في روايتها الأولى الصادرة مؤخرًا عن دار بتانة، تقدّم الشاعرة «سناء عبد العزيز» حكاية تبدو عادية ومألوفة لبطلتها التي تحيا بين عالمين، أو تصارع للتحقق والوجود بين مستويين من الحياة فرضتهما عليها ظروف عملها، فعاشت بين الواقع وصعوباته ومشكلاته، وبين العالم الافتراضي الذي تتعرّف على الناس فيه من خلال كلماتهم وعباراتهم المرسلة عبر مواقع التواصل المختلفة، حتى ينتهي بها الأمر في ذلك الانتظار المرير لردود الأفعال سواء في حياتها الخاصة أو حياتها العملية التي تبنيها بمشقة درجة فدرجة.

بطريقة المقاطع القصيرة، ومن خلال استخدام أسلوب «تيار الوعي» الذي يقوم على حديث الشخصية بنفسها عن نفسها، واسترجاعها لأحداث خاصة بها أو بمن حولها، تقدم الرواية نفسها للقارئ، ولا تقتصر على حكاية بطل الرواية «س» عن نفسها، بل تمنح أصواتًا لأخواتها الذين منحهم أبوهم أسماءً رمزيّة فوجدنا «بنأة»، و«قهر»، و«أحمر»، و«دقدق».

تتحدث شخصيات الرواية أنفسهم، وعن علاقتهم بالبطلة، وعن بيت العائلة وما يدور فيه من مشكلات، بشكلٍ سلس وتدريجي وبسيط يجعل القارئ متعاطفًا مع حكاياتهم بل وكأنه جزء من هذه الحكاية، كأنه يشاهد أبطالها ويتفاعل مع ما يمرون به من مواقف، ويشاركهم لغة الحوار التي حرصت الكاتبة على أن تكون باللهجة العامية، يتقاطع مع ذلك محاولاتها لكسر إيهام القارئ بالحكاية حيث توجه حديثها للقارئ مرة أو لجمهور القرّاء مراتٍ أخر.

كما ترون بأعينكم فهدفي نبيل، ولكن الطريق إليه كان وعرًا يشبه متاهة آدم وحواء بعد سقوطهما المريع من الجنّة، زوجي يعشق فيلم «الخروج من الجنة» يراني «عنان» المرأة الأسطورية، وأنا أوافقه في تشابهنا، ولكن في الغتاتة! من منَّا يستطيع أن يعيش مشطورًا، بالله عليكم قولوا لي، كنت أشعر بلسعة الهواء على حواف شقي الوحيد، كنت كالطفل الضائع يبحث عن أهله في الزحام، ولكنهم لصوص الطريق أبطئوني، وكدت أن أعود، لولا ظهور «واو» القدري!


فلسفة الرواية .. بين عالمين

على الرغم من أن الرواية تبدأ بفصلٍ يحمل عنوان «بين عالمين» إلا أنه بمجرد الدخول إلى عالم البطلة وحكاياتها الخاصة ينسى القارئ ذلك الخط الوهمي الذي تصنعه الساردة طوال الوقت بين عالمين شديدي الاقتراب من بعضهما، وشديدي الأهميّة في نفس الوقت.

إن كل العوالم والعلاقات التي تقيمها بطلة الرواية _ باسمها الرمزي «س» والذي لم يشاركها في هذه الرمزية إلا زوجها «و» _ تبقى مرتبطة بموقفها من عالمين، عالم يخص الإنسان بمفرده، بأحلامه الخاصة وطموحاته الذاتية، وعالم آخر يرتبط بوسائل تواصله مع الآخرين، الذي يفرضون طرق تعاملهم، وربما يرتبطون بها بعملٍ تشير إليه أنه العمل في الترجمة، وغيرها من العلاقات حتى تلك التي تربط بطلة الرواية بأمها وأخواتها.

