نحن الآن في عام 1859، توماس أوستين – مزارع إنجليزي الأصل – لم يجد صيدًا وفيرًا في أراضي أستراليا ، فأمر بإحضار 24 أرنبًا وإطلاقهم في البرية، محاولًا نقل بيئة وطنه إنجلترا، حيث تنتشر الأرانب البرية وتتيح مجالًا واسعًا للصيد.

لم يكن يعرف أوستين حينها أنه سيكون السبب في كابوس للبلاد استمر أكثر من 150 عامًا، وربما حتى الآن. ففي أقل من 70 عامًا، نمت أعداد الأرانب بمعدلات مرعبة إلى ما يقارب الـ 10 مليارات أرنب حتى اجتاحت ثلثي القارة، ومع تضخمها تقلصت المراعي وتصحرت التربة واضمحلت قدرة النباتات على النمو وانحدرت أعداد الحيوانات المحلية حتى الانقراض.

كيف تمكن حيوان لطيف كالأرنب أن يحدث كل هذه الجَلَبَة؟! إنها ببساطة قوة دخلاء البرية!

أنواع مجتاحة

مثل مستعمر باغٍ يحتل أرضًا لا يملكها ويسلب خيراتها من أهلها دون أحد يقف في وجهه، تتسبب

الأنواع الدخيلة

في دمار واسع لبيئة لا تنتمي إليها بشكل طبيعي. يمكن للنوع الدخيل أن يكون أي شيء من حيوان أو نبات أو حتى كائن مجهري، وما يجعله يفرض هيمنته على النظام البيئي هو امتلاكه ميزة تنافسية على الأنواع الأصلية في المكان الذي يغزوه.

فلكل كائن ضوابط طبيعية في البيئة التي نشأ فيها وتأقلم معها على مدى قرون، هذه الضوابط تتحكم في أعداده كوجود مفترس يلتهمه، أو كائن متطفل يصيبه بالمرض، أو منافس يشاركه الطعام والمسكن، أو قد تنقلب عليه الظروف البيئية في وقت ما من العام. أما في البيئة الجديدة، فيستطيع الدخيل أن يترعرع بفضل غياب أعدائه الطبيعيين، مع توافر الطعام في ظل ظروف بيئية أفضل.

إلا أنه لا يمكن اعتبار أي غريب على البيئة كنوع دخيل، فمعظم الأنواع غير الأصلية لا تصمد كثيرًا من الوقت في أرض جديدة. لكن ثمة بعض الصفات التي تؤهل الأنواع الدخيلة للنجاح في اجتياح بيئة ما أهمها: معدل تكاثر سريع مع قدرة كبيرة على الانتشار، وكونها سهلة الإرضاء وسريعة التأقلم مع مختلف الظروف البيئية، وهذا ما توافر لأرانب أستراليا.


الجرذ الأسود Rattus rattus

كذلك – على سبيل المثال – الذي يعد واحدًا من أنجح الأنواع الدخيلة، وبلا شك أكثرهم إزعاجًا، يستطيع أن ينجب حتى 15000 جرذ في عام واحد. وهو ينتمي في الأصل إلى شبه القارة الهندية، لكنه استطاع أن يغزو العالم بأكمله ليسكن كل مكان تقريبًا من الغابات والحقول إلى الأبنية والأنفاق. كذلك يمتلك شهية نهمة؛ فهو يأكل الطيور والبذور والبيض والقواقع والحشرات والفواكه والمحاصيل الزراعية، أو باختصار أي شيء قابل للأكل.

فأر على متن سفينة
تتخذ الفئران من سفن الشحن وسيلة لتغزو العالم

وكحال الأرانب الأوروبية في أستراليا تنتقل معظم الأنواع الدخيلة إلى بيئات جديدة بواسطة البشر، سواء بشكل مقصود (كمصدر للغذاء والرفاهية)، أو بشكل غير مقصود (كما تفعل الفئران والحشرات عبر سفن الشحن والطائرات)، وأحيانًا تنتقل هذه الأنواع دون تدخل البشر عبر الرياح والتيارات المائية.

الخلاصة هي أنه أيًّا كان ما يميز الدخيل، فوجوده يعني إحداث خلل في النظام البيئي والإضرار بالكائنات الحية المحيطة.

تنوع في خطر

عالميًّا، تأتي الأنواع الدخيلة على قائمة أكثر خمسة أخطار تهدد التنوع الحيوي، وأحدث

تحليل لبيانات

الاتحاد العالمي للحفاظ على الطبيعة (IUCN) يشير إلى أن الأنواع الغريبة هي المحرك الرئيسي الحالي وراء انقراض كل من الحيوانات والنباتات بعد أن كان استهلاك الموارد الحيوية يمثل التهديد الأكبر.

