رحلة في عالم من الأبعاد الإضافية – الحلقة الثامنة

مراجعة وتحرير

إسلام سعد

توقَّفنا في

المقال السابق

عند مشكلة اختلاف سلوك الفرميونات في

الفضاء الداخلي

عن تلك الممثلة بسبينورات في الزمكان، وكيف أثر ذلك على مشروع توحيد الفرميونات والبوزونات. لكن في حقيقة الأمر، يرجع سؤال توحيد الجسيمات إلى ملاحظة رياضية أبسط من قضية الأبعاد والفضاءات. من المعروف أن معادلة كلاين-جوردون Klein-Gordon equation التي تصف حركة أي بوزون – سواء كان ميزون أو بوزون مقياس – تشبه الفرق بين مربعين Difference of two squares. وعند تحليل ذلك الفرق إلى عوامله فإن الأخيرة تُنْتِجُ لنا معادلة ديراك التي تصف حركة أي فرميون، سواء كان ذلك فرميونًا في فضاء داخلي أو فرميون سبينور. ويمكن أيضا تصوُّر ذلك من التكافؤ بين مخطط هراري-روزنر ذي الجسيم الوسيط رو Rho-meson (وهو بوزون) والمخطط ذي الجسيم الوسيط دلتا Delta (وهو فرميون). وهكذا ندرك وجود رابط فيزيائي بين الفرميونات والبوزونات، ولكن حتى الآن لا نملك لهذا الرابط أي تبرير رياضي بالشكل الرسمي formal المنشود.

نموذج نِفو-شوارتس-رامون


كما رأينا في المقالة السابقة، تمكَّن نامبو وسسكيند ونيلسن من تعميم نموذج فنيزيانو لأيِّ عدد من الجسيمات المتفاعلة، وظهرت شبكة من البوزونات تملأ مخططات هراري-روزنر. كان ذلك بعد استخدام مقياس فيراسورو مع تلك البوزونات مما تسبب في قتل الأشباح وظهور التاكيونات. وفي نفس التوقيت كان الفرنسي بيير رامون Pierre Ramond يعمل على تطوير نموذج فنيزيانو، وذلك بعد حصول رامون على الدكتوراه من جامعة سيراكيوز بالولايات المتحدة. وأثناء إعداده لمسودة بحثه، ذهب رامون إلى فرنسا في زيارة قصيرة، ثم عاد إلى الولايات المتحدة ليبدأ أول وظيفة أكاديمية له كباحث في مجموعة نامبو بفيرمي-لاب FermiLab. خلال رحلة العودة حدثت صدفة غريبة بخصوص بحثه سوف نتوقف عندها بعد قليل.

بعد استقرار رامون في الوظيفة الجديدة، وعودته للتركيز على إنهاء مسودة عمله على نموذج فنيزيانو، لاحظ رامون أمرًا مهمًا في مقياس فيراسورو. فالطريقة التي يطبق بها فيراسورو للمقياس تشبه إلى حد كبير معادلة كلاين-جوردون للبوزونات. فاقترح رامون إعادة كتابة المعادلة بطريقة فيراسورو. وبالتبعية أعاد رامون كتابة كل تحويلات الزمكان المؤثرة على البوزونات. ثم أرسل رامون النتائج التي حصل عليها للنشر، ولكن الدورية التي أرسل إليها رفضت حتى إرسال البحث للتحكيم! وكما يحكي رامون فقد قابل لاحقًا محرر تلك الدورية بعد اشتهار نموذجه، وادَّعَى المحَرِّرُ الحكمةَ بأثر رجعي إثر تعجبه وقتها لعدم استئناف رامون على القرار. وأبلغه رامون أنه كان مستجدًّا في «لعبة النشر» ولا يعرف القواعد. لم يكن ذلك أول رفض لرامون. فقد سبق أن قام الرياضياتي الشهير ناثان جاكوبسون Nathan Jacobson

بطرد رامون من مكتبه

بجامعة يال Yale University بمجرد أن انتهى الأخير من عرض أفكاره على جاكوبسون الذي رآها أفكارًا مجنونة! وسنرى بعد قليل لماذا لم ير جاكوبسون أصالة البحث.

