جلست السيدة فاتن أمل حربي، أمام أحد شيوخ دار الإفتاء المصرية، تسأله
صراحة: هل قال الله تعالى في كتابه، إذا تزوجت المرأة من رجل آخر بعد طلاقها تسقط
حضانتها لأبنائها؟ فأجابها: نعم. ألحّت فاتن: في أي من آياته قال ذلك؟ قال الشيخ:
الفقهاء هم من قالوا ذلك. هنا انتفضت فاتن، وصرخت: أنا لا أريد كلام الشيوخ، أريد
كلام الله العادل الرحيم، الذي لن يُرضيه حرمان أمٍّ من أطفالها!

الموقف سالف الذكر كان مشهدًا دراميًا في مسلسل يُعرض الآن باسم «فاتن أمل حربي» للكاتب إبراهيم عيسى، وعلى إثر عرضه هاجت الدنيا على السيناريست وصناع العمل، وتم تداول المشهد كقرينة تُدينهم بالطعن في ثوابت الدين!


مشهد مشابه قبل 1400 عام!

قبل ذلك المشهد بأربعة عشر قرنًا لم تكن هناك دار إفتاء، حيث كان المفتي وقتها هو الشخص الوحيد المعنيّ بكل ما يخص الشرع الحنيف، وهو النبي- صلى الله عليه وسلم- حين دخلت عليه امرأة لم يذكر المحدثون اسمها، وقالت له: «يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء وثديي له سقاء وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني»، فقال لها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنت أحق به ما لم تنكحي».

ذلك الحديث المحتج به في نزع الحضانة من الأم، لم يورده البخاري في صحيحه، المعروف بأنه العمدة في كتب السنة، وإنما رواه أبو داود في السنن، والبيهقي في السنن الكبرى والصغرى، والإمام أحمد في المسند، والدارقطني في السنن، وعبد الرزاق في المصنف، والبغوي في شرح السنة، والحاكم في المستدرك، والخلعي في الفوائد الحسان، والبيهقي أيضًا في معرفة السنن والآثار، وغيرها من الكتب التي أوردته في معرض شرحِه سنة وفقهًا، وكلهم من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو.

بالبحث في تخريج الحديث نجد أن من قال بصحة الحديث، هم الإمام أحمد في مسنده، وابن دقيق العيد في «الإلمام بأحاديث الأحكام»، وابن الملقن في «تحفة المحتاج»، وابن كثير في «إرشاد الفقيه».

في المقابل، وصف كثيرون الحديث بأنه «حسن»، مثل ابن حجر في «تخريج مشكاة المصابيح»، والشوكاني في «السيل الجرار»، والألباني في «إرواء الغليل»، والهيثمي في «مجمع الزوائد» الذي قال عنه «رجاله ثقات».

أما أبو داود في سننه فسكت عنه، وقد قال في رسالته لأهل مكة، «كل ما سُكِت عنه فهو صالح»، وابن حزم في «المحلى بالآثار» وصف الحديث بأنه «صحيفة لا يُحتج بها»، وابن القيم في «زاد المعاد» خرجه بأنه حديث «مُرسَل».

رغم التباين في صحة هذا الحديث، بات مُجمَعًا عليه لدى الفقهاء، ويَعمل به

القانون المصري

بنص الفقرة الأولى من المادة 20 من القانون رقم 25 لسنة 1929، وهي: «يشترط في الحاضنة أن تكون بالغة عاقلة قادرة على القيام بشؤون الصغير، أمينة غير متزوجة من غير ذي رحم محرم للصغير».

سلاح «فاتن أمل حربي» وغيرها

ليس من واجب الدراما الشرح المُفصّل لأمورٍ هي بالأساس من وحي الخيال، ورغم ذلك أكد مسلسل «فاتن أمل حربي» في مشهد لاحق، يقول فيه الشيخ يحيى/ محمد الشرنوبي لبطلة العمل: الإمام ابن حزم يخالف هذا الإجماع ويُقر بأن زواج الأم بآخر لا يحرمها من حضانة أطفالها.

ربما لم يُسهِب إبراهيم عيسى في شرح ما طرحه الفقيه الأندلسي ابن حزم، إمام المذهب الظاهري، دفعًا للاتهام الذي يطاله منذ كتب أول سيناريو سينمائي له، وهو أنه يقدم دراما زاعقة أشبه بمقالات الرأي التي يكتبها، ومن ثم وجب علينا خلال هذه السطور، رصد ما قاله ابن حزم، ومحاولة استنباط الذريعة التي ارتكن إليها في فتواه، إذ إننا في «إضاءات» لا نقدم دراما، بل نقدم كل وجهات النظر الموثقة، وبخاصة المخفي منها.

يقول ابن حزم في كتابه «

المُحلى بالآثار

»: «الْأُمُّ أَحَقُّ بِحَضَانَةِ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ وَالِابْنَةِ الصَّغِيرَةِ حَتَّى يَبْلُغَا الْمَحِيضَ، أَوْ الِاحْتِلَامَ، أَوْ الْإِنْبَاتَ مَعَ التَّمْيِيزِ، وَصِحَّةِ الْجِسْمِ- سَوَاءٌ كَانَتْ أَمَةً أَوْ حُرَّةً، تَزَوَّجَتْ أَوْ لَمْ تَتَزَوَّجْ، رَحَلَ الْأَبُ عَنْ ذَلِكَ الْبَلَدِ أَوْ لَمْ يَرْحَلْ- وَالْجَدَّةُ أُمٌّ».

