ببراعةٍ واقتدارٍ جمعَ نجمُ الدين الطوفي الحنبلي (ت: 716هـ/ 1316م) بين الرؤيتين الكلامية والمقاصدية في رسالةٍ صغيرةِ الحجمِ، عميقةِ الغور عنوانها: «حلَّال العُقد في أحكام المعتقد»، وهي معروفة أيضًا باسم: «قدوة المهتدين إلى مقاصدِ الدين». وقد حققتها ليلى دميري وإسلام دية، ونشرها المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت، سنة 2016 م. ولكن رغم وضوح امتزاج الرؤيتين المقاصدية والكلامية معًا في الرسالة؛ إلا أن المحققين جانبهما الصواب عندما قررا بحسمٍ أنها «رسالة في علم الكلام» وحده.

وما قرره المحققان هو تصنيفٌ جزئي للرسالة، ومن شأنه أن يأخذ القارئ باتجاه الرؤية الكلامية وحدها على حسابِ الرؤية المقاصدية شديدة الوضوح في نصِّها. وغالبُ الظنِّ أنَّ الطوفي أراد الجمع بين الرؤيتين الكلامية والمقاصدية ليقول بلسان الحال: إذا كان توحيد الله هو جوهر علم الكلام برمته، فإن أعْلى مقاصد الدين في الوقت عينه هو توحيد الله وتنزيهه وإفراده بالعبودية، والرجاء في رحمته والرأفة بعباده، وعمارة الأرض.

قسَّم الطوفي الرسالة بعد افتتاحها بحمد الله تعالى إلى مقدمةٍ وأركانٍ وخاتمة. أما المقدمة فأوجز فيها معاني الدين والملة والشريعة، وبيَّن أن أحكام الشريعة إما قطعية، وإما اجتهادية، وإما وساطة مترددة بينهما. وبيَّن أيضًا أن الدليل إمام عقلي، أو غيره. والعقلي إما بديهي، وإما نظري. وغير العقلي إما حسي وإما شرعي. والحسي هو المدرك بالحواس، وهي إما ظاهر؛ كالسمع والبصر والشم والذوق واللمس، وإما باطن، كالوجدان؛ مثل وجدان الحيوان لذاته وألمه وجوعه وعطشه وخوفه وأمنه.

والدليل الشرعيُّ على مراتب؛ أعلاها وأولها القرآن، ثم السنة، ثم الإجماع، والقياس، ثم استصحابُ الحال، ونحوه في الرتبة الرابعة. ثم يقرر أن هذه الأدلة «إذا اتفقت على ثبوتِ حكمٍ فناهيك به قعددًا في الثبوت، وإن اتفقت على نفيه فناهيك به في البطلان». ولكن ماذا لو تعارضت هذه الأدلة؟ يجيب الطوفي بقوله:

لا يتصور تعارضُ قاطعين منها؛ إذ القواطعُ لا تتعارض، فبقي أن يتعارض منها ظنيان، أو قاطع وظني. فإن تعارضَ ظنيان قدم أرجحهما، وإن تعارض قاطع وظني قدم القاطع وتؤول للظني، سواء كان هو العقلي، أو الشرعي؛ لأن في ذلك جمعًا بين الدليلين، فهو أولى من إلغاء أحدهما.

تلك هي مقدمة الرسالة، وهي رغم وجازتها، إلا أنها جاءت مستوعبةً لقواعد النظر الأصولي، ومعبرة عن تصور منهجي واضح الأركان والمعالم.

وكما ابتنى الطوفي رسالتَه في رعايةِ المصلحة على حديث نبوي هو قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار»، ابتنى أيضًا رسالته هذه على حديثٍ نبوي رواه البخاري ومسلم وأبي داود وهو: أن «رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجلس إليه حتى مسَّت ركبتُه ركبتَه، فقال: يا محمد، ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره. قال: فما الإسلام، قال: أن تقيمَ الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيتَ، وتصومَ رمضان، قال: فما الإحسان؟ قال: أن تعبدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراكَ. ثم ذهب الرجل، فَطُلِب على الفور، فلم يُوجد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا جبريلُ، جاءكم يعلمُكم دينَكم». وقد دلَّ هذا الحديث كما يقول الطوفي على أن الدين حقيقة مركبة من أركان ثلاثة هي: الإيمان، والإسلام، والإحسان.

أما الإيمانُ؛ فأهم ما قاله الطوفي فيه هو: أن الإيمانَ مخلوقٌ، لأنه طمأنينة وسكون يخلقه الله في القلب. أما متعلقاتُ الإيمان فهي: الله عز وجل، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر.