لم يحبط رامون بقرار المحرر، وقرر أن يستمر في بحثه. حَلَّلَ رامون معادلة كلاين-جوردون كفرق مربعين لتظهر له معادلة ديراك للفرميونات مكتوبة بطريقة فيراسورو، واستكمل باقي تفاصيل التناظر لتلك المعادلة. وقبل أن يرسل رامون نتائجه مرة أخرى للنشر، عرضها على نامبو مدير مجموعة رامون البحثية ، وكان نامبو سعيدًا به؛ فللمرة الأولى نرى طريقة للربط بين الفرميونات والبوزونات في إطار الزمكان. والأهم أن النظرية خلت من التاكيونات، وهو ما ثبُت بالتفصيل الرياضي لاحقًا على يد جون شوارتس John H. Schwarz.

في عيد الميلاد المجيد لعام 1970، أرسل رامون بحث الفرميونات إلى دورية وبحث البوزونات إلى دورية أخرى، ليتم قبولهما معًا عام 1971. ورغم أن بحث البوزونات سبق بحث الفرميونات، لكن بحث البوزونات يكاد يكون غير معروف في أوساط الفيزيائيين، حيث لم يحصل على أكثر من 30 استشهادًا citation بالرغم من مرور 48 عامًا على نشره. بينما يعتبر بحث الفرميونات مؤسسًا لنظرية الأوتار، حيث حصل على أكثر من 2400 استشهاد حتى لحظة كتابة هذه السطور.

قبل كل هذا، وعلى نفس السفينة التي عاد على متنها رامون إلى الولايات المتحدة، كان أندري نِفو André Neveu مسافرًا أيضا ليتسلم عمله كباحث في جامعة برينستون تحت إشراف شوارتس. يخبرنا نفو أنه كان يقضي معظم وقته خلال تلك الرحلة عام 1969 في مكتبة السفينة. وبينما كان نفو يقرأ في المكتبة، قطعت قراءته رغبةٌ في «قضاء الحاجة» (أنا لا أعلم لماذا أسسنا النظرية، أنا كنت في الحمام ساعتها). فترك نفو أوراقه مكانها. ثم دخل رامون المكتبة ليجد أوراقًا تحوي معادلات لنفس المسألة التي يدرسها! هرع رامون إلى غرفته ليتأكد أن أوراقه ما زالت في مكانها ولم يسرقها أحد، ثم عاد مرة أخرى إلى المكتبة ليجد نفو. تعرف الاثنان على بعضهما، واتضح أن نفو يعمل على نموذج فنيزيانو هو الآخر!


لم يكن ذلك التوازي العلمي الوحيد بينهما، فقد كانت رسالة الدكتوراه لنفو ولرامون عن نفس الموضوع رغم أن نفو كان ملتحقًا بالمدرسة العليا للأساتذة École Normale Supérieure بفرنسا على بعد آلاف الأميال من رامون. توثقت صداقة الاثنين خلال الرحلة. وبعد عدة أسابيع من وصول نفو إلى برينستون، أرسل رامون إلى نفو وشوارتس ما توصل إليه. وقام نفو وشوارتس بتوسيع اقتراح رامون ليشمل تفاعلات إضافية بين الفرميونات. وفي عام 1971 انضم

تشارلز ثورن Charles

Thorn إلى نفو وشوارتس، وتمكن منفردًا من إدخال السبينورات إلى نموذج نفو-شوارتس-رامون. وفي عام 1972 أثبت شوارتس أن النظرية تتفادى التاكيونات إذا كانت في عشرة أبعاد. وكانت هذه هي

لحظة نضج نموذج الرنين الازدواجي ليصبح نظرية الأوتار

، تمامًا كـ«استحالة/تحول» metamorphosis وتحرر الخادرة من شرنقتها إلى فراشة جميلة. ولكن قبل أن نناقش كيف حدث ذلك، نحتاج للتوقف قليلًا عند التناظر الفائق [1].


