شاركها 0FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram 69 نمثل نحن البشر مجموعة واحدة بقدر فهمنا للتناقض الأكثر جمالًا في العالم والذي يكمن في كوننا جميعًا بشرًا متشابهين تمامًا ومختلفين تمامًا، جميعنا نقع في الحب أو نشعر بالوحدة، نشرد متأملين العالم الغريب من حولنا، والذي يظل غريبًا مهما بدا وكأننا عشنا فيه بالقدر الذي يجعله مألوفًا ومروّضًا، مهما بدا لنا وكأننا اطلعنا على سره وفككنا رموزه جميعًا.ولكل منا ذاكرة تخصه وقدرًا يشبه أقدارنا جميعًا ولكنه أصيل ومختلف تمامًا في جوهره، لا وجود لحياتينِ متطابقتين في العالم الذي ضم منذ قديم الأزل مليارات الحيواتِ ويضم الآن مليارات ويستقبل في هذه اللحظة تحديدًا مزيدًا من الحيوات الجديدة. لا أحد يرى العالم بعينيك ولن يعيش أحد العالم كما عشته أبدًا. إن كل إنسان غريب ومختلف ومتوحدٌ عما حوله من طبيعةٍ وأفرادٍ تماما. وعزاؤنا الوحيد لوحدتنا الأبدية التي إن توارت أو اتخذت أشكالا مبهمة ومركبة فلن تغيب أبدا هي تلك الحقيقة المتناقضة الجميلة «إننا جميعًا، جميعًا، وحيدون». وجميعنا نمر بأطوار وحدتنا وغربتنا في رحلة «قاسية بقدر جمالها» على متن هذا العالم الذي خلقنا فيه ولسنا منه. أعتقد أن مسعانا منذ بداية الزمان يصب في أنهُر ثلاثة أساسية: سعينا لفهم العالم الذي من حولنا وهو السعي الذي تنبثق منه العلوم الطبيعية جميعا، وسعينا لفهم مغزى الرحلة التي وُجدنا فيها ومعرفة الطريق الذي تؤدي إليه هذه الطريق التي تنتهي بالموت الذي نجهله ونتجاهله ولتحقيق هذا السعيِ تنزلت الأديان وولدت الفلسفة: لفهم المغزى من وجودنا، مسعانا الثالث هو محاولة التقليل من إحساسنا بالغربة والوحدة ومحاولة تبنِّيهما ونقل تجربتنا الفريدة الأصيلة للعيش في هذا العالم – بشكل متناقض بما يكفي – عن طريق مشاركتها مع أمثالنا من البشر المغتربين الوحيدين، لهذا وجدت اللغة ووجدت الفنون جميعًا ووجد الأدب. صرخة الإنسان الأول كانت اللغة هي الأداة الأولى التي اتخذها الإنسان كوسيلة لمعرفة نفسه وللتواصل مع الآخرين ولولا وجود اللغة لما تكونت البشرية المجتمعية التي نراها وندري تاريخها اليوم، وربما لم يكن الإنسان إلا كما يكون الطفل كتلة من المشاعر المبهمة المفزعة والرغبات التي لا تدري كيف تشبع نفسها ولَكان الإنسان كائنا عاجزًا تماما عن التفكير وربما عن استخدام جسده حتى.لذلك أؤمن بوجود اللغة منذ الإنسان الأول – وبهذا تنزلت الأديان السماوية – والأدب هو أكفأ طرق الإنسان في الاستعانة باللغة لتحقيقِ مسعاه في تبني غربته ونقل تجربته. واستمد الأدب كفاءته من عمق ارتباط اللغة بالوجود الإنساني وتشكيلها لمفاهيمهِ ونظرته لنفسه وللعالم وللناس من حوله والحقيقة بسيطة «لا يمكننا التفكير خارج حدود اللغة».