لو كان هناك سحر في هذا الكوكب، فهو بالتأكيد يكمن في الماء.





الفيلسوف الأمريكي لوران إيزيلي

الماء، سر الحياة، المكون الأكبر لسطح الأرض، والمتواجد بنسبة تفوق 65% في جسم الإنسان. ومع ذلك، ورغم قربه الشديد، ما يزال يحتفظ بأسراره المختلفة بعيدًا عنا، فالماء بعكس السوائل الأخرى، التي تزداد كثافتها كلما نقصت حرارتها، يصل إلى كثافته القصوى في درجة حرارة 4 سيليسيوس، ليصبح أقل كثافةً عندما يتجمد إلى درجة الحرارة صفر.

في شكله الصلب، يتميز الماء بكثافة أقل من شكله السائل، فيطفوا الجليد على سطح الماء، هذا الاختلاف الغريب بين الماء والسوائل الأخرى، قد يكون فعلًا أحد أهم أسباب استمرار الحياة على الأرض. وتصوّر لو كان الجليد يتمتع بكثافةٍ أكبر من الماء، في تلك الحالة كانت البحيرات والمحيطات وجميع المسطحات المائية تتجمد من الأسفل إلى الأعلى، مانعةً تطوّر الحياة المائيّة واستمرار أيّ شكلٍ من أشكالها.

أما السرّ الآخر فعلينا أن نشكر إرستو مابيمبا لملاحظته إيّاه. لاحظ أرسطو التأثير نفسه في القرن الرابع قبل الميلاد، وكثير من العلماء قاموا بنفس الملاحظة في القرون الماضية بعد أرسطو، ومنهم أسماء كبيرة، فرانسيس بيكون، رينيه ديكارت وغيرهم، لكنه سُميّ باسم «إرستو مابيمبا» من تانزانيا، الذي لاحظ في حصة العلوم أنّ المثلجات تتجمد بشكلٍ أسرع عند تسخينها ثم وضعها في الثلاجة.

لم تنتهِ الضحكات إلا بعد أنّ قام مشرف المدرسة بالتجربة بنفسه، ليقوم بتهنئته ثم اتفق المجتمع العلمي على تكريم هذا الطالب بتسمية التأثير على اسمه!

تأثير مابيمبا

تأثير مابيمبا هو الملاحظة التي تقول أنّ الماء الدافئ يتجمد بشكل أسرع من الماء البارد. تم قياس هذا التأثير في كثير من المرات وتمّ وضع العديد من التبريرات والشروح له. أحد تلك الأفكار هي أنّ الإناء الدافئ يكون على اتصال حراري أفضل مع الثلاجة وبالتالي ينقل الحرارة إلى الخارج بشكل أكثر جودة، وبالتالي تسريع عملية تجمّد الماء داخله. فكرة أخرى تقول أنّ الماء الساخن يتبخر بسرعةً مما يقلل كميّة المياه وبالتالي يسرّع عمليّة التجمد.

لكن لا تقنع هذه الأفكار العديد من العلماء، وما زال الحل بعيدًا عن قبضتنا.

تم اقتراح عدّة حلول نذكرها هنا:

التبخر: تبخر الماء الساخن يجعل كمية الماء المتطلّب تجميدها أقلّ، وعند تبخّر الماء يحمل البخار الحرارة بعيدةً مما يجعل الماء المتبقي أقلّ حرارة. لكن هذا السبب وحده لا يستطيع تفسير الظاهرة تمامًا.

ظاهرة تيارات الحمل: تسرّع هذه الظاهرة نقل الحرارة، وفي الماء الأقل حرارة من 4 س، يتم تقليل أثر هذه الظاهرة، أما في الماء الساخن ذي الكثافة المنخفضة، تلعب تيارات الحمل دورًا مهما في نقل الحرارة وربما نقل كريستالات الجليد بسرعة أكبر عند تشكلها فيه.

