لا يخفى على أحد صعوبة الوضع الذي نعاني منه حاليًا في ظل وجود الفيروس التاجي الجديد المسبب لمرض كوفيد 19 (Covid-19)، والأمر الذي يثير الرعب في نفوسنا هو عدم وجود لقاح حتى الآن يُطمئن قلوبنا ويجعلنا نكف عن التكهن بالمستقبل. لكن هل سيستمر الوضع طويلًا؟ نأمل عكس ذلك، خصوصًا بعد أن

أعلنت جامعة أكسفورد

بداية تجربتها السريرية الأولى للقاح المحتمل ضد فيروس الكورونا لتصبح ثالث دولة تجري الاختبارات السريرية.

ربما لا يدرك البعض ما الذي يعنيه تجربة اللقاح وما يحمله هذا الخبر من بشرى، قد يرجع ذلك لكونك لا تدري ما هو اللقاح وما أهميته، لذلك دعنا نوضح كل ذلك.

ما قبل اكتشاف أول لقاح

هل يمكن لجملة أن تعلق في ذهن مراهق ما، أن تصبح هي السبب في إنقاذ حياة الملايين؟ حسنًا، هذا بالفعل ما حدث مع (

إدوارد جينير

– Edward Jenner).


تبدأ القصة

باكتشاف عملية التجدير (Variolation) والتي تعني فتح بثرة من الشخص المصاب بالجدري، وتجفيف المادة المستخرجة منها، ثم إدخالها إلى ذراع شخص سليم. دخلت تلك الطريقة إلى أنجلترا على يد ليدي ماري (Lady Mary Wortley Montagu) عام 1718. كان أحد هؤلاء الذين خضعوا لعملية التجدير المراهق (إدوارد جينير- Edward Jenner)، وقتها كانت العملية محل حديث مدرسته كلها، وكل له رأي حوله، حتى إن إحدى العاملات في الحلب أخبرته أنها لن تصاب بالجدري، فقد أصيبت بجدري البقر من قبل. علقت تلك الجملة في ذهن إدوارد لعقود.

في عام 1796 حضرت إحدى العاملات في الحلب تدعى (سارة نلموس- Sarah Nelmus) تعاني من جدري البقر، هنا تذكر إدوار الجملة التي سمعها في شبابه، وسألها إن أصيبت بمرض الجدري من قبل، وكانت الإجابة بالنفي.

هنا تساءل إدوارد هل يمكن لمرض جدري البقر أن يُكون مناعة ضد الجدري؟ قرر إدوارد أن يعرف الإجابة بنفسه، فحقن الطفل ذا الثماني سنوات جيمس فيليبس بجدري البقر، ثم أجرى عملية التجدير له، فلم تظهر عليه أعراض الجدري، لقد حقت فكرته. أطلق إدوارد على هذه العملية اسم (التلقيح- Vaccination) مستمدة من الاسم اللاتيني لجدري البقر (Vaccinia) وقدم ورقة بحثية بتجاربه إلى المجتمع الملكي.

الحق أن إدوارد لم يكن أول من جرب عملية التلقيح، لكن أحدًا لم ينشر أو يدرس الأمر.

ممَ يتكون اللقاح؟


يحتوي اللقاح

(يُعرف أيضًا باسم التطعيم) على نفس العامل الذي يسبب المرض، وقد يسبب ذلك دهشةً للمرة الأولى، وخوفًا من أن يسبب الإصابة المرض، لكن هذا لا يحدث؛ لأنه يكون إما في حالة أضعف من أن تسبب المرض أو ميتة. وبذلك يحفز جهازك المناعي لإنتاج الأجسام المضادة تمامًا كما يفعل حين يتعرض للمرض. بعد التعرض للقاح سيكتسب جسمك مناعة ضد المرض دون أن تمرض. ويعني ذلك أن اللقاح يمنع المرض في الأصل.

قد تتخيل أنه بمجرد حصولك على المسبب للمرض، فأنت تمتلك اللقاح، لكن هذا غير صحيح، فهناك مكونات أخرى تساهم جميعها بدور مهم، إما في التكوين أو تحفيز الجسم لتطوير المناعة أو في ضمان أن المنتج النهائي آمن وفعّال،

تشمل تلك المكونات

: عوامل مساعدة: تعزز استجابة الجسم للقاح، مثبتات: تساعد على إبقاء اللقاح فعّال بعد صناعته، فورمالدهيد: يمنع التلوث بالبكتيريا خلال عملية صناعة اللقاح،ثيميروسال: يستخدم خلال عملية التصنيع، لكنه لم يعد مكونًا في أي لقاح باستثناء الجرعات المتعددة للقاح الأنفلونزا.

