مدخل


فكل شيء، سواء كان أرضيا أو سماويا، يخفي داخله سرًا. وكلما تم الكشف عن سر ما، فإن هذا السر سيحيل على سر آخر ضمن حركة تصاعدية موجهة نحو سر نهائي

أمبرتو إيكو: التأويل بين السيميائيات والتفكيكية


هندسة البناء

الإهداء إلى الذين سيعيدون للعالم بهاءه الذي خلقه الله عليه. يليه المدخل، وبه قول مكتوب لابن الهيثم: «فطالب الحق ليس هو الناظر في كتب المتقدمين، المسترسل مع طبعه في حسن الظن بهم، بل طالب الحق هو المتهم لظنه فيهم، المتوقف فيما يفهمه عنهم، المتبع الحجة والبرهان لا قول القائل الذي هو إنسان».

فالقراءة نظر؛ أو هي إعادة نظر وتأويل وتتبع، لأجل الوصول إلى الحق. تليه صالة الدخول (ورود)، ثم القاعة الأولى (تالار أول) وبها سبع لوحات، تليها القاعة الثانية (تالار دوم)، يسبقها بيت شعر لحافظ إبراهيم: فكأنما خطرت بمصر، فأشرقت .. في يوم أسعدها على طهران.

وبها ست لوحات، والقاعة الثالثة (تالار سوم)، ويسبقها مقتبس للراوي، ومقسمة من الداخل بأرقام فارسية (يك. دو. سه. جهار. بنج.)، (واحد. اثنان. ثلاثة. أربعة. خمسة)، ثم القاعة الرابعة (تالار جهارم)، وعندها ينتصف الكتاب تقريبا، وبها ثلاثة عشر عنوانا فرعيا في الداخل، يسبق كل عنوان مقتبس؛ (أصفهان، شيرين، ورد، همذان، الملك، فردجان، العهد، الحركة، معارج، صورة العالم، أول المسير، أبو عبيد، رحيل)، وأخيرا (تالار خروج) استراحة الخروج، حيث تنتهي الرحلة.

إنه بناء سهل، بعيد كل البعد عن إدخال القارئ في أي متاهة. مدخل، ومخرج، وقاعات تشير لجهات الدنيا الأربع.


الرواية/النص

على الغلاف من الخارج، مكتوب: رواية الرئيس بخط فارسي بديع، ومن الداخل أيضا. مع أننا بعد أن نفرغ من رحلة القراءة سنجد أن المحصلة أوسع بكثير. فنحن أمام نص مفتوح، أو عابر للأجناس، مغامرة سرد، لا رواية بشكلها المعروف.

لربما كان العدوي يريد وضع صياغة جديدة، أو تعريف جديد للرواية، مغاير لما ألفناه: اصنع من كل ما يتجمع لديك رواية واحدة. بناءً واحدًا، الأخشاب والزجاج وقطع الأثاث التي تملأ بهم كل شيء حولك، اجمعها وابنِ بها بيتا جميلا.

صممه أنت كما تحب، وأثثه كما ترى. ستجد أن كل شيء معك أصبحت له قيمة. اللوحة الصغيرة المتروكة في بدروم صغير تصبح قيِّمة حين تعلق على جدار مصقول ملون يظهر جمالها.

ثم تزيد قيمتها حين تشهد على حياة أناس وتدخل تكوين ذاكرتهم. في البدروم لا قيمة لشيء، لأنك تراه ولا تعلم بوجوده في الأساس.

في الرئيس، سيرة للكاتب، وسيرة لابن سينا، وسيرة للمكان، وشيء من أدب الرحلة، وقصائد نثر، ويوميات، ورسائل، ونقد ثقافي، ونقد فني، .. إنها حياة. سيرة أمة؛ تتبعٌ واعٍ لحياتها الحاضرة وتاريخها وآمالها، تتبعها سيرة علم من أعلامها.

إننا أمام لوحة كبيرة متشابكة الألوان والخطوط، معقدة أحيانا، ومنبسطة أحيانا أخرى، لكن المحصلة في النهاية لمن يراها عن بعد، نقش متقن بديع.

وعلى كلٍّ، فالمضمون يختار شكله الذي سيمثله، وهي بالأساس مهمة الفن؛ التوفيق بين الفكرة وتمثيلها.