التناظر الفائق ونموذج الرنين الازدواجي لفنيزيانو

بالعودة إلى عام 1966، ظهرت أول نظرية تناظر فائق أثناء محاولة هيروناري ميازاوا Hironari Miyazawa -مشرف الدكتوراه لسوزوكي بطل حسرة المقال السابق- الربط بين الميزونات (وهي بوزونات تحمل القوى النووية)، والباريونات (وهي فرميونات تتبادل ميزونات فيما بينها). ثم لاح في الأفق عدم اتساق في منهجية توسيع الفضاء الداخلي من ثلاثة أبعاد إلى ستة أبعاد بحيث يستوعب جميع الجسيمات والخواص الكمية. كان ذلك قبل ظهور

برهان كوليمان-ماندولا

، والذي أثبت استحالة مد الخط على استقامته وتوسيع الفضاء الداخلي لأكثر من 3 أبعاد. ولهذا حاول ميازاوا توسيع الفضاء الداخلي ولكن بشكل غير معتاد.

تحايل ميازاوا على المشكلة بتقسيم الفضاء العام للجسيمات الأولية إلى فضاءين أصغر. يتكون الفضاء الأول من ثلاثة كواركات، وكل كوارك له غزل spin يحدده اتجاه علوي أو سفلي، وبالتالي لدينا فضاء «فرميوني» مكون من ستة أبعاد أساسية. أما الفضاء الثاني فهو للقوى النووية الممثلة في الميزونات. وتتكون الميزونات من تجمع كواركين. ولدينا في العموم ثلاثة كواركات وحالتا غزل لكل كوارك، فيصبح لدينا تشكيل مكون من 12 ميزون. ولأن كل كوارك له الكوارك المضاد، يصبح لدينا 24 ميزون. لكن الميزونات المكونة من كوارك q والكوارك المضاد q* لا تهتم بترتيب مواضع الكواركات (qq*=q*q)، وهو ما يعني شطب ثلاث حالات. وبالتالي أصبح العدد النهائي للميزونات 21 ميزون لوصف فضاء «بوزوني» مكون من 21 بعدًا. ويكون مجموع الأبعاد في هذه النظرية 27 بعدًا.

لكن نظرية ميازاوا تجنبت الحديث عن الفرميونات اللبتونية الممثلة بسبينورات في الزمكان. كما أنها لم تتمكن من التنبؤ بوجود ثلاث كواركات أخرى ظهرت في السبعينيات، وهي الكوارك القمي top quark والكوارك القعري bottom quark والكوارك الساحر charm quark. ولذلك لم تستطع تفسير وجود 64 ميزون، والذين نعرف حاليًا أنهم نتجوا عن خلط الكواركات الجديدة مع تلك الموجودة من قبل. ومع ظهور برهان كوليمان-ماندولا دخلت فيزياء الجسيمات الأولية في أزمة؛ ليس فقط بسبب أن البرهان يمنع توحيد البوزونات والفرميونات، ولكنه يحول أيضًا دون توحيد الهادرونات ككل سواء كانت باريونات أو ميزونات [2].

بالتوازي مع ظهور نموذج نفو-شوارتس-رامون ذي المقياس الفائق super gauge عام 1971، والمبني على تفسيرات فيراسورو لنموذج فنيزيانو، كان جون-لو جِغْفيه Jean-Loup Gervais و

بُنجي ساكيتا Bunji Sakita

في نفس العام

مشغولَين بدراسة نموذج فنيزيانو أيضًا

، ولكن بتفسيرات سسكند لحركة البوزون الوتري bosonic string كصفحة عالم worldsheet في بُعدين، والتي ذكرناها في المقال السابق. قبل ذلك كان جغفيه مشغولًا بميكانزم هيجز. بينما كان ساكيتا يعمل على الفضاء الداخلي السداسي حتى ظهور برهان كوليمان-ماندولا. ثم حَوَّلَ اهتمامه إلى نموذج فنيزيانو، وكان من المساهمين في توسيعه من نموذج ذي أربع جسيمات إلى أي عدد من الجسيمات المتفاعلة باستخدام آلية التعميل factorization المذكورة في المقال السابق.