ففي

دراسة تابعة لكلية لندن الجامعية

لعام 2019، وجد الباحثون أنه منذ عام 1500م، كانت الأنواع الغريبة مسئولة بمفردها عن 126 انقراضًا، بينما كانت سببًا أسهم في 25٪ من انقراض النباتات و33٪ من انقراض الحيوانات، وذلك من أصل 935 حالة انقراض تمت دراستها.

قد يمثل النوع الغازي منافس شرس للأنواع الأصلية

مثل




الكودزو

، وهو نبتة متسلقة تم إحضارها من اليابان إلى جنوب شرق الولايات المتحدة الأمريكية لاستخدامها في تظليل الشرفات وكغطاء نباتي للحماية من تآكل التربة.

نبات الكودزو يغطي المنظر الطبيعي
يبدو الكودزو خلاباً للوهلة الأولى ولكنه نبات ضاري يبتلع كل ما حوله

اشتهر الكودزو فيما بعد باسم «النبات الذي أكل الجنوب»، إذ ينتشر بسرعة ضارية تبلغ

150000 فدان سنويًّا

، وذلك بفضل قدرته على الانتشار الخضري اللاجنسي (أي أنه ينبت جذورًا بمجرد أن تلامس سيقانه التربة دون الحاجة إلى بذور). يستطيع الكودزو أن يتسلق أي شيء يقف في طريقه، سيارة كانت أم بناءً وحتى الأشجار المجاورة، فهو ينمو فوق النباتات الأصلية كي يصل إلى الضوء فيثقلها بوزنه حتى تتكسر أغصانها ويغطيها حتى الاختناق، بل إنه قادر على اقتلاع أشجار بأكملها.

يتميز أيضًا بقدرة فائقة على تثبيت النيتروجين من الهواء بمعدلات تعجز النباتات المحلية أن تحققها. وبهذا يحتكر الكودزو الموارد لنفسه ويكتسح الحقول والغابات مدمرًا كل ما قد تقتات عليه الحياة البرية.

قد يكون الدخيل أيضًا مفترسًا ضاريًا يلتهم الأنواع المحلية دون ضابط أو حاكم، إذ تساهم الأنواع المجتاحة من المفترسات في تهديد وانقراض

738 نوعًا

من الفقاريات، ما يسهم مجتمعًا في 58٪ من إجمالي انقراض الطيور والثدييات والزواحف.

بعض الحيوانات لا تدرك حتى أنها مهددة من قبل الغرباء، فيما يطلق عليه اسم «

الفريسة الساذجة

». مثل هذه الفريسة تفتقر إلى رد الفعل المناسب تجاه المفترسات ولا تستطيع الدفاع عن نفسها، فينتهي بها الأمر كوجبة سهلة للمفترس.

أفعى الشجر البنية
تتغذى أفعى الشجر البنية على الطيور والزواحف وبيوضهم، وتتميز بعين تشبه عين القطة

خذ

أفعى الشجر البنية

على سبيل المثال، التي انتقلت عن طريق الخطأ عبر سفن الشحن من مسكنها الطبيعي في جنوب المحيط الهادي إلى جزيرة غوام التابعة للولايات المتحدة الأمريكية. بفضل هذا الثعبان، أصبح من الصعب الاستماع إلى زقزقة العصافير في الغابة، حيث افترس 12 نوعًا منها حتى الانقراض، ولم يتبقَّ سوى نوعين مهددين بالانقراض. ما أثر بشكل سلبي على نمو الأشجار، حيث قلت عملية التلقيح التي كانت تتولاها الطيور.

وكما هو واضح من الأمثلة، فإن السيناريو الأسوأ لتأثير للأنواع الغازية غالبًا ما يظهر في

الجزر

أمثال أستراليا ونيوزيلندا ومدغشقر وأرخبيل هاواي وجزر غالاباغوس. فمن بين 724 حالة انقراض حيوانية مسجلة خلال الـ 400 عام الماضية، كان النصف من الأنواع الجزرية، ومن بين الطيور المنقرضة، كان ما لايقل عن 90% من سكان الجزر.

والأمر ليس مجرد مصادفة! فمن ناحية تعد الجزر أكثر عرضة للاجتياح كونها تفتقر نسبيًّا إلى التنوع الحيوي والوظيفي، لذا فإن الدخيل يأتي ليجد أرضًا خالية من المنافسين والمفترسين ومليئة بالأدوار البيئية التي يستطيع أن يشغلها. ومن ناحية أخرى، تتصف الأنواع الأصلية في الجزر بندرتها وتفردها، إذ لا يوجد لها مثيل في بقعة أخرى من الأرض، ما يعني سهولة تعرضها للانقراض.  هذا إلى جانب أن لديها قدرة محدودة على الانتشار، وقد تطورت في وجود القليل من الأنواع الأخرى لتصبح متخصصة ومتأقلمة مع الظروف المحيطة، ومفتقرة إلى آليات الدفاع ضد مجموعة واسعة من المفترسات والمنافسين.

