فرقة وطائفة لونها المميز والمستمد من مبادئها وأهدافها، وهو ما وضح في ظهور العديد من الفرق السياسية التي حملت السواد والبياض والحمرة وكذلك اللون الأصفر دلالات سياسية ودينية، ما بين الطاعة والولاء والتبعية، أو التمرد والعصيان. السواد: رمز العباسيين وتسيد المذهب السني يذكر إبراهيم محمد علي مرجونة في كتابه «الدلالات والرمزية السياسية والحضارية عند دول المشرق الإسلامي»، أن راية الخلافة العباسية (132- 656هـ / 749- 1258م) كانت سوداء اللون، حيث أضحى السواد شعار العباسيين طوال حكمهم، باستثناء فترة قصيرة أثناء حكم الخليفة المأمون اتخذ فيها اللون الأخضر شعارًا، ولكن اختلف المغزى من اختيارهم لهذا اللون، إذ يرى أحمد بن علي القلقشندي في كتابه «مآثر الإنافة في معالم الخلافة»، أن السبب في ذلك يرجع إلى أن النبي عقد لعمه العباس بن عبدالمطلب يوم حنين، ويوم الفتح 8هـ/ 629م راية سوداء. أما الحسن بن عبدالله أبو هلال العسكري، فيرى في كتابه «الأوائل» أن اختيار هذا اللون يرجع إلى أن إبراهيم بن محمد العباسي المعروف بالإمام، أول القائمين من بني العباس لطلب الخلافة، قال لشيعته عندما أراد مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية قتله: «لا يهولنكم قتلي، فإذا تمكنتم من أمركم فاستخلفوا عليكم أبا العباس (يعني السفاح)»، فلما قتله مروان لبس شيعته عليه السواد، فلزمهم ذلك، وصار شعارًا لهم. ويذكر عبدالرحمن بن خلدون في تاريخه المسمى «تاريخ ابن خلدون» رأيًا مشابهًا، فيقول إن «رايتهم كانت سوداء، حزنًا على شهدائهم من بني هاشم، ونعيًا على بني أمية في قتلهم، ولذلك سُموا المسودة، ولما افترق أمر الهاشميين، وخرج الطالبيون على العباسيين في كل جهة وعصر، ذهبوا إلى مخالفتهم في ذلك (أي اتخذوا اللون الأبيض شعارا لهم) وسموا المبيضة». وبحسب الدكتور فاروق عمر في كتابه «بحوث في التاريخ العباسي»، لم يتقبل الشيعة العباسية من عرب خراسان هذا اللون في البدء، ولذلك برر العباسيون اتخاذهم هذا اللون بأسباب منها: أن راية الرسول وعلي بن أبي طالب كانتا سوداوين، وأن الرسول عقد للعباس يوم حنين والفتح راية سوداء، كما أن لون الملابس التي كان يلبسها النبي داود وأصحابه حين لقي جالوت وظفر به هو السواد، فضلًا عن أن سهم عبدالمطلب جد النبي حين تنازع مع قريش على بئر زمزم كان أسود، بينما كان سهم قريش أبيض، كما أن الذي يميز بني عبدالمطلب هو لبس السواد. إلا أن هذه الأسباب ثانوية إذا قيست بالسبب الأخير، ألا وهو التنبؤات وانتشار علم الجفر الذي يبحث في معرفة الغيب والمستقبل اعتمادًا على دلالات الحروف، وكذلك الملاحم بين الناس، والتي كانت تتنبأ بظهور الأعلام السود من قبل المشرق، وأن هذه الروايات هي المنتصرة. وكانت هذه الأمور ذات أثر كبير على الناس التي شغلت أذهانهم بها آنذاك، وهو ما أشار إليه أحمد بن أبي يعقوب اليعقوبي في كتابه «تأريخ اليعقوبي»، بقوله «ولما قُتل زيد بن علي تحركت الشيعة بخراسان، وظهر الدعاة ورويت المنامات وتدورست كتب الملاحم». على كلٍ، انتشر هذا اللون بسرعة في عديد من البلدان والدول الإسلامية التي كانت تدين بالطاعة والولاء للعباسيين، فتبنته كشعار رسمي في ألويتها وأعلامها وملابسها، مثل الدولة الطاهرية في نيسابور (205- 259 هـ / 821- 873م)، والدولة السامانية في بلاد ما رواء النهر (261 – 389هـ / 874 – 999م)، والغزونية التي حكمت بلاد ما وراء النهر وشمال الهند وخراسان (351- 583هـ / 961 – 1187م)، وغيرها من الدول التي استقلت عن الدولة العباسية في المشرق الإسلامي مع