الرحلة/الحقيبة

تبدأ الرحلة في الطائرة.

تتكرر لفظة الطائرة والمطار في الصفحات الأولى عشر مرات تقريبا. وتنتهي الرحلة بعد وصول الطائرة بثلاث صفحات ونصف، ويتكرر ذكر لفظ الطائرة والمطار عشرين مرة.

وكأن الرحلة أججت الشوق إلى رحلات أخر؛ ضاعفته: «قد نلتقي في قونية قريبا»، كان محمد يودع آواز التركية التي صادقها خلال الرحلة بإيران. وكأن الرحلة لم تنته بعد. حيث الشوق لزيارة بلاد الفاتح؛ بلاد الترك.

ولا يذكر السفر إلا وتذكر الحقيبة. والحقيبة، سيرة لحاملها، هويته، مستودع أسراره، اختصار للعالم. في الفصل الأول يأتي وصف الحقيبة من الخارج، وهي تمر على السير المتعرج الطويل كالثعبان في المطار: (زرقاء صغيرة عليها خطوط عشوائية غامقة، وذراعها مكسورة).

وفي الفصل الأخير: الحقيبة مفتوحة لم ترتب بعد حتى قبيل موعد السفر، تنتظر ما ستحمله؛ الدهشة، في رحلة العودة. ولأن الرحيل واجب، ولأن مقتنيات الرحلة قد حصلت، فالبطل يخبرنا بمقتنياته: لوحة من الخشب كتلك المعلقة على جدار الصالة في بيت رضوى، عليها قول الله تعالى: (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون).

وصندوق من خشب الورد، (الصندوق داخل الحقيبة إشارة لشيء لا يمنحه الراوي مجانًا)، وديوان عمر الخيام بالفارسية مجلد بقطيفة بنية، وديوان شمس الدين حافظ شيرازي؛ عليه إهداء آواز في عيد ميلادي منذ أيام.

في الأول كان وصف الحقيبة خارجيا، مع تفصيلة بسيطة، قد تشير لكثرة الاستخدام؛ السفر/التنقل؛ ذراعها مكسورة. وكأنه لا يريد أن يفصح لنا عما بداخلها، فربما كانت أشياء عادية جدا، أو حاجات شخصية، من يدري؟! أو ربما هو لا يريد أن يفسد علينا سفرنا معه/رحلة القراءة؛ انتظروا، سنصل لأخبركم بما أحمل، سأفتح لكم الحقيبة.

أما وقد انتهت الرحلة، فإنه يخبرنا بالأشياء التي عاد بها: لوحة لآية قرآنية، وصندوق من خشب الورد، وديوان الخيام، ديوان حافظ؛ المعرفة، والجمال قاسم الهدايا المشترك، وهما ثيمتا العمل. وكأنه يقول لنا تلك حاجاتي التي عدت بها من الرحلة، فأي شيء عدتم به أنتم من القراءة/الرحلة، ومن التنقل معي من قاعة لقاعة، ومن مدخل لآخر، ومن طائرة لطائرة؟


الاسطورة الشخصية

الخيميائي.. ساحر الصحراء لـ باولو كويللو

مبكرا، نقرأ مع «محمد»، في مطار دبي: (وجوه متعبة من السفر، ومن السهر، ومن الانتظار، مثلي تماما. أميز منها وجهين رأيتهما في مطار القاهرة في الصباح، رجل في منتصف العمر، بيده نسخة إنجليزية من رواية ساحر الصحراء لباولو كويللو، كلما وقعت عيني عليه أجده منشغلا بالمطالعة فيها. وفتاة وجهها أوروبي، تغطي شعرها الأشقر، بغطاء منسدل على كتفيها، عرفت من جواز سفرها أنها بوسنية).