تقابل جغفيه وساكيتا في جامعة باريس الجنوبية Université Paris Sud، وهناك قررا التعاون في توسيع نموذج نفو-شوارتس-رامون. لاحظ جغفيه وساكيتا أن النموذج ينبني على توسيع معادلات كلاين-جوردون وديراك، ولكن بدون ميكانيكا لاجرانج وتناظرات إيمي نوتر Emmy Noether بعد دمجها بمفهوم المقياس. تكمن أهمية هذه الميكانيكا والتناظرات في أن غيابها يجعل النظرية غير متسقة ذاتيًّا self-consistent، وبدون هذا الاتساق فلن تكون النظرية قابلة للقياس. وإذا حصلنا على اتساق ذاتي للنسخة الكلاسيكية من النظرية بدون النسخة الكمية، فتسمى حالة شذوذ anomaly، وهي ما سنناقش أهمية التخلص منها عند دمج الجاذبية مع الأوتار في المقال القادم.

قام جغفيه وساكيتا باستدعاء ميكانيكا لاجرانج للأوتار والأغشية الكلاسيكية في بعدين. ثم وضعا

شروطًا امتثالية conformal كتلك التي قدمها ڤايل

منذ أكثر من نصف قرن، ولكن بما يتناسب مع الأوتار والأغشية الكميَّة، فحصلا على ميكانيكا لاجرانج لصفحة العالم في بعدين والخاصة بالبوزونات والفرميونات الوترية. وبذلك أصبح نموذج نفو-شوارتس-رامون نظرية مجال ذات تناظر فائق متسق ذاتيًا. وقبل أن نعود إلى نظرية شوارتس في 10 أبعاد، ظهرت نظرية غريبة بـ26 بعدًا زمكانيًّا، وكانت التمهيد لدمج الجاذبية مع النموذج [3]. ولكن قبل ذلك أيضًا يمكننا أن نوضح لماذا طرد جاكوبسون رامون من مكتبه.

في عام 1974 تمكن

يوليوس ڤِس Julius Wes

s وبرونو تسومينو Bruno Zumino من توسيع ما قام به جغفيه و ساكيتا. لكن نموذج ڤِس-تسومينو بُـني بالأساس على نوع جديد من الرياضيات -يسميها رامون

نظريات الصيف السوفيتي الطويل

أثناء الحرب الباردة- كان قد نشأ بين عامي 1970-1973 على يد فيلكس بِرِزن Felix Berezin وفيكتور كاتز Victor Kac، ثم يوري جولفاند Yuri Golfand ويفجيني لخِتمان Evgeny Likhtman، وأخيرا

دميتري فولكوف Dmitry Volkov

و

فلاديمير أوكُلوف Vladimir Akulov

. هذه الرياضيات هي جبر لي الفائق Lie superalgebra والتي كانت سبب طرد رامون من مكتب جاكوبسون الذي لم يكن على دراية بها. وهي نفس الرياضيات التي مهدت لظهور الجسيمات الفائقة مثل الرفيق الفرميوني لبوزون هيجز والمعروف بالهيجزينو Higgsino، أو الرفيق الفرميوني للجرافيتون والمعروف بالجرافيتينو Gravitino كما سنرى بعد قليل.

جدير بالذكر أن أبحاث

فيكتور أوجْيَفتسكي Victor Ogievetksy

و

إيجور بولُبارينوف Igor Polubarinov

في منتصف الستينيات على دمج السبينورات في الجاذبية كانت مما مهد لظهور نظريات الصيف السوفييتي. لقد كان أوجيفتسكي وبولبارينوف على وشك اكتشاف الجسيم الفائق المرافق للجاذبية والمعروف بالجرافيتينو، وذلك أثناء محاولتهم تفسير سلوك فرميونات راريتا-شوينجر -ولكن بدون شحنة- والتي ظهرت من قبل لأوسكار كلاين في

نظرياته عن الجاذبية

. كما قدم أوجيفتسكي وبولبارينوف في نفس الفترة جسيمًا غريبًا يدعى نوتوف notoph، والذي أعاد بيير رامون Pierre Ramond ومايكل كالب Michael Kalb اكتشافه. وتم لاحقًا توضيح أن النوتوف هو نسخة وترية من الفوتون photon (نوتوف|فوتون) في إطار الأزدواجية-س S-duality، والتي سوف نناقشها في المقال القادم.