احتفاظها بالتبعية والطاعة والولاء للعباسيين. وفي المغرب ظهرت دولة بني زيري في أفريقيا التي كانت تدين بالولاء للفاطميين في مصر، فأراد أميرهم المعز بن باديس أن يستقل عن الخلافة الفاطمية فأعلن سنة 440هـ/ 1048م خروجه على طاعة الخليفة المستنصر بالله الفاطمي (427- 487هـ / 1036 – 1094م)، فأمر المعز بحذف اسمه من الخطبة، وأقام الخطبة للخليفة العباسي القائم بأمر الله (422- 467هـ/ 1030- 1074م)، كما أمر بلبس السواد شعار العباسيين، وأعد أعلامًا سوداء وملابس سودًا لرجال دولته التي أعلنت استقلالها السياسي والمذهبي عن الفاطميين، بحسبما أورد ابن عذاري المراكشي في كتابه «البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب». أما فيما يتعلق بمصر الأيوبية، فقد عمل سلاطينها على إسقاط نظم الدولة الفاطمية، وإحلال نظم الخلافة العباسية محلها، فأصبحت هي الخلافة التي يدين بها المسلمون بولائهم الروحي، فأرسل الخليفة العباسي الخلع إلى صلاح الدين ومعها الأعلام والرايات السود شعار العباسيين. وأضحى رفع اللون الأسود وانتشاره في شتى الأرجاء واختفاء اللون الأبيض والأخضر من المشهد السياسي دلالة على تسيُّد مذهب السنة، وعودة تبعية مصر إلى الخلافة العباسية، وفي المقابل يعني تراجع اللون الأبيض واللون الأخضر زوال الدولة الفاطمية في مصر والشام، وتراجع المذهب الشيعي أمام مذهب السنة. البياض: رمز معارضة السلطة العباسية اعتبر البياض رمزًا لحركة المعارضة في عهد العباسيين، باعتباره نقيض السواد، فرفعه معظم الثوار ليعبروا عن سخطهم وتمردهم ضد الدولة العباسية. ولعل أهم الجماعات التي رفعت هذا الشعار هم أهل الشام المعروفون بولائهم لبني أمية، ثم العلويون الذين اعتبروا الخلافة حقهم المشروع الذي اغتصبه العباسيون، وكذلك الفرس الذين خابت آمالهم التي عقدوها على مجيء العباسيين إلى الحكم ليحققوا مكاسب أكثر أو ليعيدوا مجد إيران ودين المجوس، وأخيرًا الولاة والقادة العباسيين الذين ثاروا على الدولة العباسية ذاتها. ويذكر عمر في كتابه، أن الثورات السورية رفعت البياض في كثير منها، مثل: ثورة مجزأة بن الكوثر الكلابي سنة 132هـ، وثورة حبيب بن مرة المري حيث رفعوا البياض بعد خلعهم لعبدالله بن السفاح. وكان اللون الأبيض رمزًا لتحدي السلطة العباسية بكل أشكاله وصوره، أكثر من كونه رمزًا للولاء للأمويين، فالقبائل العربية التي تبنت هذا اللون لم تكن كلها موالية لبني أمية، بل كانت ضد أي سلطة تفرض عليها النظام وتقيد من حريتها. كما تحالفت القبائل الثائرة على الأمويين بالجزيرة، وعرفوا بـ«المبيضة»، مع الخوارج المعروفين بعدائهم الشديد للأمويين، والمعروف أن الخوارج تبنوا اللون الأبيض في بعض حروبهم. واستعمل البياض ثوار آخرون لا علاقة لهم بالأمويين مثل عبدالجبار الأزدي الذي رفع شعار البياض في خراسان بعد أن اختلف مع الخليفة المنصور ودعا إلى العلويين باعتبارهم رمز المعارضة للعباسيين، وتحالف مع الإيرانيين من أتباع إسحق الترك الذي دعا للثورة على العباسيين، وكان ذلك في سنة 140هـ/ 757م. وكان البياض كذلك اللون المفضل لدى الثوار من العلويين في العصر العباسي الأول، منها ثورة محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم، وثورة أبي السرايا العلوية، وغيرهما من الثورات العلوية، وكذلك ثورة الزنج التي ادعى قائدها علي بن محمد أصوله العلوية. كما تبنت بعض الفرق الإيرانية البياض شعارًا لها، ولذلك سميت «المبيضة»، وإن كان المبيضة في خراسان والأقاليم الشرقية تختلف عن المبيضة في الشام والعراق والجزيرة