يقول أورهان باموق: لكِننا معشر الكتاب لا نكتب مفكرين في ملايين الكتب التي أنتجها العالم ولا نكتب لنؤكد إنسانيتنا أو أحلامنا بالإخاء، نحن نكتب للبحث عن ذلك الصوت الغريب بداخلنا، لنجعله مسموعًا، لأنفسنا أولًا،ثم للآخرين، كي يصبح جميع القراء، جميع القراء، قادرين على سماعه، لهذا نعرف أنه علينا أن نحفر بعمق في أرواحنا حتى نصل لمنبع الاختلاف. فربما تكون مهمة الأدب هي أن تعرفنا على غربتنا وفرديتنا واختلافنا، والذي يحاول المجتمع الحديث تغييبه وفرض نظرته علينا باعتبارنا قوالب متماثلة يتم إعدادها في المدارس لتعيش حياتها مستهلَكة في دورة الإنتاج والاستهلاك. وفي نفس الوقت نعانيَ آلام غربتنا دون أن تتاح لنا الفرصة لننصت لأصواتنا الداخلية ونتعرف على وحدتنا ونتبناها بحيث نجد العزاء والجمال والترابط الإنساني الناشئ عن التناقض الموجود فينا. المجتمع الحديث يعزلنا حتى عن أنفسنا، ومهمة الفن هي إعادتنا لنا. جدلية القراءة وسرمدية البحث عن الذات تقول رضوى عاشور في حديث لها عن روايتها «ثلاثية غرناطة»: «إن الكاتب وهو يكتب يتعرف على نفسه أكثر، ويتعرف على أوجاعه، ويتعرف على دواخله» وأضافت ما معناه أنها «تكتب لترتبَ مفردات عالمها». وشبهت الكتابة بعملها في قاعة الدرس قائلة: «إن حلقة التواصل بيني وبين تلاميذي (فأنا أعلمهم وأتعلم منهم باستمرار) تمنحنيَ توازنًا أنا بحاجة إليه لمواجهة واقع شرس وقاسٍ، والكتابة تعطيني قدرًا من هذا التوازن» ثم قالت أخيرًا: «ربما يكتب الكاتب ليرتب أسئلته ويتعرف عليها، لأن السؤال وهو مبهم يكون مؤلمًا، والكتابة تساعد على التعرف على أسئلة الكاتب ليستطيع طرحها».إن ربط رضوى بين الكتابة وقاعة الدرس من الجمال والدقة بمبلغ، فالتواصلُ بين الكاتب والقارئ قد يكون على نفس القدر من التبادل والأهميةِ فالكاتبُ يخلق عالمًا محكمًا يبني شخصياتهِ على التشابه الموجود بين البشر، مستعينًا بقدراتِه على التواصل مع الناس من حوله وعلى ذاكرته السمعية من ملايين الحكايات والأحاديث الصغيرة التي يتشاركها مع الناس أو يسمعها تدور حوله كل يوم ويبني أماكنهُ على ذاكرته البصرية عن العالم حوله أو يبنيه على نقيض العالم حوله أو يتلاعب بمفردات وأنماط الأشياء، مستخدمًا كل ما لديه من خيال ومن أدوات سردية ومهارات تقنية كالتلاعبِ بمنظور القصة من حيث من يرويها، فيرويها تارة على لسان البطل أو إحدى الشخصيات الثانوية أو على لسان راوٍ لا علاقة له بالقصة سوى أنه يعرفها أو يحاول ذلك ويأخذنا معه في عملية الاكتشاف، كما يتلاعب الكاتب بالأزمنة ويربط حكايات كثيرة معًا بخيط يخفى علينا ثم يظهر مع تطور الأحداث.المقصود أن بيد الكاتب بعدد ما تمنحه مخيلته من الأنماط والأدوات ليخلق عالما فريدًا جديدًا يضمن نفسه وغربته في طياتهِ بأجملِ وأدق وأصعب طريقة ممكنة.ثم يأتي دور القارئ فيترجمُ كلمات الكاتب إلى صور ويحاول أن يسمع ويرى ويحس بما وضعه الكاتب في عالمه المبتدع. يقوم بكل ذلك بدون حيادية فيعكسه كله من خلال نظرته للعالم (والتي تتأثر بطبيعة الحال أيضًا بما يقرأ) فيتطورَ هو أيضًا ويتعرف أكثر على نفسه لأنه يرى ما يخالفها… وربما يبدي رأيه للكاتب إذا كان من معاصريه فينبه الكاتب إلى ما في كتابه من قصور تقني أو حشو يبعد النبرة الأصيلة للكاتب عن مسامعنا.