ولدت عام 1999، وعمري الآن اثنان وعشرون سنة، أيّ أنني أكبر من سبيستون بعام واحد. كنت في صغري حين أنتهي من الدوام الدراسي، أركض عائدًا إلى بيتي، فقط، لأشاهد «قناة شباب المُستقبل»، ولأستمع إلى شارات جميلة اللحن بأصوات عذبة شجية- رغم عدم فهمي للكلمات حينها- كنت أشاهد معاني الصداقة والحب والإخاء وبناء المُجتمعات على نهج من الترابط والأُلفة، وأشياء أُخرى من هذا القبيل، إلى أن نبتّ شعرُ ذقني، وتغيرت ملامح وجهي، فكستها الحياةُ آثارَ القسوة، إثر ما مررت به من صعاب.

الصدمة

كل ذلك جعلني أتساءل: هل خدعتنا سبيستون؟ أقصد، هل كذبت
علينا حين قالت:

لا تبكِ يا صغيري… لا… انظر نحو السماء

من قلبك الحريري… لا… لا تقطع الرجاء

كلمات يملؤها الأملُ والرجاء في عالم تُسحَق فيه الآمال،
وتُسلَب فيه الأحلام، ويُقتَل الرجاء، ويُعتقَل صاحب كل هذا في سجون مُتعددة؛
ابتداءً من سجن الحياة واليأس، وانتهاءً بسجن السلطات.

وأيُ كذبة قد تُضاهي ما لقّنته لنا سبيستون حين قالت:

روميو صديقي يحفظ عهد الأصدقاء *** يعرف كيف يجابه الأيام

روميو صديقي علّمنا معنى الوفاء *** علّمنا ألا نخشى الآلام

أيُ عهد للأصدقاء هذا؟ ظللت أنا الحافظ لأصدقائي وعناوينهم
وكلماتهم، أمّا هم، فلا يذكرني أحد منهم.

أيُ عهد بين الأصدقاء في ذلك الزمان الذي تغلب عليه
المصالح. أي عهد للأصدقاء هو الذي سيحفظه إنسان لأخيه الإنسان في زمن شحّ فيه
الأصدقاء!

لم أنتهِ بعد، فلي في صدمتي الكثير والكثير، فما زلت
أذكر شارة بابار:

مرة في حيّنا زارنا فيلٌ ظريف *** برفق قال لنا ليس هنالك ما يخيف

نحن الخير بطبعنا لا نرضى ظلم الضعيف *** لا يحيا بيننا إلا الإنسان الشريف

هذه هي أصدق شارة سمعتها، فمثل تلك الأخلاق الحميدة لا
تنبع من إنسان، بل من حيوان، ليت بعض البشر يرتقون لتراحم وأُلفة الأفيال ببعضهم.

ولمّا كانت سبيستون تعلم أن هناك شابًا سيأتي يومًا ما- مثلي- بائس وحزين ويُعاني من اكتئاب حاد مما رآه وعاينه في حياته، كان عليها أن تُوضِّح الأمر في شاراتها، فبينما كانت تدعو إلى الحفاظ على ما تبقى من الإنسانية وزرعه مجددًا في جيل قادم سيمثل شباب المستقبل– كما كانت تقول- كانت تعلم في نفس اللحظة، أن الحياة أقوى بكثير من هذا الجيل، وقريبًا سيتلوث ذلك الجيل ببراثن المجتمع والحياة، فضربت في «موكلي» مقارنة بين الإنسان والحيوان، بين قانون البشر وقانون الغابة؛ ذلك القانون الذي ظلمناه معنا في أحاديثنا اليومية، متناسين أن البشر أشد فظاعة من ذلك الأسد الذي ينقض على الظبي ليواري جوعه وجوع أولاده:

في الغابة قانونٌ يسري في كل مكان

قانونٌ أهمله البشر ونسوه الآن

إخلاصٌ حب دافئ، عيشٌ فطري هانئ

لا ظلم ولا خوف ولا غدر ولا أحزان

بل وتجد المُقارنة والإسقاط واضحين في شارة «سيمبا»:

هـــل شــاهدتم ذئبًا في البراري يأكل أخاه *** هـــل شـاهـدتم يومًا كلبًا عـضّ يدًا ترعاه

هل شاهدتم فيلًا يكذب يسرق، يشهـد زورًا، ينـكر *** حقًا، يفشي سرًا يمشي مغرورًا بأذاه

صراحة الأمر لم أشاهد ذلك في عالم الغابة، لكني شاهدته
بأم عيني في عالم الإنسان.

الحقيقة

الحقيقة الواضحة والجلية أن سبيستون هي الشيء الوحيد الصادق في المكان الخطأ، سبيستون كانت تُصارِع لإنقاذ ما تقدر على إنقاذه من بقايا الإنسانية التي كادت تختفي رويدًا رويدًا، في ظل عالم لا يؤمن سوى بمبدأ المنفعة الخالصة لذاته، ولو كانت تلك المنفعة على حساب جميع الأمم.

حاولت سبيستون زرع بذور تلك الإنسانية من جديد في جيل مضيم، ولكنها لم تعرف أنها بذلك تظلمه، فقد خلقت جيلًا يعيش الآن أشد حالات البؤس والحزن والصدمة في حياته، جيل أثقلت الأجيالُ السابقة على كاهله العتابَ واللوم، جيل تفاجأ أن ذلك العالم الذي كان يغني بالسلام له في صغره لا تكسوه سوى الدماء والحروب، جيل يرى بعين، ويحلم بالأُخرى، فيرى أحلامه التي كان يرسمها على صوت «رشا رزق» وكلمات «طارق العربي» طرقان تتحطم أمام عينيه في هدوء تام.

فالحياة تأبى أن يحياها أحد إلا بقيمها هي، وقيم الحياة ليست قيم سبيستون– الخير والشر- وإنما قيم القوة والضعف، الذكاء والغباء، فالبقاء للأقوى والأصلح، وليس للخيّر، فكم من ثعلب ماكر غاصب نجا، وكم من حمامة خير مُزقت أحشاؤها أمام صغارها.

علمتنا سبيستون حب الوطن، والوطن هنا أقصد فلسطين، فما
زلت أذكر شارة «هزيم الرعد» التي لم أفهمها صغيرًا ولكني فهمتها عن صدمة في شبابي:

ما عاش الظالم يسبيك وفينا نفس بعد *** بحنيني بدمي أفديك وروحي تُنبت مجد

أهذا نشيد وطني أم شارة مسلسل أطفال؟!

فنحن ما زلنا على العهد والوفاء لذلك الوطن المُقدس، لكن الجيل السابق الذي سلب رونق الحياة وكساها بعدميته المتوحشة المتوغلة لم يرضَ إلا بتدنيس ذلك الوطن، فأين نجد العالم الذي نسجته لنا سبيستون في أغانيها وبرامجها؟

فيا سبيستون، شباب المُستقبل قد هرم. فما العمل؟



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.