لم تكن التسليةُ يومًا –على أهميتها- غايةَ الأدب وهدفه الأسمى؛ بل إن ما يعتني به الأدب في الحقيقة أمور أخرى، حاول الحكام على مر التاريخ إبعاد الناس والأدباء عنها تارة، أو السيطرة على هؤلاء الأدباء تارة أخرى؛ تلك الأمور التي تتمثل في توجيه الفكر وتربية الوعي والذوق العام؛ ذلك الدواء المر الذي اعتاد الأدباء تقديمه في قوالب الحلوى المتمثلة في الروايات والقصص والأشعار وغيرها، بالإضافة إلى ما يحيط بها من نقد بناء، ومؤلفات فكرية أخرى، تهدف إلى تقويم ثقافة المجتمع وذوقه وفكره، ولكن تلك المؤلفات لم تكن مغلفة حتى بطبقة من السكر، على عكس القصص والروايات والأشعار.

إن محاولات تقويم الأدباء مجتمعاتهم، وسياسات دولهم، تمتد بمحاذاة محاولات الحكام -على اختلاف ألقابهم وأزمنتهم- ترويض الأدب الذي يرون فيه المنافس لهم في توجيه عقول العامة وتحريكها، ولقد نجحوا في ذلك أحيانًا، ونجح الأدباء أحيانًا كثيرة في توجيه العامة، بل نجحوا أحيانًا في توجيه الحكام أنفسهم.

ولقد كان «حسين توفيق إسماعيل أحمد الحكيم» أو «توفيق الحكيم» كما يعرفه أغلب الناس، من أولئك الأدباء الذين أثروا في السلطة وتأثروا بها، بالرغم من محاولاته الهروب من الاحتكاك الحتمي بها، بل الالتصاق بها دون أن يقصد حتى الاقتراب.


الإصلاح الفكري وبشرى «عودة الروح»

لعل المؤلفات الأولى لـ«توفيق الحكيم»؛ ونقصد بها تلك التي صدرت من عام 1933 وحتى أواخر الأربعينيات من القرن العشرين، تعطينا انطباعًا واضحًا عن هدف «توفيق الحكيم» من الكتابة؛ فبداية من «أهل الكهف» 1933، مرورًا برواية «عودة الروح» 1933، ومقالات بعنوان «تحت شمس الفكر» 1938، ومسرحية «بيجماليون» 1941، وانتهاءً بكتاب «شجرة الحكم» 1945، يصب «توفيق الحكيم» أغلب اهتمامه على مناقشة قضايا المجتمع، وإصلاحه فكريًا وأخلاقيًا وسياسيًا.

فناقش في تلك الأعمال المتنوعة وغيرها قضايا مهمة، عن أحوال الحكم والحياة النيابية، والتبعية الزائفة لتركيا، والتي تتمثل في ارتداء الطربوش، والذي استبدل به «توفيق الحكيم» «البيريه»الذي تميز به واشتهر بارتدائه دومًا، ولقد حرص «الحكيم» على إعطاء بعض أفكاره السياسية غطاءً من الرمز؛ كما في مسرحية «بيجماليون»، التي تحمل رمزًا شبه واضح لصناعة الصنم الذي لا يعترف لصانعه بالجميل بعد أن وهبه الحياة.

إن «توفيق الحكيم» لم يكن ليتوقع أبدًا أن يجني من وراء كل تلك المحاولات الإصلاحية، أن يصبح الأب الروحي لثورة يوليو 1952، التي تحمس لها متغاضيًا عما هدمته الثورة من قيمه التي نادى بها، حينما قامت بحل الأحزاب السياسية وتعطيل الحياة النيابية في مصر؛ فلا أحزاب ولا برلمان؛ وحدها الثورة من تمسك بزمام الأمور كلها في مصر.

لقد اعتبر «جمال عبد الناصر» «توفيق الحكيم» الأب الروحي للثورة، بعدما تأثر في شبابه برواية «عودة الروح»، والتي تنبأ فيها «توفيق الحكيم» ببطلٍ يخلصها، ويصبح هو المعبود الذي يخرج من بين أبنائها.