أوتار فائقة في أبعاد إضافية

كان

كلاود لفليس Claud Lovelace

فيزيائيًا غريب الأطوار غير مستقر في دراسته. درس لفليس الفيزياء، ثم اتجه لدراسة التصميم المعماري، ثم عاد للعمل على رسالة الدكتوراه عام 1958 تحت إشراف محمد عبد السلام، المشرف على

رسالة رونالد شو

، لكن لفليس لم يكمل رسالته قط! انتقل لفليس عام 1965 للعمل في سيرن، وهناك انشغل بجسيمات افتراضية تدعى الرِجيونات Reggeons والبوميرونات Pomerons. ظهرت تلك الجسيمات الافتراضية في الفترة التي كانت بين

ظهور نظرية يانج-ميلز

للميزونات ونظرية الديناميكا اللونية الكمية Quantum Chromodynamics لبوزون الجلون gluon. وبتطبيق طريقة صفحة العالم worldsheet لسسكند على تلك الجسيمات، انتقلت تلك الجسيمات من الفضاء الداخلي إلى الزمكان رباعي الأبعاد. وبدا أن الريجيونات تتصرف كأوتار ذات أطراف مفتوحة، بينما تتصرف البوميرونات كأوتار مغلقة.

صفحة العالم لوتر مفتوح الأطراف، و مغلق على هيئة أنبوبة
صفحة العالم لوتر مفتوح الأطراف، صفحة العالم لوتر مغلق على هيئة أنبوبة

كثُرت -وبشكل مريب- أنماط الرنين النووية التي اكتشفها لفليس في إطار نظرية الرجيونات والبوميرونات. وقد اتضح فيما بعد أن معظم حسابات لفليس صحيحة بعد اكتمال نظرية الأوتار خلال الثمانينيات من القرن الماضي. ولكن ذلك لم ينفع لفليس أثناء إقامته في سيرن. فقد قرر المسئولون في سيرن فصله من عمله! سافر لفليس إلى الولايات المتحدة وعمل في جامعة روتجرز Rutgers وفي برينستون بعض الوقت، لكنه لم يكن قد سمع بمنهجية نفو-شوارتس-رامون في قتل التاكيونات. وبقي لفليس مشغولًا بالرجيونات والبوميرونات إلى أن تفتق ذهنه عن فكرة غريبة في يناير 1971، وهي العودة بالزمن 51 عامًا لاستحضار

أشباح كالوزا وكلاين

!

كما ذكرنا في المقالة السابقة، للحصول على الازدواجية لأربعة جسيمات متفاعلة، قام فنيزيانو بالمزج بين القنوات s,t,u. وللحصول على ازدواجية لأي عدد من الجسيمات. لاحقًا، اقترح بول أوليِسِن

Poul Olesen

إعادة فصل تلك القنوات، وتحليل الزخم الكلي للجسيمات الداخلة والخارجة من التفاعل. وتمكن أوليسن من تمييز نوعين من الزخم. يرتبط النوع الأول بالقنوات وهو الزخم المعروف في أربعة أبعاد، بينما يرتبط الثاني بالعدد الكمي quantum number لكل جسيم. فاقترح أوليسن تعريف الزخم الكلي على أنه متجه في خمسة أبعاد. لكن بقيت النظرية مصابة بالتاكيونات حتى إشعار آخر.


كما يخبرنا لفليس، فقد درس النسبية العامة عندما كان عمره 16 عامًا. وكان على معرفة بنظرية كالوزا-كلاين. كما اطلع على محاولات آينشتاين وقت مؤتمر سولفاي

