في بداية القرن التاسع عشر، تصدرت الأوبرا الإيطالية المشهد على أيدى ثلاثة رجال: بيليني، دونزتي، وروسيني. مقدمين حقبة الـ «بيل كانتو» الأوبرالية الرائعة، والتي تعنى حرفيا «الغناء الجميل»، ذلك أنهم اعتمدوا في الأساس على أصوات المغنيين كي تتسيد الأداء الأوركسترالي، وليس العكس، محولين ما كان تحديا أكاديميا لملحنين عصرهم إلى متعة حسية خالصة طربت لها الجماهير. وهو ما عابه عليهم معاصروهم من الكلاسيكيين المتزمتين، حيث قيل أن الإيطاليين يظنون أن بإمكانهم صناعة الأوبرا كما يصنعون الباستا. وهو القول الذى يحوي الكثير من الإجحاف وسوء التقدير.من أكبر المتأثرين بالبيل كانتو، كان شاعر البيانو الأول «فريدريك شوبان». شكلت تلك الأوبرات جزءًا من دمائه الموسيقية الشابة؛ في الكونشرتو الأول له للبيانو يظهر مع التيمة الافتتاحية رونق كئيب لنغمة أشبه بالبيل كانتو الأوبرالية. حتى أن أشهر مقطوعاته: «النيكتورنات» أو ما يعرف بأغاني الليل، ذلك النوع الموسيقى الذي أعلاه «شوبان» وأصبح سيده المحتفى به، وصفت بأنها «بيل كانتو البيانو».


هناك سبب لتسمية «شوبان»، الرجل الخجول والهادئ، بشاعر البيانو، حيث تكمن عبقريته التي اعترف بها معاصروه ليس فقط في أنه ابتكر لغة موسيقية جديدة، ولكن من تحت أصابعه، انسلت من مفاتيح البيانو: أصوات لها حدة الغناء الآدمي، أصوات متأثرة بشغفه بالغناء الأوبرالي.


صوت المرأة داخل شوبان

لشوبان، كان الصوت الغنائي البشري: الآلة الموسيقة المثلى، وكان شغوفا بأية امرأة بإمكانها الغناء. طوال حياته القصيرة، وفي كثير من رسائله، لم يأتِ على ذكر إلا أقل القليل من المغنيين الذكور. بوضوح كان مغرما بالصوت النسائي الغنائي، وكان له أكبر التأثير على موسيقاه. فمن هن النساء اللاتي يمكن سماع أصواتهن داخل موسيقى «شوبان»؟العديدات، بل الأشهر فى عصره، واللاتي كان على علاقات صداقات وثيقة مع كثير منهن. فعلى الرغم من أنه ليست لدينا تسجيلات صوتية، ولن نعرف أبدا كيف كانت أصوات الأوبراليات العظيمات كأنجيليكا كاتالاني، كونستانزكا جلادكونسكا، ديلفينا بوتوتسكا، بولين فياردو، أو جيني ليند، إلا أن أصواتهن جميعا دفينة في مكان خفي في موسيقى «شوبان».


لماذا الصالونات العصرية وليست الأوبرا؟

السؤال هو: إن كان «شوبان»، الموسيقي الشاب، مولعًا بهذا القدر بالأوبرا، فلماذا لم يتجه إلى التلحين الأوبرالي، هذا النوع من الفن الذي عشقه بوضوح؟حقيقة أنه لم يتمكن من العودة لبلده الأم بولندا أزعجته كأشد ما يكون، حتى فكرة كتابة أوبرا ليست بولندية، بدت له سخيفة وليس لها مدعاة. ولكن ليس هذا السبب عظيم الأثر، فحتى قبل مغادرة وطنه وقبل إتمامه العشرين، كان بإمكانه تسيد الأوبرا هناك، ولكنه ببساطة لم يُرِد.



الجمهور الكبير يخيفنى. أنفاسهم تخنقني، تشلني نظراتهم الفضولية، وكل هذه الوجوه غير المألوفة تشعرني بالخدر.

في باريس، كان يفضل العزف في الصالونات الفنية والأدبية، حيث كان يشعر بالألفة بين أصدقائه ومعارفه فى جو حميمي وراقٍ، اختلطت فيه الطبقة الأرستقراطية مع المجتمع الفني. لذا، وبدلا من التأليف للأوبرا، أصبحت تلك الصالونات الباريسية مسرحًا خاصًا بالنسبة له، بين عدد قليل من الأفراد، تماما كما كان يُفضل. ولهذا النوع الخاص من الجمهور، أنتج مدًى واسعًا من موسيقى البيانو الخلابة. ويبدو أن ما فعله هو أنه سمح لولعه الأوبرالي بالتسرب إلى أعماله الإبداعية الكبرى، والتي تبدو لأذن خبيرة كأوبرات مصغرة.بطريقة نابعة من شخصيته، تدبر «شوبان» فرض طريقته ومعاييره الخاصة. في العالم الموسيقى، أبقى نفسه على نحوٍ ما في موضع عسير المساس به، بحيث لم يكن عرضة للعرض والطلب. ببداية 1840 في باريس، وهو في الثلاثين تماما من عمره، كانت لديه مكانة متفردة كليا. لم يكن عليه أن يعزف فى العديد من الحفلات كي يثبت مدى براعته. كان يخجل مبتعدا عن الحياة الاستعراضية للموسيقيين، ولتدبير شؤونه المادية، استعاض عن التأليف الأوبرالي والجولات الموسيقية الواسعة كالتي كان يقوم بها صديقه «فرانز ليست» بإعطاء دروسا للبيانو لمن يسعى إليه. طوال حياته القصيرة، عزف في عدد ضئيل جدا من الحفلات العامة، وسمعه عدد قليل من الناس. مع ذلك كان العالم الموسيقي بأكمله مقتنعا بشدة فيما يخص البيانو أن «شوبان» هو الأعظم.

