تحت ملصق كبير لفيلم La Grande Illusion، وعلى أريكته المفضلة، جلس مارتن سكورسيزي، المخرج الأمريكي الكبير، يقرأ النسخة الأخيرة من أحد النصوص السينمائية، وما إن انتهى حتى جذب الهاتف. لحظات قليلة ثم هتف في حماس: «بوب، كيف حالك؟» وقبل أن يجيب محدثه أضاف: «ما رأيك في أن نصنع فيلم عصابات تقوم فيه بدور قاتل محترف؟» فأجاب محدثه ساخراً: «إنها فكرة جديدة يا مارتي، كيف لم ننتبه إليها من قبل؟» فقال سكورسيزي في جدية: «أعرف أننا قمنا بذلك مراراً، ولكن ما الضير في تكرار الأمر؟»، فعاجله محدثه: «بربك مارتي، إنني في الخامسة والستين، كيف لي أن أقوم بدور قاتل محترف؟»، فأجاب سكورسيزي مجادلاً: «ألم تر ما فعلوه بذلك الفتى (بيت) في فيلم The Curious Case of Benjamin Button؟» ثم أضاف في حزم: «على كل حال، سأرسل لك النص في الصباح الباكر».

بعد بضعة شهور، وبينما كان روبرت دي نيرو يقوم بالقراءة والبحث تحضيراً لشخصية القاتل المأجور، وقعت يده على كتاب يتناول قصة فرانك شيران أحد المسئولين المرموقين في نقابة سائقي الشاحنات والمشتبه في تورطه في أعمال إجرامية لصالح منظمة رجال المافيا الشهيرة (La Cosa Nostra)، وبالتحديد جريمة اختفاء الرئيس الأسبق للنقابة جيمي هوفا عام 1975، والذي كان هو الآخر أحد المشتبه فيهم بالتعامل مع رجال المافيا. قبل فترة وجيزة من وفاته، اعترف شيران إلى تشارليز براندت، المحقق والمدعي العام السابق في جرائم القتل، أنه قتل هوفا، وقد وثق براندت هذا الاعتراف غير الرسمي في كتابه «سمعت أنك تطلي المنازل – I heard you paint houses» المنشور عام 2004 بعد عام واحد من وفاة شيران.

بعد أن أتم دي نيرو قراءة الكتاب، اتصل بمارتن سكورسيزي وأقنعه أنه من الأفضل أن يقوما بصنع فيلمهما عن هذا الرجل. وبعد عشر سنوات كاملة، بدأ مارتن سكورسيزي وروبرت دي نيرو تصوير فيلم (الأيرلندي The Irishman).

أفلام العصابات: جاذبية لا تخبو

من فيلم the Irishman
من فيلم the Irishman

في أحد مشاهد الجزء الأول من الملحمة السينمائية الشهيرة (الأب الروحي The Godfather) يترجل كلامينزا من السيارة حتى يتسنى لروكو قتل السائق بولي للاشتباه في تورطه في محاولة قتل زعيم العائلة فيتو كورليوني، ثم يلتفت إلى روكو ويقول إحدى أشهر الجمل في تاريخ السينما: «اترك السلاح، واجلب المعجنات Leave the gun – take the cannoli».

أحدثت ثلاثية «الأب الروحي» تحولاً عظيماً في نوع أفلام العصابات إذ انتشلتها من فئة الأفلام التجارية الرخيصة إلى فئة الأفلام الفنية الرفيعة، لتتوالى بعدها الأعمال السينمائية التي رفعت من رصيد هذا النوع الفيلمي وقيمته الفنية. كان لأفلام العصابات نصيب الأسد في مسيرة المخرج الكبير مارتن سكورسيزي، والتي صاحبه فيها روبرت دي نيرو في عدد غير قليل من هذه الأفلام مثل Casino و Goodfellas وهنا نسأل ما السر في جاذبية هذا النوع الفيلمي للجمهور وصناع السينما على السواء، وما السر في جاذبيته بالنسبة لسكورسيزي بشكل خاص؟

أفلام العصابات هي نوع فرعي من أفلام الجريمة واحد من أرسخ الأنواع الفيلمية في تاريخ السينما وأكثرها جماهيرية لكونها تجمع بين دراما الشخصية والتراجيديا والجريمة ومشاهد الحركة، وكان الأثر الأبرز لملحمة (الأب الروحي) في إضفاء جانب إنساني واقعي على شخصيات هذه الأفلام.