الجليد: يعمل الجليد كعازل في نقل الحرارة، فالماء ذو الحرارة الأبرد يتجمد من الأعلى، مما يقلل نسبة خسارة الحرارة عن طريق الإشعاع والاتصال بالهواء الخارجي، بينما يتجمد الماء الساخن من الأسفل والجوانب بسبب تيارات الحمل.

النقل الحراري: ربما يقوم الوعاء الحاوي للماء الأسخن بتذويب طبقة من الجليد الذي يعمل كعازل بين الإناء والثلاجة، مما يسمح للوعاء بالاتصال بشكل مباشر مع درجة حرارة الثلاجة الأبرد.

الغازات المنحلّة في الماء: يمكن للماء البارد أن يحتوي غازات أكثر من تلك التي يحويها الماء الساخن، وبالتالي يغير من خصائص الماء بالنسبة لتيارات الحمل، هذه الملاحظات تدعمها التجارب لكن دون تفسير نظريّ.


الكيميائي ومسؤول أمان الإشعاعات الذي بحث السر

بعكس هومر سيمبسون- الشخصية الكرتونية الشهيرة- كان مسؤول أمان الإشعاعات في جامعة نيويورك جيمس براونريدج مشغولًا بملء وقت فراغه بتجارب مابيمبا، فقام بمئات التجارب ودرس هذه الظاهرة بشكل متكرر، ووصل إلى أنّ التبريد الفائق يلعب دورًا في هذه الظاهرة.


وجد بروانريدج أنّ الماء يتعرض للتبريد الفائق في درجة الحرارة 0 س، ويبدأ تحت هذه الدرجة بالتجمد. وتخضع نقطة التجمد لعدّة عوامل، أهمها عدم نقاء الماء والشوائب الموجودة فيه، كالغبار والجراثيم والأملاح المنحلة، كل تلك المواد تملك خصائص مختلفة لتشكّل نوىً داخل الجليد حولها، وبتغير كمية هذه المواد ونوعها تتغير نقطة التجمد الخاصة بالماء الحاوي لها.

في تجاربه، قام بروانريدج بأخذ عينتين من الماء في نفس الحرارة ووضعهما في الثلاجة، ووجد أنّ إحداهما تتجمد قبل الأخرى، ربما بسبب عدم نقاء إحدى العينتين، ثم قام بإخراج العينتين وتسخين إحداهما إلى درجة حرارة الغرفة، والثانية إلى درجة 80 س، ووضعهما مرةً أخرى في الثلاجة. أظهرت النتائج أنّه في حالة وجود فرق 5 درجات سيلسيوس في نقطة التجمد، فإنّ الماء ذا نقطة التجمد الأعلى تجمّد دائمًا قبل الآخر عند تسخينه لدرجة حرارة 80 س ثم إعادة تجميده.

يقول براونردج أنّ الماء الحار يبرد أسرع من البارد بسبب فارق الحرارة الأكبر بين درجة حرارة الماء والثلاجة، مما يساعد في الوصول إلى نقطة التجمد قبل أن يصلها الماء البارد، والتي تكون على الأقل أقل بخمس درجات سيليسيوس. كما أنّه أكد على أنّ جميع الشروط يجب التحكم بها بشكل كامل، كمكان العينات في الثلاجة، نوع الإناء الحاوي للماء، والذي قال بأنّ العلماء الآخرين لم يقوموا به كما فعل هو.

لكن ماذا عن كيمياء جزيئات الماء نفسها، هل تلعب دورًا أكبر؟


السر في الروابط الهيدروجينية

الروابط الهيدروجينية في الماء البارد والساخن

الروابط الهيدروجينية في الماء البارد والساخن

في عام 2013، قدّم البروفسور تشي تشانج من جامعة نانيانغ للتقنية في سينغافورة حلًا جديدًا، الروابط التي تجمع جزيئات الماء معًا، تحمل حلّ لغز مابيمبا!