بطلنا محمد في طريقه لتحقيق أسطورة شخصية؛ حلم، بحث عن معرفة/كنز، ويلحظ بيد رجلٍ رآه مرتين: في مطار القاهرة، ثم في مطار دبي؛ رواية كويللو، التي يبحث بطلها عن أسطورته، حلمه، كنزه، في الصحراء. هل كان الرجل ذاهبا للبحث عن كنزه هو الآخر؟ أم أنها إشارة لمحمد، كي يتابع بحثه، عن كنزه كما فعل بطل السيميائي؟

قبل ذلك كان الحلم: لقد حلمت به هذه الليلة فقط. رأى بطلنا ابن سينا في حلم، لذا، لما أراد أن ينشأ لنفسه بريدا إلكترونيا، ليتراسل من خلاله مع رفقائه، سماه باسمه دون تردد: (أصبح الاسم الذي أعرف به رقميا هو ابن سينا)، ومع ميلاد هذا البريد الالكتروني، ولدت لبطلنا حياة موازية، وتعرف إلى غادة العراقية، التي سيلتقيها بعد ذلك في القاهرة، وتعرض عليه فكرة السفر إلى إيران، وتوصله بـالدكتورة رضوى التي سنراها معه أول مرة مع ابنتها ندى على متن الطائرة.

كان ذلك بعد مقال نشره عن ابن سينا الذي أصبح مهتما به وبحياته، وبمساعدة جوجل، يقول: جمعت كل كتبه التي وجدتها مصورة وما كتب عنه. جعلت كل هذه الأشياء في ملف واحد سميته: «ابن سينا صديقي».

لكن السفر إلى إيران لتحقيق الحلم القديم ليس سهلا: (لا تفهمنا خطأ، نحن حريصون على سلامتك، أنت تعرف أن دولا تريد الشر بمصر..)، كان هذا رد الأجهزة الأمنية على محمد، لما أراد السفر إلى إيران. كان ذلك قبل الثورة.

وقامت الثورة، وكان التنحي. يقول محمد: (شعرت ساعتها أن هذه الثورة كلها قد قامت لأجل أن أسافر إلى إيران)، ويتابع: (لا أعرف هل نكون أنانيين إذا فكرنا أن كل ما يدور في الكون، إنما يحدث لأجلنا نحن بالخصوص).

في مكان آخر، نلحظ أن بطلنا «محمد» مسكون بالأسطورة، وبالتاريخ أيضا، في الصفحة 170، يقول في حوار مع آواز التركية: (..وأنا تركي الهوى منذ زمن، منذ كنت صغيرا، لا أعرف من اللغة إلا اسمي. كان عندنا كتاب على غلافه اسم «محمد الفاتح»، وكنت أعتبره كتابي لأجل «محمد» المكتوبة على الغلاف).

الرحلة، حلم. المعرفة، كنز.


الإنسان ابن العالم

«محمد» سُني، ويبحث في حياة «ابن سينا» شيعي. تقول له أمه: «إلى بلاد الشيعة يا محمد؟! ألم يكن عندك شخص آخر لتكتب عنه، سافر إلى تركيا، اكتب عن ابن حزم واذهب إليه في إسبانيا، إيران يا محمد؟! تذهب إلى الشيعة؟!» يتذكر محمد ذلك وهو في سيارة الأجرة مارًّا بـمرقد خميني، فيردد بتلقائية دعاء المقابر.

وتساعده في تلك الرحلة، الدكتورة رضوى، مصرية، ومتزوجة من الدكتور كنجيان، شيعي، من أكراد إيران ويعمل أستاذا للأدب العربي في إحدى كليات طهران. ولهما «ندى»: أميرة صغيرة من أميرات الحكايات الفارسية.

عينها عربية واسعة، وشعرها كردي ناعم، ووجها مصري فيه سمرة، ولها لسان ينطق بلغات ثلاثة متشابكة. ندى بنت العالم. قليلون نالوا حظ هذه الفتاة من إدراك أن الاختلاف في الدنيا ليس إلا صورا واهية لأشياء ليست موجودة.

ستذكر أيامها في مصر والعراق وإيران، وستجد نفسها متحمسة لأجناس ثلاثة، الفرس والكرد والعرب. سيكون لها أوطان كثيرة. لن تفكر كما يفكر العرب، ولا كما يفكر الفرس، ستفكر بصورة تجمع النسبة الفاضلة من كلا العقلين معا.

عند لقائه بـ آواز التركية، التي لا تحب سعيد النورسي، وتحب أتاتورك، يتوقف محمد ويفكر في هذا الاختلاف، فهو على عكسها: يحب النورسي ولا يحب أتاتورك، ويصل بتفكيره إلى هذا السؤال: لماذا أفترض دائما أن جميع من ألتقي بهم يشبهوني في كل ما أحب وأكره؟ هذا سيء.