في مشهد (الأب الروحي) المشار إليه أعلاه، تحمل هذه الجملة السينمائية الشهيرة صورة بلاغية لمحورية العائلة عند المجتمع الإيطالي الكاثوليكي بصفة عامة، وعند مجتمع رجال المافيا بصفة خاصة، إذ إنها تتصل بتكوين الشخصية الدرامية لرجل المافيا الذي يعتبر أن ما يقوم به مجرد عمل لكسب قوت يومه والاضطلاع بمسئولياته الأسرية، كما أنه لا يرى أن تناقضاً بين ما يقوم به والنظام الأخلاقي أو الديني، هو يعلم أنه يعيش خارج إطار القانون، ولكنه يرضخ لقانون آخر هو قانون منظمات المافيا، وفي إطار نظام أخلاقي مغاير، يحرص على إنشاء أسرته الخاصة وإنجاب الأطفال بل والحرص على تعميدهم في الكنيسة كأي رجل صالح.

هذه الشخصيات الثرية كانت عامل الجذب الأكبر بالنسبة لصناع السينما، بما منحته لهم من مساحات واسعة للإبداع في رسمهم نصاً وصورة. في فيلم (الأيرلندي) نجد الكثير من الشخصيات الجذابة في كل تفاصيلها الشكلية والجسدية وحتى في أسمائها التي بالطبع تحمل ألقاباً معبرة، فلدينا شخصيات مثل: «سكيني الموس Skinny Razor» الجزار الذي اعتاد ذبح الدجاج باستخدام موس الحلاقة، فأصبح لقبه، ولدينا «توني بروفينزانو» الذي يلقب بالرجل الصغير (The little man) نظراً لقصر قامته.

تعتمد إحدى أهم التيمات المتواترة في رسم شخصيات رجال المافيا على مفهوم الولاء للتنظيم الذي يمثل نوعاً من الأخوية بين أعضائه في مواجهة رجال القانون فضلاً عن أن كل عصابة من هذه العصابات المكونة للتنظيم هي في الأصل عائلة كبيرة ترتبط بصلات الدم، ومن ثم فإن الوشاية هي أمر مذموم للغاية، وفي حال تم القبض على أحدهم فإنه يلتزم الصمت التام. في أحد المشاهد يقول جيمي (أل باتشينو): «لقد مكثت 5 سنوات في السجن، ولم أتفوه بكلمة».

الحياة خارج نطاق القانون تفرض سلوكيات معينة لتفادي الوقوع في يد الشرطة. في أحد المشاهد يشير الأيرلندي إلى أن الشرطة عمدت إلى التنصت على مكالمات رجال المافيا، ولهذا طور رجال المافيا لغتهم الخاصة من تعبيرات بسيطة ولكنها تكتسب دلالة ومعنى مختلفاً عن معناها الأصلي، وهو ما يتحول على الفور إلى جمل سينمائية عميقة في دلالتها إذ إنها قادرة على استحضار الصورة بشكل ذهني.

في ملحمة «الأب الروحي» يستطيع الجمهور أن يستعيد الكثير من الجمل السينمائية كما لو كانت نقوشاً محفورة في معبد السينما، من منا لا يتذكر «لوكا برازي يرقد مع الأسماك Luca Brasi sleeps with the fishes» في إشارة إلى قتله.

في أحد مشاهد (الأيرلندي) يخبرنا فرانك كيف أن جملة مثل «إنني أشعر ببعض القلق I’m a little concerned» تعني أن قائلها يشعر بالخطر وليس القلق. بل إن عنوان الكتاب المقتبس عنه الفيلم، «سمعت أنك تطلي المنازل»، هو أحد هذه التعبيرات الخاصة المستقاة من لغة المافيا، فالطلاء في هذه الحالة هو دماء الضحية، والجملة نفسها هي تعبير عن القاتل المحترف، وهو ما نراه بتنويعات بصرية مختلفة طوال الفيلم، حيث الدماء تتناثر على الجدران والأسطح بعد كل عملية اغتيال يقوم بها الأيرلندي.