العربية، لأن اصطلاح المبيضة في خراسان كان يعني بصورة خاصة طوائف وحركات الخرمية، وهم أتباع أبي مسلم الخراساني الذين دانوا بآراء متطرفة مجوسية، واعترفوا بالولاء لأبي مسلم لا للعباسيين، وبقوا مخلصين لذكراه حتى بعد مقتله. ومن أشهر هذه الحركات حركة المقنع الخراساني سنة 159هـ/ 775م. أما موقف العباسيين من البياض، فمن الطبيعي ألا يكون وديًا لأنه شعار أعدائهم على مختلف اتجاهاتهم، ولذلك كانوا يأمرون عمالهم أو ولاتهم بلبس البياض عقوبة لهم لسوء إدارتهم، فقد سخط الخليفة عبدالله المأمون (170- 218هـ/ 786- 833م) على عيسى بن منصور الرافقي، وكان على إمارة مصر، وأمر بحل لوائه ولباسه البياض عقوبة له. وحتى يخالفوا العباسيين، اتخذ الفاطميون اللون الأبيض شعارًا لراية دولتهم في مصر (358- 567هـ/ 969- 1171)، فعندما استولى جوهر الصقلي قائد جيوش المعز لدين الله الفاطمي على القاهرة طاف بالناس ومعه راية بيضاء يؤمنهم بها ويمنع أي أعمال نهب، ثم أزال الرايات السوداء. الأخضر: لون أهل الجنة والتوافق السياسي في مرحلة من مراحل الدولة العباسية، تبنى الخليفة المأمون الخضرة شعارًا بدل السواد، عندما أعلن بيعته لأبي الحسن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ليكون وليًا للعهد سنة 202هـ / 817 – 818م، وضرب اسمه على الدنانير والدراهم، وأمر بإزالة السواد من اللباس والأعلام، وأظهر بدلًا من ذلك الخضرة. وتذكر عزة حسين غراب في دراستها «الألوان ودلالتها السياسية في العصر العباسي»، أن ما دعا المأمون لاتخاذ اللون الأخضر شعارًا للدولة العباسية هو أنه اللون المحبب لدى أهل الجنة، استنتاجًا من الآيتين القرآنيتين في سورة الكهف «ويلبسون ثيابًا خضرًا من سندس وإستبرق»، وفي سورة الإنسان «عاليهم ثياب سندس وخضر وإستبرق»، كما اختاره أيضًا لدلالاته على الوئام والوفاق، وكان هدف المأمون من ذلك هو إعلان بدء عهد جديد من الالتئام بين أهل البيت جميعًا من عباسيين وعلويين الذين سيمارسون حقهم الشرعي في الخلافة بصورة مشتركة. ولعل ما يؤيد هدف المأمون هذا في اختياره الخضرة هو عدوله عنها ورجوعه إلى السواد، بعد تأكده من فشل سياسته في التوفيق، لمعارضة العباسيين والعلويين وأشياعهم لهذه السياسة، لذا يبدو أن اللون الأخضر اختير كلون توفيقي للبيت الهاشمي بفرعيه العباسي والعلوي. والطريف في تلك السنة، أن اللون الأخضر أصبح يمثل الدولة العباسية والخليفة العباسي في الوقت الذي صار السواد يمثل الثوار، ولكن هؤلاء الثوار كانوا من نوع خاص، ذلك لأنهم يمثلون شيعة العباسيين المخلصين للتقاليد العباسية القديمة، والذين أحزنهم ما قام به المأمون من «بدع»، وكانوا يرون أنها ربما تؤدي في نهاية المطاف إلى خروج الأمر من يد العباسيين. فقد تحدى الشيعة العباسية في العراق قرار المأمون ودعوا إلى تولية إبراهيم بن المهدي ورفعوا شعار «يا إبراهيم يا منصور»، واستمروا في إخلاصهم للون الأسود العباسي. وبحسب مرجونة في كتابه المذكور آنفًا، انتقلت الخضرة إلى العلويين الذين اتخذوها شعارًا لهم، وكانت ذات مدلول، فهي لون بردة الرسول التي اتخذ منها الإمام علي بن أبي طالب غطاء له عندما نام بدلًا منه في رحلة الهجرة، إلى أن استبدل الفاطميون البياض بها بعد نجاحهم في تأسيس دولتهم الشيعية ببلاد المغرب سنة 297هـ/ 909م. الحُمرة: شعار الثورة على العباسيين بعد تأسيس الدولة العباسية، تبنى الثوار الأمويون بخاصة من الفرع السفياني، اللون الأحمر شعارًا لعصيانهم على العباسيين وخلافهم لهم، مثل ثورة أبو محمد السفياني سنة 133هـ، حيث