تبقى كذلك حقيقة ارتباطه وتمسكه الطبيعي بالبيانو، الآلة التي شعر أنه مرتاح كثيرا بالعزف عليها. لم يشكل البيانو فضاءً لإبداعه الداخلي فقط وإنما الخارجي كذلك، حيث لم يكن «شوبان» معروفًا بألحانه العبقرية وحدها، إنما بتكنيكه وأسلوبه الأخّاذ في التفاعل مع البيانو.

نادرا ما تكلم «شوبان» عن ذلك التكنيك، لكن الدروس التي كان يعطيها كشفت الكثير عن مأخذه الذي ابتكره فى العزف، والذي انتهجه موسيقيون كُثر من بعده. لم يستخدم «شوبان» أصابعه كمطارق مخلبية تطرق فوق البيانو، ولكن تتداخل اليد مع الساعد والرسغ في كاريوجرافية ناعمة للذراع بأكمله وصولا إلى الأصابع. في هذه الدروس كانت الكلمة التي تتردد كثيرا لشوبان: رفقا! كان مقتنعا أن البساطة هي العنصر الأصعب، وأنها تأتي بعد تعلم كل شيء معقد آخر. مثلا معروف عن الـ Etudes، الدراسات الثورية للبيانو التي نشرها في بداية عشريناته، أنها صعبة كأصعب ما تكونه الموسيقى، ولكن في شهادات متكررة لمن سعوا إليه لتلقينهم دروسا أنه جعلها شديدة السهولة والتلقائية لهم. كذلك جعل «شوبان» من تلك الدراسات تتعدى غرضها وتتحول لمقطوعات جميلة في حد ذاتها.


رومانتيكى كاره للرومانتيكية

في الوقت الذي أتى فيه «شوبان» كانت الحركة الرومانتيكية قد أحكمت قبضتها على المشهد الفني والحياة الثقافية، وأقامت نفسها على أطلال الكلاسيكية بعد معارك فكرية ضارية. وبرغم أن «شوبان» كان بعيدا عن المشهد الصارخ الذي أبقت جورج صاند نفسها فيه، إلا أن كثيرا من معارفها أصبحوا معارفه، وربطته بالعديد من أصدقائها صداقة عميقة، منهم ديلاكروا صاحب لوحة «الحرية تقود الشعب» الشهيرة، والذي رسم أيضا لوحة لصديقيه «شوبان» و«صاند». كانت أوقات ثورات واضطرابات وتغيير مفاهيم بشكل كبير، ولربما كانت الحركة الرومانتيكية هي الأخطر في تاريخ الأدب والفن والأوروبي. من العسير مع ذلك القول أن «شوبان» فعل أيا مما فعله انتصارا للرومانتيكية، كان يفضل موزارت وباخ عن بيتهوفن، وكان مدينا لمعلميه في وارسو ببولندا، وأيا ما كان لحنه أو عزفه، فإنه آتٍ بشكل عميق من داخل نفسه (ولكن أليس هذا جوهرالرومانتيكية ذاتها؟) وتبعا لحسه الجمالي كموسيقى بارع شاب يحيا ضمن المشاهير العصريين في العاصمة الثقافية

الأولى

ففي «البالاد» الرابعة، والأخيرة له، يبدو شوبان وكأنما يعري جزءًا من روحه أكثر مما فعل في أعماله السابقة. فقد وجد طريقه من لحن موسيقي هادئ، لا يبدو أنه يود البناء عليه إلى ما هو أكثر إلى بقعة شغوفة وعميقة، حيث يستمر في اقتياد البساطة التي بدأ بها إلى مستوى أكثر براعة وتعقيدا ،مع ذلك أكثر سلاسة بطريقة لا يجيدها سواه. وعند نقطة ما تأخذ القطعة منحنى جنونيًا سريعًا، ذاهبا بها إلى مدى واسع تلاعب به طوال اثنتي عشر دقيقة تبدو لمن يسمعها كأبدية. وبرغم أنها من أواخر أعماله إلا أن التأثير الغنائي للبيل كانتو أوضح ما يكون فيها، بحيث يبدو أن البيانو يغني، بطريقة لم يلتفت شوبان كثيرا لمداراتها هذه المرة.في كثير من مقطوعاته كان ما فعله شوبان هو صُنع نوع من الظلال اللونية، ضمن هالة موسيقية مترقرقة صانعًا نسيجًا ناعمًا في انسيابية مضبوطة، شديدة الدقة والمعيارية ومع ذلك تبدو سلسة جدًا ومرتجلة وكأنها اعتباطية، ولكن خلف بساطتها الكثير من التعقيد الذي كانت أصابع شوبان اليمنى تنسل في سلاسة ممتعة ميزت أسلوبه، وبمهارة تدمج نوتات معينة داخل هذا النسيج بحيث تصنع وهجًا متألقًا يعلو متداخلًا فوق كل هذا.


