مرت مصر من بعد الانقلاب العسكري على الملكية عام 52 إلى نهاية حكم مبارك بتجارب متعددة بداية من «الاشتراكية الشيوعية» حتى «العلمانية القمعية»، وكان بينهما تجربة السادات الذي حاول أن يمسك العصا من المنتصف فيلاعب الجميع على الوتر الذي يحب لكن أحدًا لم يرضَ ولا السادات كذلك.

وكان التيار الإسلامي مع كل تجربة من هذه التجارب يمر معها بمحنة خاصة فيبشر الناس وأنصاره بعد الخلاص منها بأن الخلاص في اتباع أحكام الشريعة والتزامها، وكان البعض يقول: جربتم الشيوعية والعلمانية فلماذا لا تجربون الدين؟

وكان المستند العام للجميع هو أن كل التجارب السابقة كانت مخزية بداية من شعارات ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد، نهاية بالضرائب مصلحتك أولاً، وهي التجارب التي تميزت كلها بأنها همشت الدين أو استعملته ولم تتبعه أو تحتكم له وكان الدين بين الجميع «مفعولاً به» وليس «فاعلاً»، وكان حول أصحاب القرار في هذه الفترات مبشرين بكل مناقض للدين بعضهم يختفي خلف دعوات التجديد أو الوسطية رغم أن بعض من قادوا هذه الحملات كانوا كما شهد أقرب أصدقائهم قد فارقوا الإسلام من زمن بعيد، لكن المواجهة تحتم عليهم الاختفاء خلف شعار مقبول بدلاً من المواجهة الصريحة، وهو ما يفعله بعض المنتسبين للتيار الإسلامي كذلك فيتترس بعضهم بشعار لا يؤمن به ولا يتبناه ليصل إلى غرض هو يريده من وراء هذا الشعار.



كان المستند العام للجميع أن التجارب السابقة كانت مخزية، وهي التي همشت الدين أو استعملته ولم تتبعه أو تحتكم له وكان الدين بين الجميع «مفعولاً به» وليس «فاعلاً».

لكن البعض الآخر كان يظهر وجهه الحقيقي في العداء للدين وأهله ولكل من يرفع الإسلام شعارًا وسطييهم ومتشدديهم، من يتبنون الفكر العنيف ومن يتبنون الفكر اللطيف، فالدين في حد ذاته يصيبه بالغثيان، ولكن هؤلاء لا يظهرون إلا عندما تقود الدولة الحملة عن طريقهم فتستعين بهم ليكونوا لسان حالها والناطق لما تخفي، وأحيانًا كانت تستعين بشيوخ لا يتورعون عن ممارسة كل محرم ليحدثوا الناس عن أحكام الشريعة والديانة كزانية تحدث عن الشرف، وأحيانًا تكون الحملة بصورة خفية لا تظهر في العلن برفض أي شعار أو مظهر إسلامي عن طريق توجيهات عامة غير مكتوبة خصوصًا للقيادات العليا التي تظهر للناس وتخاطبهم، والبعض لا يستحيي فيصدر القرارات بمنع لباس معين كالنقاب مثلاً، وبعضهم يمنع الحجاب بكافة صوره نقابًا كان أم خمارًا أم غير ذلك، نهاية إلى أن جرم بعضهم الصلاة في المؤسسات الرسمية في دول فتحها أصحاب رسول الله ودانت بالإسلام قرونًا؟!

لم يكن لأتباع كل هذه التجارب إلا اللعب على الذاكرة السمكية للناس أو معرفتهم المسبقة بأن معارضيهم يخشون المواجهة، فالسلطة ضدهم وضد كل معارض على العموم لكن التيار الإسلامي كان له نصيب الأسد في القمع والتضييق، حتى أن أحدهم ذهب للقبض على أحد المطلوبين من أبناء التيار الإسلامي فلم يجده فقبض على زوجته «المنتقبة» وأخرجها من بيتها «بقميص نومها» في الشارع مدة ثم أركبها سيارة الشرطة، وأخرى تحكي أنها وضعت أمام زوجها بعد ضربها وحاولوا اغتصابها أمامه حتى يعترف بما لم يقترف، وثالث عند الأسد فوجئ بأن زوجته هي من تقدم له الشاي المزعوم عند الضابط في المعتقل “عارية” كيوم ولدتها أمها وكانت كل ليلة تمشي في ممر الحبس عارية أمام زوجها كإجراء روتيني لتعذيبه بها وهدمها تمامًا وجعلهما مثالاً وغرضًا لكل من يفكر أن يعلو صوته في أي اتجاه، وغيرها كثير لا يحصى من أحاديث الثورة والحرية والمعارضة.

فهذه كانت خلطتهم السحرية (أنظمة وداعمين أو مستفيدين من هكذا أنظمة) في الحركة والمواجهة، وعند الضرورة يقدم أمامهم الموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع في صورة المدافع عن الإسلام أو الثورة أو كل خير يرجى، فلا يصد ولا يرد فيرى الناس ضعف دينهم فيمن قدم على أنه شيخ الإسلام وحامل اللواء والبعض يشوه عمدًا أصاب أم أخطأ، وأما القادرون على المواجهة «الفكرية» فبين معتقل ومطارد وممنوع من الخطابة، وأمام الشاشات يحدث الجميع الناس بأن الفكر لا يواجه إلا بالفكر وأن هؤلاء «المتطرفين» لما عجزوا عن البيان حملوا السلاح، رغم أن الفكر في الواقع يواجه بالفلكة والخراراة وغرف الإعدام وبعض ما سلف ذكره في مسالخ أعدت للمعارضين.