من أجل ذلك فقد منحه «عبد الناصر» إلى جانب «قلادة النيل»عام 1958، «جائزة الدولة التقديرية في الآداب»لعام 1960، و«وسام العلوم والفنون»

من الدرجة الأولى في العام نفسه؛

منحه كلَّ ما يمكن أن يمنحه زعيم لكاتب من الكتاب؛ من وقتٍ لمقابلته متى شاء


«توفيق الحكيم»

، وحرية في النشر، و

أمنٍ من بطش محاكمات الثورة للسياسيين والأدباء، بل الغضب له كما يحكي


«توفيق الحكيم» بأنه قد وصل إلى حد فصل وزير المعارف؛ لأنه طلب فصل «توفيق الحكيم» باعتباره موظفًا غير منتج.

بينما من اللافت للنظر إصرار «توفيق الحكيم» على الابتعاد عن «عبد الناصر» قدر المستطاع، رغم تقديره لشخصية «عبد الناصر»، ويفسر ذلك قائلًا في كتابه «عودة الوعي»، محددًا العلاقة الشائكة بين الحاكم والأديب:

إن الحاكم لا يريد من المفكر تفكيره الحر بل تفكيره الموالي؛ إنه يريد أن يسمع منه تأييدًا لا اعتراضًا، ورسالة المفكر في جوهرها هي الصدق والحرية، وهو قد يخطئ ويخدع ويفقد الوعي، ولكنه لن يخون رسالته عن وعي، وإني أخشى دائمًا أن تحجب الصداقة والقرابة والحب والعاطفة، وحتى الكره والسخط، النظرة الصادقة إلى حقائق الأشياء.


الاعتراف بأبوته للثورة ومحاولة توجيهها

ويبدو أن «توفيق الحكيم» قرر أن يستفيد من هذا التقدير، وتلك المساحة من حرية الرأي والقدرة على التوجيه الإيجابي؛ سواءً أكان بشكل مباشر في أعمالٍ مباشرة، كان المقصود منها دعم أفكار الثورة، كما في رواية «الأيدي الناعمة» 1954، أم بشكل غير مباشر يميل إلى استخدام الرموز، كما في مسرحية «السلطان الحائر» 1960، ومسرحية «بنك القلق» 1966، وحتى في مسرحية «مصير صرصار» 1966 على طرافتها وسخريتها الهادفة.

لقد كتب «توفيق الحكيم» أغلب أعمال تلك الفترة لـ«عبد الناصر» وما يواجهه من ظروف وأحداث، ولقد بيّن ذلك في «عودة الوعي»، مبينًا حبه لـ «عبد الناصر» وحسن ظنه به قائلًا:

لقد كانت ثقتي بـ«عبد الناصر» تجعلني أحسن الظن بتصرفاته وألتمس له التبريرات المعقولة، وعندما كان يخالجني بعض الشك أحيانًا، وأخشى عليه من الشطط أو الجور، كنت ألجأ إلى إفهامه رأيي عن بعدٍ وبرفق، وأكتب شيئًا يفهم منه ما أرمي إليه. فقد خفت يومًا أن يجور سيف السلطان في يده على القانون والحرية، فكتبت «السلطان الحائر». ثم خفت أن يكون غافلًا عما أصاب المجتمع المصري قبيل حرب 1967 من القلق والتفكك، فيعتمد عليه في الإقدام على مغامرة من المغامرات فكتبت «بنك القلق». وهي كلها كتابات مترفقة بعيدة عن العنف والمرارة، لمجرد التنبيه لا الإثارة، وكما علمت فقد قرأها وفهم ما أقصده منها، ولكنه فيما ظهر لم يأخذ بها، بل اندفع في طريقه.