كيف تصنع لقاحاً؟


إذن كيف

تتجمع تلك المواد في الصناعة

؟ الأمر ليس يسيرًا ولا يحدث في لمح البصر، إنما يمر بخمس خطوات حتى يصبح اللقاح جاهزًا للاستخدام.

الخطوة الأولى: تكوين مولد الجسم المضاد (Antigen)

ما يحدث عند إصابتك بأي مرض، أن جسمك يُولّد أجسامًا مضادة للميكروب المسبب للمرض، ويحتوي الميكروب على مولد هذا الجسم المضاد. تتضمن تلك الخطوة تنمية وجمع مسببات المرض لعزلها فيما بعد، أو تكوين البروتين المؤتلف/معاد التركيب (Recombinant protein).

الخطوة الثانية: العزل

تهدف تلك الخطوة لإنتاج الفيروسات أو البكتيريا قدر المستطاع. وذلك عن طريق تحرير مولد الجسم المضاد من الخلايا وعزلها عن المادة المستخدمة في النمو، قد يظل البروتين ومواد النمو الأخرى موجودين لكن يجب التخلص منهم في الخطوة التالية.

الخطوة الثالثة: التنقية

تهدف الخطوة الثالثة إلى تنقية مولد الجسم المضاد، وإن كان اللقاح مصنوعًا من البروتين المؤتلف فإننا قد نحتاج لاستخدام تقنية الفصل (Chromatography).

الخطوة الرابعة: التقوية

أتذكر حين ذكرنا أن العوامل المساعدة من ضمن مكونات اللقاح؟ حسنًا لقد جاء دور إضافتها وكما قلنا فإنه يعزز الاستجابة المناعية، ونضع أيضًا المثبت لتطويل مدة صلاحية اللقاح.

الخطوة الخامسة: التوزيع

وفيها تُجمع كل المكونات التي تكوّن اللقاح النهائي وبعدها يتم تعبئتها في قوارير للتوزيع، وتُغلق بعد تعقيم الغطاء. بعض اللقاحات تجمد أو تجفف ثم تتم إضافة الماء عند استعمالها.

أنواع اللقاحات

يوجد عدة أنواع للقاحات بناءً على حالة الجرثومة، صُمم كل نوع لتعليم جهازك المناعي كيف يواجه أنواعاً معينة من الجراثيم والأمراض التي تسببها. ويراعي العلماء عدة معايير يجب الالتزام بها، فمثلًا: كيف يستجيب الجهاز المناعي للجراثيم، ومن الذي يحتاج ذلك اللقاح، والتقنية المثلى لصناعته، وبناءً على تلك العوامل صُنفت اللقاحات إلى أربعة أنواع: حي موهن، غير نشط، سام غير نشط، مترافق.

اللقاح الحي الموهن

نستخدم في هذا النوع من اللقاحات صورة ضعيفة من الجرثومة التي تسبب المرض، وميزته أنه شبيه بالعدوى الطبيعية؛ لذلك يخلق استجابة مناعية قوية وتدوم لمدة طويلة، فجرعة واحدة أو جرعتان من هذا النوع كفيلة بأن تحميك من هذا المرض مدى الحياة. ومع ذلك فإن اللقاحات الحية تعاني قصورًا يتمثل في ضرورة بقائها مبردة أي أنه يصعب نقلها بالسفر ولا يمكن استخدامها في الدول التي لديها مشكلة مع الثلاجات، كما ينبغي على الشخص أن يستشير الطبيب قبل الحصول عليها مثل الأشخاص الذين يعانون من جهاز مناعي ضعيف أو يعانون من مشاكل صحية على المدى الطويل أو الأشخاص الذين أجروا عملية نقل عضو ما.

أشهر اللقاحات من هذا النوع: اللقاح ضد الحصبة والحصبة الألمانية والنكاف وفيروس روتا والجدري والحمى الصفراء.