ولله أسماءٌ حسنى وصفات علا، وأسماؤه كثيرة. والاسم في اصطلاح النحاة هو: اللفظُ الدالُّ على معنى في نفسه، غيرَ دالٍ على أحد الأزمنة الثلاثة. وفي اصطلاحِ أهل اللغة: هو اللفظُ الدال على الذات. والصفةُ هي اللفظ الدال على المعنى القائمِ بالذات. وعليه فإن أسماءَ الله بالاصطلاحِ الأول كلُّها أسماء، وبالاصطلاح الثاني ليس فيها اسم إلا الله، وباقيها صفات. ثم يبين أن ذاتَ الله تعالى حقيقة قديمة أزلية، لا تدركها الأفهام، ولا تتخيلُها الأوهام. وأما صفاته فضربان: ذاتية؛ وهي المعاني القائمةُ بذاته، مقارنة لها في الوجود، وفعلية؛ وهي الأفعالُ الصادرة عنه، المفارقة له، كالخلق والرزق ونحوه. ثم رتب على هذا الأسماء التسعة والتسعين وبيَّن بعبارات قصيرة وبليغة الذاتيَّ منها والفعلي، والثبوتي، والإضافي، والسلبي.

وبعد أن انتهى من استعراض الأسماء التسعة والتسعين وفق هذا النظر الكلامي، وجدناه يصوب نظره صوب الرؤية المقاصدية فيقرر أن للعبد من كل صفةٍ من صفات الله حظًا؛ فمن «الرحمن الرحيم» معاملة الخلق بالرحمة تأسيًا بالخالق، ورجاء الرحمة منه عز وجل تعبدًا عن يقين صادق. ومن اسم «البَرِّ» إسداءُ المعروف وفعل الخير. ويستعمل البر بمعنى الطاعة، وهذا يختص بالعبد. وعلى هذا القياس باقي الصفات؛ يبحث في معانيها ليعرف مقاصدها، ويربط المقاصد بالعقائد.

ويقدم الطوفي حلًا للموقف من القدر بذات الرؤية المقاصدية الكلامية. ومعروف أن الاعتقاد في القدر واحد من أعقد عُقد الاعتقادِ. يقول:

وسرُّ القَدرِ أن البارئ عز وجل علم أنه لو ترك العالَم واختيارهم في أفعالهم لكانوا على ما هو عليه الآن مع الجبر، ولكان موسى مثلًا طائعًا نبيًا، وفرعون عاصيًا غويًا؛ لَمَّا علم من طباعهم التي فطرهم عليها، ونفوسِهم التي يستندون إليها. فلما استوت في علْمِه عز وجل حالة الاختيار والإجبار، لم يبقَ في تركهم على اختيارهم إلا تكثيرُ الخالقين، وتعدد الموجِدين، فكان ترجيح الإجبار وانفراد الجبار بالخلقِ والإيجاد أليق بالحكمة. (ص31)

ويقدم حلًا آخر لمسألة الروح، وهي من عوائص المسائل، فيقول:

الذي دلت عليه السنةُ والحكمةُ أنها جسمٌ لطيف، ولذلك يتحركُ لها الصدر عند الخروج، ولا إشكال على هذا في حدوثها، لقيام الدليل على حدوثِ الأجسام. ولا حجةَ لمن قال بقِدَمِ الروح، فقوله تعالى «قل الروح من أمر ربي»، لا يؤيد حجتهم؛ لأن أهل العلم ذكروا أن الروحَ لفظ مشترك بين معانٍ، منها: جبريل، والقرآن، والمسيح، وملك من الملائكة، واليهود سألوا النبي عليه السلام عن الروح مغالطةً، بحيث إنه بأي شيء من مسمياته أجابهم قالو: أخطأت، ويعنون مسمى آخر من مسمياته، فلما أجهلوا السؤالَ مغالطةً، أجهل بهم الجواب مقابلة واحتراسًا. (ص46)

وهذا التفسير الكلامي المقاصدي المشبِع والمقنِع يكاد ينفرد به الطوفي بين علماء الكلام. وكذلك ما أورده من أن «أكبر مقاصد الرسالة اجتماعُ كلمة المكلفين، وإقامة العدل بينهم» (ص57). وعلى هذا النحو الكلامي المقاصدي؛ يحللُ الطوفي بقيةَ متعلقات الإيمان، فبعد الإيمان بالله، يتناول الإيمان بالملائكة، وبالكتب، وبالرسل، وباليوم الآخر، وبالقدر.

وأما الركن الثاني وهو الإسلام حسب الترتيب الوارد في نص الحديث، فأصلُه راجعٌ إلى السِّلم ضد الحرب؛ لأن المطيع مسالمٌ، والعاصي محارب. ولأركانِ الإسلام الخمسة حِكَمٌ عامة وخاصة. أما حِكمه ومقاصده العامة فهي: التعبدُ بهن، وأما حِكمه، أو مقاصده، الخاصة؛ فحكمةُ الصلاة النهي عن الفحشاء والمنكر، ومداومة تصور الوقوفِ بين يدي الله، وتمرين النفس على التواضع للخالق والمخلوق. وأما الزكاةُ فحكمتها امتحان الأغنياء بإخراج المال المحبوب إلى نفوسهم في سبيل الله، وتمرين النفس على السماحة. وأما الصيامُ فحكمته تصفية الباطن وتنويره، ورياضة النفس بتصفية مرآتها بحيث تتهيأُ لقبول الواردات الروحانية. وأما حكمةُ الحج فهي تُذكرُ سفر الآخرة، وإعداد الزاد له.