بين الوفاء و«عودة الوعي»

إن الشيء الصادم في علاقة «توفيق الحكيم» بـ«عبد الناصر» باعتباره حاكمًا يستبد برأيه، ما يروى عن تأثر «توفيق الحكيم» بموته إلى حد الإغماء أثناء تأبينه، ثم مهاجمته بعد ذلك بفترة وجيزة في كتابه «عودة الوعي» 1972 مبينًا أبرز مساوئ «عبد الناصر»، والتي يمكن تلخيصها في وصول «عبد الناصر» تدريجيًا لمرحلة الزعيم الملهم، أو الزعيم المعبود كما وصفه «توفيق الحكيم»، وكيف لا وقد انفردت الثورة بالحكم على حساب البرلمان والأحزاب، وبالغت في تمجيد ذلك الزعيم، الذي كان يحصل على تأييد 99.9% في كل استفتاء؟! أليس مقارنته بما فعل «شارل ديجول» مقارنة ظالمة؟!

لقد أصبح «عبد الناصر»

صاحب الرأي الذي لا يخطئ، والمشروعات التي تدل على أنه قائد ملهم، فلا يُناقَش رأيه ولا تُرَد قراراته، ومع ذلك

لم يتمنَّ


«توفيق الحكيم» له إلا تلك الأمنية التي تدل على إشفاقه على شخص «عبد الناصر» رغم ما فعله باعتباره زعيمًا ملهمًا:

إنني أرجو أن يبرّئ التاريخ عبد الناصر؛ لأني أحبه بقلبي، ولكني أرجو من التاريخ ألا يبرّئ شخصًا مثلي، يُحسب من المفكرين، وقد أعمته العاطفة عن الرؤية، ففقد الوعي بما يحدث حوله.

لقد حاسب «الحكيم» نفسه أيضًا على ما لم يقصده، من انجذاب عبد الناصر لأدبه وإعجابه برواية «عودة الروح»؛ إذ يقول:


في مواجهة الزبانية وعلاقته بالسادات

بدأت أسائل نفسي بعد أن تأكدت مظاهر العبادة لشخصه على مر الأيام، ما الذي كان يعجبه في كتاب «عودة الروح»، أترى هذه الفقرة التي تروي ما معناه أن مصر تحتاج دائمًا إلى معبود من بينها؟ فلما قرأ ذلك وهو شاب صغير حلم بأن يكون هو ذات يوم المعبود؟

إننا لا نستطيع اتهام «توفيق الحكيم» بالجبن أو التخاذل، كما اتهمه بذلك محبو «عبد الناصر» وزبانيته بعد صدور الطبعة الأولى من كتاب «عودة الوعي»؛ ولقد اهتم «توفيق الحكيم» بالرد على أهم تلك الاتهامات في نهاية الطبعة الثانية من الكتاب.

لقد رد «توفيق الحكيم» على اتهام هؤلاء؛ وأبرزهم «محمد حسنين هيكل»، الذي اتهمه بالجبن لأنه لم يواجه «عبد الناصر» في حياته، وأنه لم يكن سوى أحد حارقي البخور أمام «عبد الناصر» خوفًا من بطشه، ولقد اكتفى «توفيق الحكيم» بتنبيه الكاتب إلى ما قاله من خوف الكتاب من بطش «عبد الناصر»، مضيفًا أنه لم يكن من المتملقين بقدر ما حاول التعبير عن رأيه بطرق مختلفة، فضلاً عن انسياقه وراء حلم الثورة والتغيير للأفضل، في حين تنازل تدريجيًا في مقابل ذلك عن كثير من الحريات والحقوق، التي سُلبت باسم الثورة، ورجاحة عقل الزعيم المعبود.

لقد عاهد «توفيق الحكيم» نفسه، مع بداية حكم «السادات»، بعد عودة وعي الأديب، على أن يواجه، حتى وإن وصل غضب «السادات» إلى وصف «توفيق الحكيم» بالعجوز الخرف، صاحب الحقد الأسود، حين وقف في وجهه معارضًا لبعض سياساته، في أول بيان سياسي يكتبه «الحكيم» في حياته، ووقع عليه كثير من الكتاب، أبرزهم «نجيب محفوظ»، وحتى لو اضطر «توفيق الحكيم» إلى مراجعة معارضته «السادات» والاعتراف بسوء تقديره، وإعادة الثقة به.

لقد واصل «توفيق الحكيم» توجيهه ونقده للمجتمع؛ حاملًا على عاتقه مسئولية الأديب ما بين سلطة قلمه وسلطة الحاكم.