اللقاح غير النشط

من اسمه يتضح أن هذا النوع من اللقاح يحتوي على نسخة غير نشطة، وتكون تلك النسخة ميتة، ولذلك فليس غريبًا أن تعرف أنه لا يوفر مناعة قوية مثل اللقاح الحي مما قد يجعلك تحتاج إلى عدة جرعات بمرور الوقت للحصول على مناعة مستمرة ضد المرض.

أشهر اللقاحات من هذا النوع: التهاب الكبد أ، الإنفلونزا (جرعة واحدة)، شلل الأطفال (جرعة واحدة)، داء الكلب.

اللقاح المترافق

يُستخدم في هذا النوع أجزاء معينة من الجرثومة مثل البروتين أو السكر أو الغلاف حولها، ولذلك فإنه يوفر استجابة مناعية قوية جداً تستهدف الأجزاء الرئيسية للجرثومة. ويمكن استخدامها تقريبًا لكل من يحتاج إليها بمن فيهم ضعاف المناعة ومن يعانون من مشاكل صحية طويلة الأمد. أحد قيود تلك اللقاحات هو أنك قد تحتاج إلى جرعات معززة لضمان الحماية المستمرة من المرض.

أشهر اللقاحات المستخدمة من هذا النوع: التهاب الكبد ب، فيروس الورم الحليمي البشري، السعال الديكي، الحزام الناري، العقدية الرئوية، المكورات السحائي، المستدمية المنزلية.

اللقاح السام غير النشط

تصنع الجرثومة سمومًا نستخدمها لتكوّن مناعة ضد أجزاء من الجرثومة التي تسبب المرض بدلاً من الجرثومة نفسها مما يعني أن الاستجابة المناعية تستهدف السموم بدلاً من الجرثومة بأكملها. وقد تحتاج إلى جرعات معززة للحماية من المرض.

أشهر اللقاحات

من هذا النوع: الدفتيريا، التيتانوس.

إنتاج اللقاح الجديد

إن

إنتاج اللقاحات الجديدة

يمر بخطوتين واسعتين، أولهما، ما قبل الاختبارات السريرية، يليها الاختبارات السريرية نفسها. إذن ما الذي يحدث في كل منهما؟

في مرحلة ما قبل الاختبارات السريرية تتضمن الأبحاث التي تُجرى في المعامل وتطبيقها على الحيوانات وفي خلال تلك المرحلة يتم التعرف واكتشاف مولد الجسم المضاد، والوصول إلى فكرة اللقاح، بعدها يسعى العلماء إلى تقييم فعالية اللقاح في أنابيب الاختبار والحيوانات وبذلك يكون العلماء قد وصلوا إلى آخر هذه المرحلة ولا يبقى أمامهم سوى تصنيع اللقاح طبقًا لمعايير التصنيع الجيدة.

الآن وصلنا إلى الاختبارات السريرية والمقصود بتلك الخطوة هو تجربة اللقاح على البشر، وتمر بأربع مراحل. تختلف كل مرحلة عن الأخرى في عدد البشر الذين تُجرى عليهم التجربة، ففي المرحلة الأولى، هناك عدد صغير أي عشرات من البشر تحت التجربة وينظر العلماء في تلك المرحلة إلى الاستجابة المناعية وأمان اللقاح، بعدها يُجرى الاختبار على مئات من البشر وينظر العلماء في هذه المرحلة إلى الآثار الجانبية بجانب ما نظروا إليه في المرحلة الأولى، وبالمثل، تُطبق الاختبارات في المرحلة الثالثة على آلاف البشر، وبعد ذلك يتم ترخيص اللقاح من منظمة الأغذية والدواء (FDA) وإطلاقه في الأسواق للاستخدام؛ لنصل إلى الخطوة الرابعة وفيها يُكشف عن الآثار السلبية النادرة والفاعلية على المدى الطويل.

ولذلك فإن خطوة إنتاج لقاح جديد تحتاج عدة سنوات.

كوفيد 19 واللقاح المحتمل


الآن جاء دور لقاح المرض الجديد (Covid-19)، وتشير منظمة الصحة العالمية إلى أنه يوجد أكثر من 70 لقاحاً في طور النمو، لكن لم تبدأ التجارب السريرية إلا في الولايات المتحدة الأمريكية – لقاحين – والصين، وانضمت المملكة المتحدة لهما هذا الأسبوع. وقد بدأت العمل على اللقاح في يناير الماضي. تعتمد فكرة اللقاح على تحويل نقطة قوة الفيروس ضده، وتتمثل نقطة قوته في أشواكه الحادة (ٍSpikes) مما يؤدي إلى زيادة الأجسام المضادة التي تلتصق بها سامحًا للجهاز المناعي بالإمساك بالفيروس وتدميره.