وفي الحوار الذي دار بين ورد وشيرين، قرب نهاية الرحلة، تسأل ورد: والناس لم هم كثيرون ومختلفون؟ فتجيبها شيرين: ليتسنى لهم تحصيل كل أنواع السعادة. الخبرات الإنسانية وملكات النفس كثيرة وليس من طاقة أي إنسان واحد أن يقوم بها جميعا.

لذا وجب أن يقوم بها جماعة كثيرة من البشر، فيكمل كل شخص سعادته بمعاونة بقية الأشخاص من حوله، ويكتمل الخير في الأرض بتعاون كل من فيها من البشر.

وعند نهاية الرحلة تهدي ندى لمحمد رسمة علمتها أمها رسمها، لطائر، لونت جناحا منه بألوان علم إيران، والآخر بألوان علم مصر. وكان والدها يرغب في تلوين جسد الطائر بألوان علم الكرد، وكأن طائر ندى رمز للأمة، الذي لا ارتفاع له ولا طيران لأعلى، إلا بجناحيه: إيران، ومصر.

ولحظة الوداع، تعطيه رضوى حقيبة صغيرة، فيسألها: ما هذا؟ شيء تأكله في الطريق! حتى في إيران يفعلون هذا؟ الناس هم الناس.

إن تدرج العدوي في ترسيخ فكرته، حول الاختلاف، وأهميته، وقبول الآخر، أيا كان مذهبه، أو عرقه، أو انتماؤه، من مطلع الرواية ص 21، مرورا بمواضع عدة، وصولا لنهايتها ص 399، شيء بديع حقا. فالفكرة مع التقدم في السرد وظهور الشخوص تزداد وضوحا وتكشفا من جوانب عدة، دون تكرار أو إخلال بطزاجتها ووضوحها. كل شيء بمقدار.


المكان/التاريخ

المكان في الرئيس، بطل تقوم عليه الرواية كلها تقريبا. فالحياة لا يمكن أن تنحصر فيما نحياه في بلادنا، «وكل مسكن نطيل فيه البقاء يتحول إلى سجن» (موباسان)، والسفر إليه هو الذي أكد تلك البطولة، وللتاريخ أن يصحبنا أينما سرنا.

خلف كل تل من هذه التلال حكايات لا تنتهي. والحكايات أرواح الأماكن، لولاها لتشابهت الأرض كلها، ولما كان لجزء منها على جزء فضل ولا حنين.

وكانت بداية الرحلة في الطائرة، حيث التنقل من مكان لمكان، وأول عنوان فرعي في (تالار جهار) القاعة الرابعة، هو أصفهان. حيث منطلق سرد حياة ابن سينا، عن طريق سرد سيرة المكان. وكأن ابن سينا وأصفهان، استقرا معا في مكان واحد بمستودع التاريخ والسير.

وفي زيارة لجبل أحد، قبل السفر إلى إيران، يقول: هنا كل شيء، يحمل روحه التي كانت فيه منذ ذلك اليوم. لم يمسها الزمن.

أسمع صوت الرماة على الجبل الصغير خلفنا، وقعقعة السيوف، وأرى فوضى الصفوف والمنادين يرفعون أصواتهم بين الناس: «قتل رسول الله». أين كان يقف حين كسر سنه، أين وقف وأبو دجانة يحميه؟

فالأماكن تتذكر الأحداث (جويس)، وسيكون للمدينة لقاء آخر عند العودة من إيران، حيث يزور البقيع: دخلت إلى قبر عثمان بن عفان رضي الله عنه. السلام عليك يا أمير المؤمنين، يا ذا النورين يا شهيدا كان موته امتحانا طويلا لم ننجح في أوله.


ابن سينا والكتابة الذاتية

دون ابن سينا جزءًا من سيرته، دليلا لمن أراد أن يعرف كيف كانت حياته. يقول: ينبغي على من يتحدث عن نفسه أن يتحدث عن ثلاثة أشخاص لا عن شخص واحد، فيتحدث عن نفسه كما يراها، وكما يراها الناس، وكما يجب أن تكون. وبطلنا أيضا، يدون يومياته، في دفتر، يصحبه معه، في رحلته.