َخلاصة ما أقول أن الكتابة تعرف الكاتب والقارئ على نفسيهما وتعرف القارئ على نفس الكاتب فيتصل بها شعوريًا ويصبح جزءًا من علاقة إنسانية شفافة عابرة للزمان والمكان واختلاف اللغات والآراء تربطه بتراثٍ أدبي بالغ الثراء لأنفس أناس من جميع الأزمان والأعراق والديانات، أناس كل منهم يرى العالم بشكل مختلف. أن ترى من خلال الصوت بيد الكاتب بعدد ما تمنحه مخيلته من الأنماط والأدوات ليخلق عالما فريدًا جديدًا يضمن نفسه وغربته في طياتهِ بأجملِ وأدق وأصعب طريقة ممكنة. في المرة القادمة التي تمسك بها رواية ما، لا تفكر بها على أنها مجردة وسيلة للتسلية وإمضاء الوقت، ولا تضعها جانبًا لأنك ترى أنها مجموعة من أساطير وترهات خاوية لا معنى لها، حاول أن تراها على أنها وَسيلتك للتعرف على الآخرين ولتعزيةِ غربتهم وربما لتتعرفَ على ذاتك أكثر أو تعمق نظرتك للعالم ولتكون جزءًا من ذلك المسرح الكبير الملون الذي يتسع للجميع ويليق بهم. ابحث عن تلك النبرة المميزة التي يتحدث بها كل كاتب. أنصت جيدًا… وستُفاجأ بما تسمع وتتعلم. حاول أن تتعرف على ساراماجو: الساخر والنبيل، البارد والمتألم من الظلم في العالم، والفضوليُ لمعرفة كيف سيتصرفُ الناس إذا تغير أو لم يوجد مثلا حتمي من الحتميات التي بني عالمهم عليها، ولاحظ كيف أنه يهتم بالألقاب والأنساب.حاول أن تكون صديقا لرضوى عاشور: فتاة تتحدث بسرعة وتحب طرح الأسئلة، نشيطة ومرحة وعاطفية، اجتماعيةٌ وأليفة تحب الناس جميعًا وتعتبر آلآمهم آلامًا شخصية لها، وصفها للألوان بديع، محمومة في النقاش حتى لتحسبُ أنه يجدر بها ترك الكتابة لتمتهنَ المحاماة، وتكره الطغاة وتقاومهم بكل ما تملك، تعرف على حبها للفن التشكيلي والمتاحف والقهوة.تأمل الطبيعة في أدب هرمن هيسه: كيف يرى الغيوم ويحكي حِكايتها، يسمع زئير العاصفة، يصف قاربًا به فانوس في بحيرة في المساء، كيف هو رومانسي، ممتلئ بالعواطف الصارخة، عصبي ولا يجيد التعامل مع الناس. همنجواي: يحب مصارعة الثيران، هو مهووس بفكرة مواجهة الموت، بذلك الجدار الهش الذي ينكسر حين لا تتوقع أن يفعل، مزاجي، مباشر، وكيف يجيد إضافة الجمال للمواقفِ العاديةِ جدًا، لا يزخرف الكلام. ولا يزيد عما هو ضروري للجمال.ماركيز : كفتى صغير يرسم كائنات خيالية على جدران غرفته،يتزحلق على مسند الدرج ويصعد مجددًا ليعيد التزحلق، يتسلق الأشجار ويبقى خارجًا طوال النهار، لا يرى حدود ما هو ممكن في العالم، مسلٍ كثيرًا ويبدو أنه من الممتع التواجد معه لسردِ النكات والمرح.ألفريده يلينيك: كفتاة الإيمو التي تقاطعك وأنت تتحدث لتلقي تعليقًا ساخرًا في الوقت المناسب، متبعةً إياه بضحكة باردة، تستند إلى مرفقها وتضع قدمًا فوق الأخرى وتصمت وعلى وجهها نظرة توحي بأنها تستسخف كل ما تقول، لكنها تنصت جيدًا على أية حال.