ولعل هذه الفلسفة الخاصة هي ما جعل الكاتبة تلجأ لأسلوب «تيار الوعي» الذي يسمح إلى حدٍ كبير بعرض الحكاية كيفما جاءت على ذهن صاحبها من خلال التداعي الحر للأفكار والمواقف، والذي يسمح كذلك بعرض تأملات عامة في الحياة وعلاقات الناس ببعضهم، وكيف يمكن أن تؤثر على المستقبل، وغير ذلك من أفكارٍ ورؤى تعرضها الرواية ببساطة وذكاء، وتقسمها على شخصيات الرواية كل وفقًا لبيئته وتربيته، بل ودرجة تعليمه، فنجد طريقة تفكير الأخت المتعلمة تعليمًا عاليًا مختلفة عن غيرها ممن تلقت تعليمًا متوسطًا، وهما معًا يختلفان عن طريقة تفكير الأب والأم اللذين لا يزالان يتعاملان بالمنطق القديم في الحرص على زواج البنات والخلاص من تلك المسؤولية.

تتراوح لغة الرواية بين الشاعرية الشديدة ذات الجماليات الفنية الواضحة (كما نجدها في فصل «بحران يا صديقي») والتي تصل إلى حد إضافة أبيات شعرية معبرة عن حالة البطلة تمامًا من تأليف الكاتبة، وبين اللهجة العامية البسيطة خاصة في الحوار بين أبطال العمل، تلك العامية التي تجد لنفسها مساحة أحيانًا في السرد فتكسر حدة الفصحى، ولكنها تكون مفاجأة غير موفقة أو في غير مكانها للقارئ كأن تقول «آل يعني خواجات يا خي» أو تقول في موضع آخر «على قدر وسعي ووسع اللي خلفوني» وغيرها من العبارات التي تقطع بها السرد بشكل فج!


المرأة وفخ التنميط

وعلى الرغم من أن الرواية تُحكى على لسان امرأة، وتتعرّض للمشكلات التي تواجهها تلك المرأة العاملة في المجتمع، فإنها استطاعت أن تنجو من فخ التنميط الذي تقع فيه بعض الكاتبات، فلم يكن كل رجال الرواية أشرارًا وكل نسائها مغلوبات على أمرهن، بل وجدنا الرجل الزوج المتفهم الذي يساعد زوجته بطلة الرواية ويقف معها، بل تدعوه بصديقي و«شقي الآخر»، وتكوّن معه عالمها الأرحب الذي تتمنّاه، ووجدنا العملاء الافتراضيين الذين يحترمون ما تقدمه لهم من خدمات في العمل والترجمة، ويقيمون عملها بشكل إيجابي كبير، في الوقت الذي تعاني فيه من علاقتها بأخواتها البنات اللاتي يردن أن يحرمنها من ميراث والدها لمجرد أنها تركت بيتهن وعارضت أفكارهن.

ربما تشير الرواية في النهاية إلى الكاتبة وتتقاطع معها بشكل أساسي، خاصة إذا عرفنا أن «سناء عبد العزيز» الشاعرة عملت في التدريس وتعمل في الترجمة كبطلة قصتها، وربما تتقاطع معها في تفاصيل أخرى إلا أنه يبقى أن الرواية عمل مستقل يجب التعامل معه لا على علاقته بالكاتبة، ولكن كعمل أدبي مستقل استطاعت أن تقدمه للقارئ على هذا النحو، واستطاعت أن تزاوج في أحيانٍ كثيرة بين حياتها وتجاربها الخاصة في العمل والحياة لاسيما عملها في الترجمة تلك التجارب التي تستقي منها مادة العمل الروائي كما تشاء وبين حياة أبطالها وحكاياتهم على اختلافها وتعددها.

نحن الآن قاب قوسين

غير أن البيوت في أماكنها

والعربات تمر من خلفنا

والعلامات التي اتبعناها

وشددنا إليها الرحال بعلبٍ فارغة

لم تكن لنا!

هكذا عبّرت الكاتبة باقتدار عن تلك الحالة الإنسانية الخاصة التي يقع فيها الإنسان في حيرة بين عالمين، في انتظار دائم للتقييم ولردود الأفعال، وهو ما عبّرت عنه من خلال عنوان الرواية «فيد باك» بشكلٍ ملائم تمامًا لحالة الرواية وفلسفتها الخاصة، وبه استطاعت «سناء عبد العزيز» الشاعرة أن تقدّم نصها الروائي الأوّل، المكتوب بعناية وإحكام، وأن تقدم للقارئ عالمها السردي الخاص وصوتها المتميز الذي جعلها أهلاً لأن تحصل به على المركز الأول في مسابقة «الطيب صالح» العالمية للرواية في العام الماضي.