يُعرف اللقاح باسم (ChAdOx1 nCoV-19) وقد صُنع من نسخة موهنة من فيروس البرد الذي يصيب الشمبانزي وتم تعديله جينيًا ليتحد مع الجين المسؤول عن تصنيع البروتين في فيروس الكورونا، والذي يلعب دورًا مهمًا في عملية العدوى.

تكمن

أهمية التجارب السريرية

في التأكد من أمان اللقاح وعدم تسببه في أي مضاعفات وبالطبع معرفة إن كان من الممكن حماية الأصحاء من الإصابة بفيروس الكورونا. ومن الممكن أن يكون اللقاح جاهزًا خلال شهر سبتمبر بنسبة نجاح 80%، وليس علينا إلا الانتظار وتمني نجاح هذا اللقاح أو غيره، مع اتّباع تعليمات منظمة الصحة العالمية للوقاية من الفيروس.

أما عن

اللقاح الأمريكي

، فإن السرعة التي تتجه بها شركة موديرنا (Moderna) في الولايات المتحدة إلى إنتاج لقاح ضد الكورونا مثيرة حقًا للإعجاب، فلم تحتج الشركة سوى 42 يومًا منذ مشاركة الصين للتسلسل الجيني لفيروس الكورونا إلى وصولها للقاح يمكن اختباره على البشر. وأحد أسباب سرعة إنتاج هذا اللقاح هو الأبحاث التي أجريت السنتين الماضيتين لإنتاج لقاح للمتلازمة التنفسية الشرق أوسطية (MERS).

إن أنواع اللقاحات الأربعة التي سبق وذكرناها هي أنواع تقليدية قديمة، وليست الخيار الأمثل في حالة حدوث جائحة مفاجئة لأنها تحتاج الكثير من الوقت والموارد. واللقاح الذي تعمل عليه أكسفورد وموديرنا ليس من هذه الأنواع، إنما من

نوع جديد

يُعرف بلقاح الـ (mRna Vaccine) وتمامًا مثل اللقاحات التقليدية فإنه يحفز الجسم لإنتاج الأجسام المضادة لكن ذلك يحدث بطريقة مختلفة. يحتوي اللقاح على شريط من RNA الرسول يحمل كود مولد الجسم المضاد الخاص بالمرض، وبمجرد دخوله جسم الإنسان؛ تستخدم الخلايا المعلومات الوراثية الموجود على الشريط الرسول لإنتاج مولد الجسم المضاد الذي ينتقل لسطح الخلية حيث يتعرف عليه الجهاز المناعي. هذا النوع من اللقاحات أسرع وأرخص للتصنيع وأكثر أمانًا.

أعراض جانبية!

لماذا لا نسرّع من عملية إنتاج اللقاح؟ نحن في حاجة ماسة إليه، ما أسوأ ما قد يحدث إن لم يتخذ العلماء حذرهم خلال عملية تصنيع اللقاح؟

في الحقيقة قد ينتج لقاح غير فعّال وأسوأ ما قد يحدث أن ينقلب السحر على الساحر، أن يصبح اللقاح غير آمن ويتمثل ذلك الأمان في حدوث الظاهرة المعروفة بتعزيز المرض! وفيها يُطور الأشخاص الذين حقنوا باللقاح

شكلًا أكثر شراسة من المرض

، وقد حدث هذا بالفعل عام 1960 عند إنتاج لقاح ضد أحد الفيروسات التنفسية المسببة لأعراض تشبه البرد لدى الأطفال، ولم يحدث ذلك في القدم فقط، إنما

حدث أيضًا للحيوانات

التي حصلت على لقاح SARS.

يُشكّل الفيروس التاجي الجديد معركة شرسة مع بني البشر، لكنها ليست المعركة الأولى من نوعها، ولأننا ما زلنا هنا فهذا يعني انتصارنا في كل المعارك السابقة رغم صراع الكائنات الصغيرة المدفوعة بغريزة البقاء ونأمل أننا سننتصر في المعركة الحالية أيضًا، فقط علينا الانتظار، والالتزام.