يكتسب الحوار السينمائي خصوصيته الفنية من خلال قدرته على رسم الشخصيات واستدعاء الصور، وفي أفلام المافيا، تضفي الشخصيات الكثيرة المميزة، واللغة الخاصة التي يتواصل بها رجال المافيا، جاذبية خاصة على هذا النوع السينمائي سواء بالنسبة إلى الجمهور أو صانع السينما.

رجل المافيا حكاء بطبعه


عالم المافيا هو عالم مغلق بطبعه، ومن ثم فإن أفراده يتبادلون المعلومات المختلفة بشكل لفظي، كما أنهم يقومون بتوثيق تاريخهم المشترك عن طريق الحكي. من السمات المميزة أيضاً لرجل المافيا الرغبة في التباهي الدائم، فكل منهم يكتسب لقبه من خلال عمله الذي يسعى على الدوام أن يكون مميزاً ومتفرداً حتى وإن جاء هذا التميز من العنف الشديد.

يعتمد فيلم الأيرلندي على طبقات متنوعة ومتداخلة من السرد، والتي هي بالطبع سرد لفظي عن طريق التعليق الصوتي للأيرلندي الذي يصاحبنا طوال الفيلم. يبدأ الفيلم من نقطة زمنية متقدمة، ثم يطوف في الزمن بشكل حر ما بين الماضي البعيد والقريب والحاضر في شكل محكم ودقيق.

يتبدل الرواة وتتداخل السرديات ولكنها جميعاً تعتمد على أسلوب رجل المافيا في الحكي، الذي يتجاهل التصريح المباشر بالأفعال الإجرامية، ويشدد على الرسم الدقيق لكل الشخصيات التي يأتي على ذكرها، كما أنه لا يغفل أبداً الوصف الدقيق لطريقة وفاة الشخصية، أو بالأحرى قتلها، وهنا يتداخل السرد الصوتي مع البصري في مرونة شديدة، ففي كل مرة تظهر فيها شخصية جديدة يتجمد الكادر على صاحبها، وتظهر على الشاشة عبارات مكتوبة توضح بشكل تفصيلي زمان ومكان وسبب الوفاة، وبالتحديد عدد الطلقات ومكانها في جسد الضحية.

هذا التحديد المفصل لنهاية كل شخصية يتصل بشكل كبير برسم عالم المافيا، حيث كل الرجال يدركون أن نهايتهم الطبيعية هي القتل، وأن الاستثناء النادر هو الوفاة الطبيعية. في أحد المشاهد قرب نهاية الفيلم، يزور اثنان من رجال الشرطة الأيرلندي في دار الرعاية ويطلبون منه الإدلاء بشهادته، فيرد بأن عليهم الاتصال بمحاميه الخاص، وعندما يخبرونه أن محاميه قد توفى بالفعل، تكون الاستجابة التلقائية من الأيرلندي: «من قتله؟». لا سبيل لأي اعتقاد آخر بشأن موت أحدهم، فلا بد وأنه قد قتل بشكل أو بآخر.

هذه التفصيلة البسيطة تكتسب أهمية درامية أخرى تتصل بالمعضلة الأخلاقية التي يعاني منها بطل الفيلم لأنه قتل أحد أقرب أصدقائه. فبرغم هذه الأخوية التي تجمع أعضاء هذا التنظيم الإجرامي، وبرغم النظام الأخلاقي والقانوني الخاص بهم والذي يتصدر بنوده تجريم فعل الخيانة والوشاية، فإن غياب الثقة هو المشترك الأصيل بين رجال المافيا، والخوف من القتل هو الهاجس الذي يطارد كل هذه الشخصيات طوال حياتها.

قرب نهاية الفيلم يذهب الأيرلندي بصحبة أحد الرجال لاصطحاب أحد أصدقائه إلى حيث سيتم اغتياله، يرفض الأيرلندي الجلوس في المقعد الأمامي للسيارة لأن هذا المقعد مثل كرسي الإعدام للكثيرين، وكان هو من بين منفذي هذا الإعدام. حتى في هذه اللحظة الحرجة لا يثق الأيرلندي في راسيل بعد كل هذا التاريخ المشترك بينهما، وبعد التضحية الكبيرة التي هو بصدد تقديمها.