هذا التأثير اللوني كان محببا لشوبان، وأصبح رائده. ففي الكثير من البريليودات (البريليود الرابعة على سبيل المثال) نلحظ أنه لا توجد نغمة حقيقة، بل ما يشبه «إطلالة للنغمة». لم يكن ينكر البناء الموسيقي الكلاسيكي أو يعارضه، بل وصلت براعته أنه كان يخفي ذلك البناء خلف رشاقة ونعومة تبدو وكأنها بسيطة تلقائية ومرتجلة.


هنا يرقد قلب فريدريك شوبان

وقتها، وبشكل ما بدا البيانو الآلة المثالية التي تناسبت مع الحركة الرومانتيكية، مع إضافة الدواسات للبيانو والتي صبغت دراما على الألحان، كما أن تفضيل «شوبان» للصالونات عن الأوركسترات والظهور العام أضاف لمسته، بحيث شعر حاضرو تلك الصالونات أنهم حاظين على شرف عظيم وبالاستماع لشيء نادر. وبالنسبة لمعاصري «شوبان» أتت نيكتورناته كمانفستو خاص للرومانتيكية، بالإضافة إلى «البالادات» شديدة الذاتية والخصوصية على نحوٍ منافٍ للكلاسيكية.

وقتها، وبشكل ما بدا البيانو الآلة المثالية التي تناسبت مع الحركة الرومانتيكية، مع إضافة الدواسات للبيانو والتي صبغت دراما على الألحان، كما أن تفضيل «شوبان» للصالونات عن الأوركسترات والظهور العام أضاف لمسته، بحيث شعر حاضرو تلك الصالونات أنهم حاظين على شرف عظيم وبالاستماع لشيء نادر. وبالنسبة لمعاصري «شوبان» أتت نيكتورناته كمانفستو خاص للرومانتيكية، بالإضافة إلى «البالادات» شديدة الذاتية والخصوصية على نحوٍ منافٍ للكلاسيكية.

تبقى كذلك كثير من مقطوعاته أسيرة حس عميق من الخسارة والفقدان. عندما غادر شوبان وطنه، لم يكن لديه فكرة أنه لن يتمكن من العودة إليه أبدا، وحدث ذلك بطريقة مفاجئة ومفجعة. لذا عوضا عن العودة لبولندا ملأ موسيقاه بها. هنا تأتي بولينزياته، والمازوركات القصيرة الحميمية، التي من جديد أخذها كنوع موسيقى من نزعتها القومية إلى موسيقى عصرية تُعزف في صالونات باريس.مرة أخرى عانى من الإحساس بالخسارة والفقد عند اضطراره إلى مغادرة باريس، البلد التي ناسبه جوها الثقافي واعتبرها وطنه الثاني بعد بولندا. مع انتشار العنف والتهديد إثر وقوع ثورة جديدة، انتقلت الطبقة الأرستقراطية الفرنسية إلى لندن، ولم يكن لشوبان خيار آخر سوى أن يحذو حذوهم. ولكن في لندن قابل آخر الأوبراليات العظيمات في حياته: «جيني ليند» الديفا (مطربة الأوبرا) الأشهر في القرن التاسع عشر. في الوقت الذي التقيا فيه، كان شوبان قد ظن أنه انتهى من التأليف، ولكن صداقته مع جيني أبرزت مرة أخرى تأثير الصوت الأوبرالي الأنثوي عليه. لم تكن جيني تغني في أي مكان سوى الأوبرا، ولكن على ما يبدو كان شوبان استثناء.لم يلبث أن تفاقم مرضه وعاد لباريس. في الثلاثة أيام الأخيرة أسرَّ لصديقته «ديلفينا بوكوستا»: «لا أود مغادرة الحياة هكذا، هلا تدبرت شيئا لي؟» وطلب منها نقل سريره إلى حيث يوجد البيانو كي تغني له، بينما كان مستلقيا يعاني سكرات الموت.أوصى شوبان بأن يفتح جسده بعد مماته، وأن يُستخرج قلبه، كي يدفن في وطنه الأم بولندا. هو الآن مستقر في ضريح خاص مكتوب عليه: «هنا يرقد قلب فريدريك شوبان».



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.