لتعميم النسبية في خمسة أبعاد

، وما نتج عنها من جسيمات تتحرك أسرع من سرعة الضوء. ولذلك عندما وقع بحث أوليسن في يد لفليس، قرر على سبيل التسلية لا أكثر أن يزيد الأعداد الكمية -وبالتبعية الأبعاد الإضافية- إلى ستة، ثم سبعة، ثم … إلى أن وصل إلى 26 بعدًا. في تلك اللحظة اختفت التاكيونات! ثم أعاد لفليس حساباته مرة أخرى على طريقة سسكند، فظهر جسيم يتصرف كوتر مغلق. اعتقد لفليس أنه بوميرون آخر، لكنه لم يدرك وقتها أنه قد حصل على بوزون بخواص مغزلية غير تلك التي تصف القوى النووية. اتضح لاحقًا أن ذلك البوزون يملك غزلًا قيمته 2، أي يمكن تمثيله بتنسور. لقد كان هذا أول نموذج لجرافيتون في نظرية الأوتار الفائقة، والذي مهد لاحقًا لظهور الجاذبية الفائقة Supergravity وما بعدها [4].

مخططات فاينمان لقنوات التفاعلات النووية في نموذج الرنين الازدواجي لفنيزيانو من منظور صفحة العالم.

أعلن لفليس عما توصل إليه في محاضرة له بجامعة برينستون. وكان شوارتس يستمع إليه، ثم انتبه عندما استخدم لفليس لفظ بوتستراب bootstrap (أي بناء وتحميل النظام من مكوناته آليًّا دون تدخل خارجي) لوصف منهجيته. كان جوفري تشو Geoffrey Chew -مشرف شوارتس في الدكتوراه- قد اقترح أن تعمل نظرية القوى النووية من خلال بوتستراب الهادرونات فقط دون أي تدخُّل خارجي من الجسيمات الأخرى. ويتجلى هذا الاقتراح في التكافؤ بين مخططي هراري-روزنر اللذين أشرنا إليهما سابقًا. وما فعله لفليس هو تحميل أبعاد إضافية من الزمكان والأعداد الكمية دون الاستعانة بمفاهيم إضافية أخرى. مثل هذه العمليات تحتاج لاحقًا إلى إزالة بعض الخطوات للحصول على نموذج بأقل عدد ممكن من التراكيب. لذلك قرر شوارتس العمل على إزالة بعض الأبعاد باستخدام تناظر فيراسورو [5].

كان

ريتشارد براور Richard Brower

قد ميَّزَ بعض الأوتار ذات الاهتزازات المستعرضة transverse وأثبت أنها تمثل بوزونات عديمة الكتلة، مثل الفوتون الذي يمثل الموجات المستعرضة في الكهرومغناطيسية. وتبقى تلك الموجات فيزيائية حتى البعد السادس والعشرين، ثم تتحول إلى جسيمات شبحية، وهو ما يعرف بنظرية انعدام الأشباح No-Ghost theorem. وأكد ذلك تشارلز ثورن Charles Thorn وبيتر جودارد Peter Goddard وجفري جولدستون Jeffrey Goldstone و

كلاوديو ريبي Claudio Rebbi

بتفصيل بعد استخدام رياضيات الصيف السوفييتي الطويل على أساس تناظرات فيراسورو [6].

أخذ شوارتس تلك النتائج وأعاد تطبيقها على تفاعل رنين البايون الازدواجي dual pion resonance، والذي عمل عليه سابقًا مع نفو، فأخذت الأبعاد تتساقط، والاهتزازات المستعرضة الزائدة تختفي إلى أن توقفت عند عشرة أبعاد. وبذلك نقل شوارتس -بالتعاون مع جول شِيغك Joël Scherk- نظرية الرنين الازدواجي من مبدأ بوتستراب الهادرونات (بدون لبتونات) لتشمل جميع الجسيمات الأولية. ونجح شوارتس وشيغك في عام 1974 في تمثيل الكواركات لأول مرة بأوتار بعد أن كانت الأوتار تصف الجلونات المتبادلة بين الكواركات فقط.