جاءت تجربة الإخوان كحجر ألقي في ماء «كلنا في الهوا سوا»، فأصبح البعض يقول اليوم لمن يقول بأن الدين هو سفينة النجاة، بأن «بتوع ربنا» حكموا وخربوا البلد فما جديدكم يا دواعش؟!



جاءت تجربة الإخوان كحجر ألقي في ماء «كلنا في الهوا سوا»، فأصبح البعض يقول اليوم لمن يقول بأن الدين هو سفينة النجاة، بأن «بتوع ربنا» حكموا وخربوا البلد فما جديدكم يادواعش؟!

ورغم أنه لا يمكن أن يحكم على تجربة بأنها يسارية أو علمانية أو إسلامية إلا بعد تمكين أدوات المنهج المنادى به من القيادة وامتلاك أدوات التنفيذ امتلاكًا حقيقيًا وليس الحكم بواسطة شخص ينتمي لفكر ما أو أيديولوجية ما، فلا يمكن مثلاً إذا حكم أمريكا رئيس مسلم الديانة بالقوانين والدستور الأمريكي السائد أن نقول إن الحكم في أمريكا إسلامي، ولا يمكن إذا حكمت ألمانيا أنجيلا ميركل وهي من خلفية مسيحية محافظة أن نقول إن الحكم في ألمانيا مسيحي، وكذا لا يمكن أن نقول إن الحكم إسلامي لمجرد أن من صعد للحكم ينتمي للتيار الإسلامي إلا إذا وضعت آليات الإسلام للحل موضع التنفيذ والتمكين وأتيحت له الفرصة كاملة فعندها نحكم بأن التجربة “إسلامية”، فبعض الإسلامية لا تسمى إسلامية وبعض المسيحية لا تسمى مسيحية وبعض اليهودية أو الاشتراكية أو غيرها ليس تجربة كاملة بل شيئًا من التجربة. فإذا نظرنا إلى حكم ناصر أو السادات أو مبارك نجد أن المدة الزمنية للحكم كانت كبيرة والسلطة كانت مطلقة والمعارضة كانت ممنوعة -حسب الدرجة والموق- وآليات العمل (الشيوعي أو العلماني أو الخليط) كان يخضع لها الجميع في الدولة وتطبق وفقًا لقرارات القيادة العليا، ومبشر بها إعلاميًا وتفرض فرضًا على الكبير والصغير، فماذا كانت المحصلة؟

هذا ما يجب بحثه بدقة لا بحسب الشخصنة أو العداوة الأيدلوجية بل بما أنجز وما لم ينجز وكمية الكوارث أو النكبات أو الإنجازات التي تعرضنا لها أو حصلنا عليها في ظل هذه التجارب.

ورغم أن قيادات «بتوع ربنا» لم تكن جميعها «بتاعت ربنا» ورغم أن «بتوع ربنا» لم يحكموا «بما يرضي ربنا»، ورغم أن «بتوع ربنا» تحالفوا حتى مع «الشيطان» كي يصعدوا أو يسيطروا كما ظنوا، ولم ينتبهوا لكل تحذير وتنبيه جاءهم ولم يشغلهم ما يرتكبوا من شناعات سياسية ودينية وأخلاقية، بل كان شاغلهم المنظور هو النجاح على أي وجه كان، فسقطوا واستحقوا السقوط، لكن الإسقاط بدلاً من أن يكون «سياسيًا» كان «عسكريًا» كمهندس يجري عملية قلب مفتوح، وبدلاً من محاسبة المخالف منهم وفق العدل وطبيعة الجرم إذا ثبت يقينًا، تمت التصفية الخصمية في ظل هوجة النصر، للجميع حتى الطفل منهم؟!

فلم تكن تجربتهم إسلامية ولا قريبة منها ولا حتى على تلك الأسس التي قاموا عليها ونادوا بها عقودًا.

لكن كانت وما زالت قيادات «التنوير الظلامي» أو «المدنية بلباس عسكري» أو «حقوق الإنسان إذا كانوا من رجالتنا» يضغطون ويصيحون في كل وادٍ وحيّ: هذه هي التجربة الإسلامية للمنادين بعودتها وتطبيقها: فها هم الإخوان في مصر وداعش في سوريا فهل هناك قناع جديد لديكم؟

ورغم هذا ما زال كثير من قيادات الإخوان والسلفيين يتحفنا ويعطيهم مزيدًا من المبررات على عدم الصلاحية دينيًا وسياسيًا، وهم يقتاتون على هذا ويتغذون عليه وبدونه تتعرى تجاربهم وأفكارهم. ورغم أن «غير المنتمين للتيار الإسلامي» وكثير من كبار سياسييهم لم يحوزوا نجاحًا أو يبرزوا مشروعًا بل يشتركون هم ومن تعاطى العمل السياسي من أبناء التيار الإسلامي وكثير من قياداته في ذات الخيبات والخطابات المنوعة اصطلاحيًا والمتفقة مضمونًا، لكن يبدو أن التركيز على الإخوان والتيار الإسلامي «السني» هو القدر المتفق عليه والمتمركز حوله «دوليًا ومحليًا» لنقول ويقولوا: إن كل التجارب جربت فدعونا نبدأ لعبة الكراسي الموسيقية هذه من جديد، ويبدو أن قيادات الإخوان الفاسدة تعطي التجارب الساقطة تذاكر المرور والاستمرار، وكذا التجارب الفاسدة تعطي قيادات الجماعة الساقطة قبلة الحياة والناس في هذه الدائرة يبحثون عن ركن ليرتاحوا فيه.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.