وأما الركن الثالث وهو الإحسان، فقد فسره الرسول صلى الله عليه وسلم بالمراقبةِ والإخلاص، وهو قصد الله عز وجل لا سواه بالعمل؛ فلا يَقبلُ الله إلا ما كان صالحًا خالصًا. وما كان لمراءاةِ الناس فهو غير مقبول. ومما يعين على الإخلاص أن يُشعر الإنسانُ نفسَه أنه إذا أخلص ظهرت عليه أمارات الإخلاص، وقد نُقلَ عن المسيح أنه قالَ:

اسْتَخْفُوا بأعمالِكم، فإن الوجاهة عند الناس نصيب لن يحصل لكم منه إلا ما كتب لكم.

ونلاحظ أن الطوفي قد أوجزَ القول في ركني الإسلام والإحسان، بخلاف استطراده في الركن الأول، كما نلاحظ أن ما أورده في الركن الأول ملآن بحلول لكثير من العقد الاعتقادية، وهو ما لم يرد بالقدر نفسه في الركنين الآخرين. وقد ختم هذه الرسالة بفصل في «أحكام التوبة»، وما أورده فيها مفيد، ولكن موضوعه بعيد عن الموضوع الرئيسي للرسالة.

ولعل إيجازه القول في ركني الإسلام والإحسان راجعٌ إلى واحد من سببين، أو إليهما معًا: أولهما ظروفه الخاصة في السجن؛ حيث كتبَ هذه الرسالة وهو محبوس في سجن رحبة العيد بالقاهرة، وأتمها ليلة السادس عشر من رجب سنة 711هـ، وكان سببُ حبسه أنه اختلف مع شيخه سعد الدين الحارثي، ورُفع أمره للقاضي، فحكم عليه بعقوبات تأديبية منه الحبس.

وتذكر كتب التراجم أنه فرغ في سجنه لكتابة عددٍ من الرسائل منها رسالة «حلال العقد». وثانيهما، أنه سبقَ له أن كتب عن الإسلام، والإحسان في كتاب له بعنوان: «القواعد الصغرى»، وهو في فروع الفقه الحنبلي، وقد أشار إليه في هذه الرسالة، وأشار له أيضًا في كتابه «شرح مختصر الروضة». (تحقيق إبراهيم بن عبد الله، الرياض: مطابع الشرق الوسط، 1989م)، وفي كتابه: «الانتصارات الإسلامية في كشف شبه النصرانية»، (تحقيق: سالم بن محمد القربي، الرياض، مكتبة العبيكان، 1999م).

وأيًا كان الأمر، فإن عنوان رسالته «حلال العقد في بيان أحكام المعتقد» و«قدوة المهتدين إلى مقاصد الدين»، جاء في غاية التوفيق بالجمع بين الرؤيتين الكلامية والمقاصدية. ولكن هذه الرسالة من رسائل الطوفي، لم تنلْ من اهتمامِ العلماء بها، ولم تنل من الشهرة والجدل حولها ما نالته رسالتُه ذائعة الصيت في «رعاية المصلحة». ولكنَّ النظرَ في مضمونِها سرعان ما يكشفُ عن قيمتها المعرفية الكبيرة التي لا تقل عن قيمة رسالة المصلحة، وربما تفوقها؛ فهي قد جاءت على ذاتِ المنوال المنهجي لرسالة المصلحةِ من حيث الخروج على المألوف، والوضوح في البيان، والثقة بالنفس في طرح الرأي. وهي أيضًا تتناول أركان الدين بنظر مقاصدي فريد، وربما غير مسبوقٍ؛ حيث مزج بين علمي الكلام ومقاصد الشريعة كما قلنا.

ورغم أن البعض قد رما الطوفي بالتشيع، وأرجع حبسه في سجن رحبة العيد إلى هذه التهمة؛ إلا أن الطوفي نفسه نفى هذه التهمة نفيًا قاطعًا، وأغلب الظن أن التنافسَ المهني، وعدم التوافق النفسي كانا وراء الوشاية به ومعاقبته. وفي كل الأحول؛ ليس بعد قول الشيخ أبي زهرة قولٌ في الطوفي، فقد قال:

لا يُنقص من قدر الطوفي أن يكون شيعيًا، ولا يزيدُ في علمه أن يكون سنيًا، فهو في الحالتين العالم العميق، والدارس الذي خاض في العلوم الإسلامية خوض العارف بطرائقها، السابح فوق بحرها المتلاطم، الغائص المستخرج لجواهرها، وإن ذلك قدرٌ يعليه مهما تكن نزعتُه، ومهما تكن نحلتُه.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.