دوريس ليسينج: كالأخت الكبيرة التي تقرأ في غرفتها لتُقَاطع كل خمس دقائق من قبل أخوتها الذين يأتونها بمشكلة ما، فتحاول تتبع المشكلة بديموقراطيةٍ أولا، إلى أن يحتد الخلاف بين الصغار مصدرين ضجة فتنفجرُ هي مصدرة الحكم الأخير فتفضُ النزاع باعتذار الطرفين وخروجهم للعب وتعود تقرأ في هدوء.يبدو دستويفسكي كشخص لا يستطيع أن يسير خطوتين دون أن يقف قليلا ليحدثَ نفسه بصوت مسموع، لا ترتفع عينيه إلى الأعلى إلا قليلا وهو دائم النظر إلى الأرض ودائم التفكير حتى أن تتخيل أنه لا يستطيع عبور الشارع دون التعرض لحادثة اصطدام وشيكة، لكنه حين يتحدث في جمع ما فإنه يتحدث كثيرًا بأفكار مترابطة ومتماسكة تدهش الجميع ولا يستطيع أحد مقاطعته. هاروكي موراكامي: كأنه راهب تبت قرر أن يعيش في المدينة ويغدق على أهلها بحكمته ومحاولاتهِ للفهم التي لا تصل إلى شيء غالبا، راهب تبت يتجول في الشوارع وهو يرتدي سماعات في أذنيهِ متصلة بمشغل موسيقى تصدر منه أنغام بيتهوفن وتشايكوفسكي بينها فواصلٌ من أغاني الجاز والروك، ويقوم برقصاتٍ غريبة بين الحين والآخر أثناء تجواله.ابحث عن تلك النبرة المميزة التي يتحدث بها كل كاتب. أنصت جيدًا… وستُفاجأ بما تسمع وتتعلم. مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير. قد يعجبك أيضاً في الإحياء والتجديد الإسلامي (2-2) رواية «جاتسبي العظيم»: حول «وهم» الحلم الأمريكي رسائل شوق.. إلى نتنياهو القرآن في مواجهة الإلحاد: من هدايات سورة الإسراء شاركها 0 FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram زينب حمزة Follow Author المقالة السابقة «الزومبي والخطايا العشر»: أهلاً بكم في العالم الجديد المقالة التالية بعد حادثة الكنيسة البطرسية: حقائق تُنسى في غمرة الانفعال قد تعجبك أيضاً احفظ الموضوع في قائمتك عالم أصغر فرهادي 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك أرجوك لا تقرأ هذا المقال 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك ما الفرق بين المُكتئب ومَنْ ينتظر نهاية العالم؟ 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك القرآن في مواجهة الإلحاد: من هدايات سورة الإسراء 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك جدلية الفقه والقانون في تشريعات الأوقاف المعاصرة 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك عن الدولة العربية الحديثة في مئويتها 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك ظل مرور الأيام — قصة قصيرة 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك رواية «قايين»: التاريخ المظلم للإله العبراني 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك سيد حسين نصر: لماذا يصوم المسلمون؟ 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك رواية «شجرة البؤس»: هذه الشخصيات حقيقية جدًا 27/02/2023 اترك تعليقًا إلغاء الرد احفظ اسمي، البريد الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح للمرة القادمة التي سأعلق فيها.