ويضيف ابن حزم:

فَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْأُمُّ مَأْمُونَةً فِي دِينِهَا وَدُنْيَاهَا نُظِرَ لِلصَّغِيرِ أَوْ الصَّغِيرَةِ بِالْأَحْوَطِ فِي دِينِهِمَا ثُمَّ دُنْيَاهُمَا، فَحَيْثُمَا كَانَتْ الْحِيَاطَةُ لَهُمَا فِي كِلَا الْوَجْهَيْنِ وَجَبَتْ هُنَالِكَ عِنْدَ الْأَبِ، أَوْ الْأَخِ، أَوْ الْأُخْتِ، أَوْ الْعَمَّةِ، أَوْ الْخَالَةِ، أَوْ الْعَمِّ، أَوْ الْخَالِ- وَذُو الرَّحِمِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِمْ بِكُلِّ حَالٍ، وَالدِّينُ مُغَلَّبٌ عَلَى الدُّنْيَا

في كل ما سبق يتفق ابن حزم مع الإجماع على ترتيب الحضانة، لكن الخلاف الأهم هو تعليق الحضانة بزواج الأم، وهو الأمر الذي يرفضه رفضًا قاطعًا بقوله في «المُحلّى بالآثار»: «وَأَمَّا قَوْلُنَا- إنَّهُ لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْأُمِّ فِي الْحَضَانَةِ بِزَوَاجِهَا إذَا كَانَتْ مَأْمُونَةً وَكَانَ الَّذِي تَزَوَّجَهَا مَأْمُونًا- فَلِلنُّصُوصِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَلَمْ يَخُصَّ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- زَوَاجَهَا مِنْ غَيْرِ زَوَاجِهَا».

ثغرة اسمها «مفهوم المخالفة»!

في الثالث من نوفمبر لعام 2017، تحدث الدكتور أحمد الطيب، في

برنامج

«حديث شيخ الأزهر» في القضية ذاتها، ومرّ الأمر مرور الكرام، رغم أن النصف ساعة التي تحدث فيها بها دقيقتان في غاية الأهمية، تخص النقطة المتعلقة بنزع حضانة من الأم في حال زواجها.


ذكر الطيبُ الحديثَ المُحتج به، وتوقف عند جملة «ما لم تنكحي/تتزوجي»، وقال: «الأحناف لأنهم لا يُعملون مفهوم النص في الأحكام، يقولون: حتى إذا تزوجت وتبين أن مصلحة الصغير معها، يُحكم بالصغير لها وهي متزوجة».

ما أشار إليه الطيب، هو لُب الأزمة وربما الثغرة التي لو نُظِرَ إليها بعين الاعتبار لحُكِمَ لفاتن أمل حربي وغيرها من نساء مصر المحرومات من أبنائهن بعد الزواج بالحضانة، وهو ما يُعرف لدى علماء أصول الفقه بـ«حُجية مفهوم المُخالفة».

يُعرَف مفهوم المخالفة عند علماء الأصول بأنه: «ما خالف حكم المنطوق، أو: هو حكم المسكوت عنه مخالِفًا حكم المنطوق»، حسبما عرّفه

محمد حسن عبد الغفار

في كتابه «أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء».

واختلفت آراء الأصوليين بشأن حجِّية مفهوم المخالفة، فالجمهور يعتقدون بصحة الاستدلال به، أما الأحناف وابن حزم الظاهري، «وطوائف من الشافعيين منهم أبو العباس بن سريج وطوائف من المالكيين» ينفون حُجّيته، حسبما أورد ابن حزم في «

الإحكام في أصول الأحكام

».

يقول ابن حزم في الإحكام: «اضطربوا فيه اضطرابا شديدًا، وذلك أن طائفة قالت إذا ورد نص من الله تعالى أو من رسوله- صلى الله عليه وسلم- معلقًا بصفة ما أو بزمان ما أو بعدد ما فإن ما عدا تلك الصفة وما عدا ذلك الزمان وما عدا ذلك العدد فواجب أن يحكم فيه بخلاف الحكم في هذا المنصوص، وتعليق الحكم بالأحوال المذكورة دليل على أن ما عداها مخالف لها.

وقالت طائفة أخرى، وهم جمهور أصحاب الظاهريين وطوائف من الشافعيين منهم أبو العباس بن سريج وطوائف من المالكيين إن الخطاب إذا ورد كما ذكرنا لم يدل على أن ما عداه بخلافه بل كان موقوفًا على دليل».

الأمثلة على مفهوم المخالفة كثيرة، منها قوله تعالى: «وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ»، و«لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً»، و«اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ».

يدل النص بمفهومه المخالف في الآية الأولى على وجوب قتل الأولاد في حالة الغنى، ووجوب أكل الربا في حال لم يكن أضعافًا مضاعفة، وأن الله سيغفر للمنافقين إذا استغفر لهم النبي أكثر من سبعين مرة. على إثر هذه الإشكالية الملاصقة لأي نص معلق بصفة كما في الأمثلة السابقة رفض ابن حزم والأحناف وغيرهم حجية مفهوم المخالفة، واعتبروا أن قتل الأولاد في حال الغنى أو الفقر حرام، وأكل الربا في الآية حرام بكل مقاديره، واستغفار النبي للمنافقين ممنوع من دون التقيد بعدد.

في هذه الحالة، لو اعتمدنا قول الرافضين لحجية مفهوم المخالفة، وطبّقناها على الجملة الواردة في الحديث المُحتج به في نزع الحضانة من الأم حال زواجها «أنتِ أحق به ما لم تنكحي»، فمعناه لديهم أنها أحق به في كل الأحوال.