وينقب الراوي، من خلال أبو عبيد الجوزجاني تلميذ ابن سينا في حياته، في تلك الأوراق ومسودات الرسائل التي كان يكتبها لأصدقائه، المرتبة زمنيا منذ فارق بخارى. فيها يظهر أستاذه على غير ما اعتاده عليه.

رآه وهو وحيد، ورآه وهو حزين، ورآه وهو يحتال ليبيح الخمر لنفسه، فيجعلها حراما للعوام جائزة للخواص. ثم رآه وهو يعاهد الله على تركها ويقر بخبثها.


إعادة تعريف العالم

في الرئيس لا توجد حبكة بشكلها المعهود. الحبكة هنا هي الموضوع: واقع الأمة ووضعها في مسار التاريخ، وحضور ابن سينا جزء من تلك الحبكة. في الظاهر بحث عن ابن سينا وحياته وتاريخه وفلسفته ودوره العلمي في اكتشاف الأمراض ومعالجتها، لكن في الحقيقة هي بحث حول الأمة وتاريخها.

وأثر التاريخ ووجوده وحضوره وتداخله وبصمته على الذهن والقلب معا، يقول الراوي مستفهما في إحدى رسائله لغادة: (هل يمكنني أن أرى حجب الأيام الكثيفة، وصوت الحاضر الصاخب، أين هو مكان خير أمة؟ هل تستحق البحث أصلا؟! لا أعرف).

كان منفعلا في رسالته. فمن شهد حرب البوسنة، وتابع حرب العراق يوما بيوم على شاشات التلفاز، وشهد الثورات العربية، ولم يعِ إلا وأمته مِزَقٌ كثيرة لا يحب بعضها بعضا، ولا يعرف بعضها بعضا، له الحق أن يسأل عن جدوى البحث، وله الحق أن يقول (لا أعرف).

لذا فالراوي/البطل يأخذ على عاتقه خلال سيره وبحثه أن يعيد تعريف العالم، أو أن يعيد صياغة ما عرفه، وخبره، تصور جديد للحياة من خلال التجربة، الرحلة/المعرفة، فالحكاية/ الرواية: هي إدارة العالم دون جهد. معارك دون دم. والدين: هو فعل ثوري يرفض كل رتابة وتحجر، وكل دين جاء ناقدا لدين قبله.

والخلافة: ليست أن يحكم بلاد المسلمين جميعا رجل واحد. لم يعد هذا ممكنا، ولم يتحقق في الزمان إلا قليلا. الخلافة هي الحكم العادل ولو في بيت صغير. والخسارة: هي الخروج عن سنن الكون. والخلافات بين الصحابة: هي تتابع تاريخي، طبيعي جدا، لصقل تجارب الانسان. والتصوف: رحلة القلب إلى الحب الأكمل، رحلة بناء الانسان وبناء الحياة معه. والحرية: هي القدرة على الاختيار. والصور: هي محاولة مبتورة للخلود.


الكتابة

يتحرك العدوي بحرية خلال الزمن، يتقدم ويرتد بكامل حريته، ثم يعاود التقدم. في (القاعة الأولى)، تبدأ بتاريخ 14 يونيو 2011، ثم يليها تاريخ مايو 1999، وبعده يونيو 2001، ثم منتصف 2006، وبعده يأتي فبراير 2011، وفي حضرة الأماكن التي يزورها، يستحضر البطل حكايات من عاشوا فيها وأقاموا، ليتقاطع سرد الماضي البعيد، مع سرد الحاضر القريب والرحلة.

ويظهر الحوار كمكون أساسي في السرد منذ البداية وحتى النهاية. حوارات قد تقصر أو تطول.

ففي بعض الأحيان يمتد الحوار ليشغل عدة صفحات، كما في حوار ابن سينا مع شمس الدولة (7 صفحات)، وحوار محمد مع غادة (4 صفحات)، وحوار ورد مع شيرين (3 صفحات). وتنتهي الحوارات دون وصول لحل نهائي. حوارات لا تنتهي. لا غالب ولا مغلوب.

يكتب العدوي بحواسه: فتظهر الكتابة البصرية، جلية واضحة أكثر من غيرها: (يلون قوس قزح السقف والجدران. والشمس تفرش الأرض، وجزءا من المكتب)، وهنا أيضا، (ومع الشروق، وعلى مسيرة ساعة من همذان بدت ظلال أربعة جياد وناقة تقطع الصحراء ناحية الجنوب)، فترتسم الصور في الذهن كأنها ملتقطة بكاميرا، أو كصورة حية.