بدا الطريق مفتوحًا أمام نظرية الرنين الازدواجي لتوحيد الفيزياء. لكن نظرية الديناميكا اللونية الكمية ظهرت كمنافس للرنين الازدواجي وبدون أبعاد إضافية. وطبقًا لموس أوكام Occam’s Razor، فإن العلماء يفضلون النظرية ذات الافتراضات الأقل. لذلك انحسر اهتمام الفيزيائيين عن نظرية الأوتار، وأصبحت محل شك بل سخرية أحيانًا من كبار الفيزيائيين. على سبيل المثال، كان شوارتس قد انتقل إلى كالتك، بدعوة من جيلمان مؤسس نظرية الديناميكا اللونية الكمومية. وأصبح مكتبه قريبًا من مكتب ريتشارد فاينمان Richard Feynman، والذي لم يتوقف عن السخرية من شوارتس بسؤاله عن عدد الأبعاد الزائدة هذا الصباح [7]. وبالرغم من ذلك، حافظت مجموعات قليلة من الباحثين على الاهتمام ببوميرون لفليس، وهو ما قادهم إلى نظرية جديدة للجاذبية.


الجاذبية الفائقة

مع الزخم الذي تلقته نظرية الرنين الازدواجي قبل اكتمال الديناميكا اللونية الكمومية، أصبح من الضروري معالجة الإشكالية التي تسبب فيها برهان كوليمان-ماندولا. وفي عام 1975 تمكن رودلف هاج Rudolf Haag ويان لُبوشانسكي Jan Łopuszański ومارتن زونيوز Martin Sohnius -والذي يعمل حاليًّا

مهندسًا معماريًّا

– من إثبات إمكانية توسيع النموذج العياري، وذلك بتطبيق التناظر الفائق على الزمكان. وتلا ذلك تغيرات سريعة ومتلاحقة في نظرية الأوتار.

في عام 1976 تم توسيع نتائج التماثل الفائق لصفحة العالم في أربعة أبعاد -والتي حصل عليها ڤِس وتسومينو من قبل في بعدين- لتشمل بوميرون لفليس، فظهر الجرافيتون «الكمي» لأول مرة في نظرية متسقة ذاتيًّا مع جسيمه الفائق الجرافيتينو Gravitino. وكان ذلك على يد سيرجيو فيرارا Sergio Ferrara، دانيل فريدمان Daniel Freedman وبيتر فان نيونهاوزن Peter van Nieuwenhuizen. وبسبب الجرافيتينو، حصل الثلاثي مؤخرًا على النسخة الخاصة لجائزة الآفاق الجديدة في الفيزياء الأساسية Special Breakthrough Prize in Fundamental Physics، وهي نفس الجائزة التي حصل عليها شوارتس مع صديقه مايكل جرين Michael Green عام 2014 عن أعمالهما في التأسيس للثورة الأولى في نظرية الأوتار كما سنرى في المقال القادم.


وفي عام 1977، استنبط فرديناندو لادسي Ferdinando Gliozzi وديفيد أوليف David Olive وجول شيغك Joel Scherk التكافؤ GSO بين فرميونات رامون السبينورية في الزمكان وبايونات شوارتس البوزونية في 10 أبعاد، فنجحوا في تعميم نموذج اللعبة toy model الذي صممه فيرارا وفريدمان ونيونهاوزن من قبل. وفوق ذلك تمكن الثلاثي من التخلص من التاكيونات! قد تتساءل عزيزي القارئ لماذا لم يحصل لادسي وأوليف وشيغك على نفس جائزة فيرارا وفريدمان ونيونهاوزن، أو جائزة شوارتس وجرين، بالرغم من أصالة أعمالهم. للأسف فقد توفي أوليف عام 2012، نفس العام الذي تأسست فيه الجائزة. أما شيغك فسنرى بعد قليل ما حل به. بينما لا يزال لادسي حيًّا، ولكن يبدو أن النسيان قد طواه مع رفيقيه.

وفي عام 1978 تمكن شيغك بالتعاون مع إيوجين كِغِيمْييه Eugène Cremmer وبرنار جوليا Bernard Julia من بناء أول نظرية جاذبية فائقة متسقة ذاتيًّا، أي بمعادلات وميكانيكا لاجرانج. كانت المنهجية المتبعة في التعامل مع الأبعاد الإضافية هي نفسها التي اتَّبعها

أوسكار كلاين من أكثر من خمسين عامًا

، مع مراعاة تزويد تلك الأبعاد المكانية الإضافية بمقاييس ڤايل، وهو ما جعل تلك الأبعاد تتفادى الوقوع في أسر الهندسة الريمانية والنسبية العامة و