ما الغريب في روابط الماء إذًا؟ يتألف جزيء الماء الواحد من ذرة أوكسجين، كبيرةٍ نسبيًا، مرتبطة بذرتي هدروجين صغيرتين بواسطة روابط تساهميّة. لكن عند تواجد جزيئات الماء معًا تتشكل روابط هيدروجينيّة فيما بينها، وذلك يحدث عند اقتراب الهيدروجين في جزيء ماء بقرب أوكسجين جزيء ماء آخر ويرتبط بها بواسط هذه الروابط التي تعتبر أضعف من الروابط التساهمية.

عرف الكيميائيون لمدة طويلةٍ أنّ هذه الروابط مهمّة، فعلى سبيل المثال، تكون درجة غليان الماء أعلى بكثير من السوائل الأخرى بسبب هذه الروابط الهيدروجينية التي تربط جزيئاتها معًا. وفي السنوات الأخيرة، أدرك العلماء الدور الخفي الذي قد تلعبه هذه الروابط. تستطيع جزيئات الماء أن تتوضع بشكل سلسل مرتبطة بواسطة الروابط الهيدروجينيّة حتى في الأوعية الضيقة. تظهر أهميّة هذا الدور في الأشجار والنباتات، فتبخر المياه عن طريق الأوراق يقوم بسحب جزيئات الماء من الجذور إلى أعلى الساق والأوراق.

يقول البروفسور تشي تشانج وشركاؤه أنّ الروابط الهيدروجينيّة تقوم بتقريب الجزيئات من بعضها، وعندما يحدث ذلك فإنّ التنافر بين الجزيئات يؤدي لتمدد الروابط التساهميّة المتشكلة بين الأكسجين والهيدروجين وتخزين كميّة أكبر من الطاقة. لكنّ عندما تزداد درجة الماء السائل، تتمطط الروابط الهيدروجينية وتتباعد جزيئات الماء، يسمح ذلك للروابط التساهميّة بالتقلص مرةً وإطلاق طاقتها. النقطة المهمة هنا، أنّ إطلاق الطاقة التساهميّة يعمل كالتبريد للماء. في الوقع، يعمل هذا التأثير بشكل إضافيّ بجانب عملية التبريد. لذلك يبرد الماء الساخن بشكلٍ أسرع من الماء البارد. وهذا فعلًا ما يحدث في تأثير مابيمبا.

قام الباحثون بدراسة هذا العامل المساعد على التبريد، وتأكدوا بالفعل وبالتجربة أنّ هذا العامل مسؤول عن الفرق في الوقت بين تجمد الماء الساخن وذاك البارد.

قام الباحثون بدراسة هذا العامل المساعد على التبريد، وتأكدوا بالفعل وبالتجربة أنّ هذا العامل مسؤول عن الفرق في الوقت بين تجمد الماء الساخن وذاك البارد.

ورغم أنّ فكرة الفريق مقنعة، لكنّها ليست القفزة النظريّة التي يرضى بها الفيزيائيون للإجابة على السؤال، على الأقل لأنّ هذه النظرية تفتقد القوة التنبؤية، على الأقل في هذه الورقة البحثيّة.

يحتاج وفريقه إلى استخدام نظريته لاكتشاف خاصيّة جديدة من خصائص الماء لا يمكن للتفكير الاعتيادي الوصول إليها ببساطة. على سبيل المثال، قدرة الروابط التساهميّة القصيرة على إعطاء خواص قابلة للقياس لجزيئات الماء، التي لا توجد إلا عند تواجد الروابط بشكلها القصير. تواجد إحدى هذه الخواص سيكون العامل المطلوب لإثبات النظرية بشكل علميّ ولإقناع

إذًا، رغم أنّ هؤلاء الأشخاص قاموا بتقديم حلّ لمعضلة مابيمبا، لكن ما زال عليهم العمل بشكلٍ مستمر لإقناع الجميع بحلّهم، رغم كلّ شيء ما تزال نظريتهم جذابة! وما زال الماء يبهرنا بخصائصه السحرية، التي لولاها ما كانت هناك حياة.


المراجع




  1. Mpemba effect: Why hot water can freeze faster than cold

  2. Why Hot Water Freezes Faster Than Cold—Physicists Solve the Mpemba Effect