ويكتب أيضا بأذنيه، فتقرأ الكلمة المكتوبة وكأنك تسمعها: (تقف السيارة أمام فندق فاخر، يشير إليه السائق وهو يقول «فردوسي». يكسر الفاء، ويسكن الراء ويضم الدال، وتكون الواو امتدادا للدال المضمومة. سأحب هذه الطريقة في نطق اسمه كثيرا، وأكرره فرحا كلما أوقفت سيارة أجرة توصلني إلى الميدان).

وهذه أيضا: (قالت «آفاق»: أنا سعيدة بأني عرفت صديقا من مصر. أنا أحب مصر كثيرا، وأحب أن أسمع الشيخ عبد الباسط وغلوش (قالتها بغين كأنها قاف)). وفي مكان آخر يكتب بحاسة السمع والشم معا: (يضعف الصوت كلما نزلنا، وتزيد رائحة المطهر الذي يستعمله العمال في تنظيف الأرضيات).

وأحيانا، يستخدم كل حواسه في الكتابة: (لا تستطيع أن تقول عن مكان أنك عرفته ما لم تكن قد سرت فيه تحت المطر، تاركا أذنيك تجمع الماء الساقط على الأرض، ثم تاركا روحك بعد ذلك تنبعث من جديد وأنت تملأ صدرك بالهواء إذا وقف المطر).

فالصورة البصرية تتمثل في المشي تحت المطر، والسمع يسجل تساقط الماء على الأرض، والحس في انبعاث الروح من جديد، والشم حيث رائحة المكان بعد توقف المطر.


أخيرا

..والالتزام الوحيد للإنسان هو أن يحقق أسطورته الخاصة. كل الأشياء هي شيء واحد، وعندما ترغب في شيء يتآمر الكون كله ليسمح بتحقيق رغبتك.





في حوار قديم معه، يقول عبدالفتاح كيليطو:

حين نتأمل الروايات التي توصف بأنها «عالمية»، نلاحظ أنها، بلا استثناء، تعقد حوارا مع النصوص الكلاسيكية. يتعين علينا أن نستخلص العبرة، فلربما أن بعض القصاصين والروائيين العرب، بإهمالهم للرصيد السردي القديم، يفوِّتون على أنفسهم فرصة الاستفادة منه.

قد يقال: الرواية صناعة نتعلمها بقراءة الروايات ودراسة الأساليب والتقنيات السردية الجديدة؛ فماذا سنجني من الاطلاع على تاريخ ابن الجوزي أو ابن كثير؟ أي فائدة ترجى، بالنسبة للروائي، من دراسة وفيات الأعيان وشذرات الذهب؟ من يضع السؤال هكذا ينسى أن الرواية في تجدد مستمر وأنها دائما تبحث عن نفسها.

كما ينسى أن الروائيين الغربيين لهم تكوين كلاسيكي جيد يشمل آداب القرون الوسطى والأدب اللاتيني والأدب اليوناني. خذ أي كاتب غربي معروف وسيتبين لك صدق هذا القول. التفكير في تجربة الآخرين هو الذي دفعني إلى الاعتقاد بأن الكتاب العرب لن ينجحوا في منافسة الكتاب الغربيين إلا إذا اطلعوا على النصوص الكلاسيكية.

في الرئيس، يمكننا، دون عناء أن نتعرف على تكوين كاتبنا الثقافي واطلاعاته؛ القرآن حاضر فلا يخلو باب من ذكر آية، أو آيات، تناص أو استشهاد. والتراث في القلب. والأسماء الحديثة حاضرة على مدار النص كله. المدخل مقتبس لابن الهيثم. ثم ذكر الفارابي. ومقتبس من إنجيل يوحنا، ومقتبس من معجم البلدان.

وذكر ابن المقفع. الجاحظ. المتنبي. أبو نواس. دانتي. الصاحب ابن عباد. البيروني. الفردوسي. الشاهنامه. الخيام. جلال الدين الرومي. أبو الحسن الندوي. سيد قطب. أحمد أمين. حافظ إبراهيم. يوسف إدريس. عبدالكريم سروش. حسين مؤنس. عمر فروخ. وآخرين.