أشباح نوردشترم

. كانت النظرية في 11 بعدًا، وتحتاج إلى طريقة لاختزالها إلى نظريات المجال المعروفة بدون أوتار. هذا الاختزال يعرف بحد الميل الصفري zero slope limit. وقد تمكن كغيمييه وجوليا لاحقًا -باستعمال طريقة نيلسن- من اختزال الجاذبية الفائقة إلى أربعة أبعاد. بينما بقي أمر اختزالها إلى 10 أبعاد -كتلك التي في نظرية شوارتس- مجهولًا حتى تمكن علي شمس الدين Ali Chamseddine من حَلِّ اللغز عام 1981.

لم يشارك شيغك مع كغيمييه وجوليا هذه المرة نظرًا لأنه كان مشغولًا بمحاولة تصميم آلية مكافئة لآلية هيجز داخل نظرية الأوتار والجاذبية الفائقة. واشترك معه شوارتس وكغيميه ونيونهاوزن، وبدأت تظهر على الأوراق العديد والعديد من الجسيمات الفائقة، حتى ظهر جسيم الجرافيفوتون Graviphoton. وهو جسيم فائق للجرافيتون يقوم بنقل قوى الجذب «التنافرية» بدلًا من التجاذُبيَّة. لقد وجد شيغك جسيمًا يمثل الجاذبية المضادة! فُتن شيغك بنموذجه وصَبَّ كل اهتمامه عليه بين عامي 1978-1979. لكن القدر لم يمهله لإكمال ما بدأه.


كان شيغك مصابًا بمرض السكري، توفي بشكل غير متوقع عام 1980. ما نعرفه رسميًّا عن ملابسات الوفاة موجود في نَعي شيغك، والمضاف إلى محضر اجتماعات آخر مؤتمر حضره للجاذبية الفائقة. ذُكر في النعي أن شيغك عَلِق بمكان ما لفترة طويلة بدون الإنسولين، وأصيب بغيبوبة أدت إلى وفاته. بينما أثار تقرير آخر جدلًا حول معاناة شيغك من انهيار عصبي بعد الانفصال عن زوجته، والتي أخذت أطفالهما وتركته وحيدًا في باريس، فانتحر [8]!

كانت وفاة شيغك الضربة الأخرى التي تلقاها مجتمع نظرية الأوتار بعد ضربة الديناميكا اللونية الكمومية. أصبح الهواء جامدًا، وساد جو من الوجوم والتشاؤم بين «الوتريين»، وسرى التكلُّس في مفاصل النظرية لمدة خمس سنوات. ثم اندلعت الثورة الأولى المجددة لشباب نظرية الأوتار الفائقة. تلتها الثورة الثانية أو ثورة نُضج للنظرية، وهما الثورتان اللتان سنتحدث عنهما في المقالة القادمة والأخيرة من هذه السلسلة.


المراجع



  1. The Supersymmetric World: The Beginnings of the Theory, Chapter: The Predecessors, p.2-31.
  2. Ashok Das, From Symmetries to Strings: Forty Years of Rochester Conferences, p.83.
  3. Cappelli, Castellani, Colomo, Di Vecchia, The birth of string theory, Section 33, Remembering the dawn of relativistic strings, p.407-414.
  4. Dardashti, Dawid, Thébault, Why Trust a Theory: Epistemology of Fundamental Physics, Chapter, Scientific Methodology: A View from Early String Theory (Elena Castellani), p. 179-180.
  5. Rickles, A Brief History of String Theory: From Dual Models to M-Theory, Section: 4.3 Bootstrapping Spacetime, p.88-92.
  6. Elena Castellani, “Scientific Methodology: A View from Early String Theory” in Epistemology of Fundamental Physics: Why Trust a Theory? eds. by R. Dawid, R. Dardashti, and K. Thebault.
  7. John Schwarz, Superstrings: The First 15 Years of Superstring Theory, Chapter: No-Ghost theorems and Determination of D=10.
  8. Rickles, A Brief History of String Theory: From Dual Models to M-Theory, Section: 8.1 Supergravity, Cousin of Superstrings, p.148-151