إن أفلام العصابات تتجاوز كونها نوعاً سينمائياً يشترك في عدد من السمات الفنية المميزة، إلى كونه سردية واحدة كبيرة، تعتمد على خبرة كبيرة من الأعمال المتراكمة، بالإضافة إلى خبرة المشاهد نفسه في تلقي مثل هذا النوع، وربط أعماله بعضها ببعض. هذه التفصيلة الخاصة بالمقعد الأمامي للسيارة هي نفسها موجودة في أغلب أفلام العصابات، سواء كان القتل بسلاح ناري أو بالخنق، فهي من الصور السينمائية المميزة التي تواترت في أفلام العصابات والتي يحمل خبرتها المشاهد شأنه شأن الشخصية الدرامية نفسها.

سكورسيزي ينتصر لرفاقه

كان سكورسيزي قد بدأ العمل على النص السينمائي لفيلم (الأيرلندي) في عام 2010، لكن الفيلم لم ير النور إلا بعد 9 سنوات كاملة. في البداية رفض العديد من الأستوديوهات دعم هذا الفيلم ضخم الميزانية بحجة أن المشاهد قد مل من ثنائية سكورسيزي ودي نيرو، ثم تحمس براد جيراي Brad Grey مدير أستوديوهات بارامونت Paramount إلى الفيلم، وتم التعاقد على صنعه بميزانية بلغت 100 مليون دولار. ولكن بعد مغادرة جيراي لموقعه تراجعت بارامونت عن المشروع ليتنقل إلى شبكة نتفليكس Netflix لينتهي المشروع بميزانية بلغت 160 مليون دولار.

سنوات طويلة مرت، والبطل الذي كان في بداية المشروع في الخامسة والستين من عمره، قد تجاوز السبعين، فضلا عن نجمين آخرين لا يقلون عنه عمرًا. منذ البداية كان سكورسيزي، أكثر المخلصين للسينما في ثوبها الأصلي الكلاسيكي، معارضًا لفكرة استخدام التكنولوجيا ومؤثرات الستار الأخضر، واقتصر على تقنيات تصغير العمر de-aging كتلك المستخدمة في فيلم The Curious Case of Benjamin Button، ولكن بشكل أكثر تطوراً. فكانت مخاطرة كبيرة من سكورسيزي الذي راهن على نفسه وأصدقائه القدامى.

كان سكورسيزي يدرك جيداً أن ذهاب الفيلم إلى نتفليكس يعني طرحاً محدوداً في دور العرض، ولكن رغبته في صناعة هذا العمل دفعته للتجاوز عن هذا الأمر. في السابع والعشرين من سبتمبر الماضي شهد الفيلم عرضه العالمي الأول في مهرجان نيويورك السينمائي، ثم شهد عروضاً محدودة داخل الولايات المتحدة الأمريكية. كانت المفاوضات بين نتفليكس وأصحاب دور العرض والموزعين قد وصلت إلى طريق مسدود، إذ إن نتفلكس تصمم على طرح الفيلم بمنصتها الإلكترونية بعد 30 يوماً فقط من طرحه التجاري بدور العرض، والعرف المعمول به يقضي أن تحتفظ دور العرض بـ 90 يوماً على الأقل.

رفض الموزعون شراء حقوق العرض، واقتصر الأمر على عدد من البيوت الفنية Art Houses بأوروبا، ليحرم جمهور السينما في العالم من مشاهدة تحفة سكورسيزي – التي قد تكون الأخيرة – كما يليق بها، في قاعة كبيرة للعرض.

في 20 نوفمبر الجاري، افتتح فيلم (الأيرلندي) مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الحادية والأربعين، وأعلن المهرجان أن العرض الثاني والأخير للفيلم سيكون مجانياً، تزاحمت الجماهير على شباك التذاكر منذ الساعات الأولى لصباح اليوم الموعود، وفي أقل من ساعة نفدت تذاكر الفيلم المعروض في المسرح الكبير الذي يتسع لأكثر من ألف متفرج. ولمدة 3 ساعات ونصف، جلس المشاهدون على أطراف مقاعدهم لمتابعة أطول أفلام سكورسيزي على الإطلاق، سعيدون بمشاهدة كل هؤلاء العمالقة على الشاشة الكبيرة لمرة قد تكون الأخيرة، متغاضون عن أثر السن الذي فشلت التقنيات المتطورة في إخفائه، يأملون أن تتكرر التجربة وإن كانوا في قرارتهم يدركون أن هذا الفيلم هو بمثابة خطبة وداع لسكورسيزي ورفاقه الطيبين.