تبعات اقتصادية

لا يقتصر أثر الأنواع الدخيلة على الحياة البرية فحسب، بل يمتد ليشمل حياة البشر وحالتهم الاجتماعية والاقتصادية. فالدخلاء إما يأثرون

بشكل سلبي

على الأنشطة التي تسهم في بناء اقتصاد الدول مثل الزراعة، والصيد وإدارة الغابات، أو أن كُلفة التخلص منهم وإصلاح عواقب غزوهم تستنفد الموارد الاقتصادية.

تقدر

التكلفة الإجمالية

للأنواع الغازية في الولايات المتحدة بنحو 120-138 مليار دولار في السنة، في حين تقدر الخسائر العالمية بما يقارب 1.5 تريليون دولار أمريكي سنويًّا. ويتمثل الأمر في انتشار الآفات والحد من جودة وإنتاجية المحاصيل الزراعية بما فيها المستخدمة كعلف حيواني، ما يهدد قوت المزارعين والأمن الغذائي لا سيما في الدول التي تعاني من الجفاف والمجاعات.

على سبيل المثال، تستطيع

دودة الخريف

Fall armyworm، التي غزت أفريقيا في السنوات الماضية، أن تسبب خسائر لمحصول الذرة تصل إلى

17.7 مليون طن

سنويًّا في أفريقيا، أي ما يعادل 4.6 مليار دولار أمريكي. كذلك فإن البيئة المائية هي الأخرى لا تسلم من آثار الدخلاء المدمرة. فعلى ضفاف نهر النيل، تطفو أزهار بنفسجية حسنة المظهر تنتمي لنبات

ورد النيل

Eichhornia crassipes، وهو مصنف بواسطة IUCN على أنه أسوأ الأعشاب المائية وواحد من أكثرها سلبية على دول حوض نهر النيل.

ورد النيل
لا تدع هذه الزهرة البنفسجية تخدعك بجمالها، فهي مصدر إزعاج لسكان أرض النيل

يزدهر ورد النيل في فصل الصيف، حيث يمكنه أن يضاعف كميته كل 5 أيام مكونًا حصيرة سميكة على سطح المياه تمنع تغلغل الضوء وتستهلك الأكسجين المتاح لبقية الأحياء المائية. في مصر، يغطي ورد النيل مساحة تبلغ حوالي

638 كم

من النهر، ويتسبب في تبخر 3.5 مليار متر مكعب من المياه سنويًّا، أي ما يكفي لري أكثر من 100000 فدان. كما يساهم في تزايد الآفات وناقلات الأمراض مثل قواقع البلهارسيا، ناموس الملاريا، الدوسنتاريا والكوليرا.

ونتيجة لانتشاره الشاسع، فهو يسد المجاري المائية ويعيق من حركة الملاحة وأنشطة الصيد والري والسياحة وتوليد الكهرباء، ما يترتب عليه خسارة ملايين الدولارات سنويًّا في محاولة لإزالة العشب والتخلص منه.

وتشير دراسة

إلى أن تكاليف الوقود والإصلاح للقوارب في المجاري المائية الموبوءة في نيجيريا تقارب ثلاثة أضعاف تلك بالمجاري التي لم يجتحها ورد النيل.

بلح البحر المخطط يفسد مراوح السفن
بلح البحر المخطط يغزو مراوح السفن

USFWS Fish and Aquatic Conservation /

fi

/

Public Domain

وفي الولايات المتحدة الأمريكية، يتمتع

بلح البحر المخطط

Zebra mussels بالسمعة ذاتها. حيث تبني هذه الأصداف مستعمراتها على أي سطحٍ صلب، فتغزو الشواطئ والأرصفة متسببة في قطع أقدام السباحين وإعاقة الأنشطة الترفيهية.

الأسوأ هو أنها تسد أنابيب المياه، فتعيق تدفق المياه العذبة من وإلى البحيرات، وتفسد معدات معالجة المياه، ومحركات السفن، ومرافق توليد الطاقة، بتكلفة تزيد عن مليار دولار في السنة. كذلك قد تحفز التراكم الحيوي للسموم مثل الرصاص والزئبق في الأسماك والطيور التي تتتغذى عليها وحتى نهاية السلسلة الغذائية.

وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها الدول في مكافحة الأنواع الدخيلة فإن الطريقة الأفضل تبقى الوقاية من وجودها في الأساس. لذا إن قررت أن تطأ قدمك أرضًا جديدة، فعليك توخي الحذر بألا تحمل غريبًا في جعبتك من وإلى الوطن.