اتخذ الحمرة شعارًا له بحسبما أشار أحمد بن يحيى البلاذري في كتابه «مخطوطة أنساب الأشراف»، وتقي الدين المقريزي في كتابه «منتخب التذكرة في التاريخ»، لكن محمد بن جرير الطبري في كتابه «تاريخ الرسل والملوك» ومن اتبعه من المؤرخين يصفون شعار هذه الثورة بالبياض. ويرى عمر في كتابه المذكور، أن هذا الارتباك له ما يبرره، فقيادة الثورة كانت بيد اثنين أولهما، أبو محمد السفياني، وثانيهما أبو الورد الكلابي، والذي كان يحاول أن يتزعم الحركة بنفسه، لكن السفياني لم يسمح بأن يجعل من نفسه دمية في يده، وكان شعار الكلابي وأتباعه من قبائل القيسية البياض، بينما كان شعار السفياني وأنصاره من قبائل الكلبية هو اللون الأحمر، ولعل هذا يفسر كذلك التصادم بين الجماعتين منذ بدء الثورة، ما أدى بالتالي إلى فشلها. غير أن الحمرة لم تكن شعارًا أمويًا فقط، حيث استعمله الخوارج، كما رفعه القائد العباسي يزيد بن مزيد الشيباني عند حربه مع الخوارج، حيث دعاهم وهم يهربون بأن ينضموا إلى الراية الحمراء إذا أرادوا الأمان والاستسلام. كما رفعت «المحمرة»، وهي فرقة خرمية إيرانية الشعار الأحمر في تحديها للمسودة العباسية، وتظلمها من سياستهم. الأصفر: راية المهدي السفياني لم يكن هذا اللون شائعًا، وبالتالي لم تكن له دلالات معنوية في هذا العصر، ربما باستثناء ما ذُكر من أن السفياني المنتظر سيأتي من الأندلس ومعه الرايات الصفر التي ستخلص الشام من العباسيين وتنشر العدل وتقضي على الجور، بحسبما ذكر عمر. وظهرت فكرة السفياني المنتظر بين أهل الشام بعد سقوط الدولة الأموية، حيث اعتقدوا أن رجلًا من بني سفيان سيعود ليقضي على العباسيين ويعيد السلطان للأمويين. قد يعجبك أيضاً قراءة في ملامح العلاقات المصرية العربية الهرمنيوطيقا القرآنية: لماذا تأخَّرتْ؟ وكيف تتقدم؟ إعادة إنتاج الإسلام وأوهام النّقد العلمانيّ معرض الكتاب المترجم: نرشح لك 26 كتابًا شاركها 0 FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram محمد شعبان Follow Author المقالة السابقة عرائس الفاتيكان: راهبات هربن من اغتصاب القساوسة للدعارة المقالة التالية صاحب الزمان و«الحافي»: كيف حصل الفقهاء على ألقابهم؟ قد تعجبك أيضاً احفظ الموضوع في قائمتك شرح قرار لجنة محلب لحصر الأوقاف وتشريحه 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك هل كانت مصر العثمانية بلدًا متخلفًا؟ 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك بالمخدرات والسم وتحطيم العظام: رحلة المرأة الصعبة نحو الجمال 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك إخوان الأردن : من الموالاة إلى المعارضة إلى التفكك 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك ألهمت الإرهابي الأسترالي: قصة المجزرة المنسية في النرويج 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الجاموفوبيا: لماذا نهرب من العلاقات العاطفية؟ 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك سيرة الطبيبة «نوال السعداوي»: فليسقط كل الرجال 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك التدخين والثقافة 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الحكيم والخِتيار: الفتنة الكبرى في التاريخ الفلسطيني 28/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الحاج حسين عاشور: رائد صحافة «الصحوة الإسلامية» 28/02/2023 اترك تعليقًا إلغاء الرد احفظ اسمي، البريد الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح للمرة القادمة التي سأعلق فيها.