نظام مُحكم يخفي الفوضى في قلبه

خوف أن يُدرك الآخرون كم أنت رقيق فيدوسونك بسنابكهم





أمل دنقل

تصف «عبلة الرويني» زوجها بهذا السطر الشعري الذي كتبه عن نفسه، كان أمل دنقل روحًا ثائرة عنيفة لا تتوانى عن مُهاجمة التطبيع مع كل رديء، سواء كان شعرًا أو سياسة أو أشخاصًا، كان يُسقط بعنف كل قناع منافق يراه في وجوه من حوله، ترى عبلة أن سجية دنقل كاملة هي آلية دفاعية أو قناع هجومي يُخفي به رقته وضعفه خشية أن يؤتى من هذا الضعف فيصير شرسًا جدًا ليرهب الآخرين من الاقتراب منه.

تنتمي شخصية مونيكا غيلر في مُسلسل «فريندز» الشهير لهذا النوع من البشر الذي يحتد بشدة في تقمص سجية بعينها ليُخفي نقيضها.

مونيكا مُنظمة لدرجة الوسواس القهري، مُسيطرة على بيئتها والأشخاص لدرجة التحكم، تنافسية حد تحويل أي لعبة لحرب في سبيل نيل التقدير، لكن كل تعقيد شخصية مونيكا ذاك يُخفي خوفًا عميقًا من فقدان الزمام والسيطرة.

في إحدى الحلقات يكتشف «تشاندلر» زوج مونيكا خزانة مُغلقة في صدارة الشقة التي تم تصوير كل المواسم فيها، لم ينتبه لها حتى المشاهدين، يفتحها ليجدها نقيض الخارج، خزانة تختزن فوضى من كل لون يُغلقها باب أنيق زاهٍ، في قلب مملكة مونيكا جيلر توجد خزانة فوضوية لا تشبه في شيء الخارج، هذا هو مفتاح شخصية مونيكا، مساحة من السيطرة والنظام والدقة تُخفي في قلبها عنصر فوضى لابد من السهر على حراسته وترويضه باستمرار وإلا سينقض ليفسد عالمها، مثلما حرس الشاعر أمل دنقل رقته بأقنعة القسوة.

فما هي قصة مونيكا؟

التسامي، أن نعيد تدوير العيوب في صيغة أكثر لطفًا

تعتبر بعض الآليات الدفاعية بدائية، بينما تكون أخرى أكثر نضوجًا مثل التسامي الذي يحدث عندما يحول شخصًا ما دافع محتمل ضار لأقل ضرر (رجل يظهر اندفاعات عدائية يحترف الملاكمة) أو حتى أمر بناء (شخص لديه رغبة في قطع أعناق الناس يصير جراح)





لوري غوتليب

مونيكا هي الطفلة الثانية لجودي وجاك جيلر، لم تظن الأم جودي أنها ستحظى بفرصة للإنجاب أبدًا لكن جاء طفلها «روس» ليكون الطفل المُعجزة الذي طمأنها لأمومتها وصار بطل العائلة، لذا كان مجيء مونيكا بعده أشبه بحضور نبي بعد انحسار المُعجزة وإيمان قومه، لن يغادر مونيكا أبدًا إحساس أنها جاءت كشيء إضافي لقصة مُكتملة، كراكب متطفل على حافلة كاملة العدد.

في حلقة موت جدتها تُخبرها أمها أنها تشعر بارتياح خفي لموت الجدة التي كانت تنتقدها في كل شيء، كانت الجدة تُكثف خيبة أملها في زوج خاطئ وأمومة مرهقة في ابنتها جودي، نبتسم وتبتسم مونيكا للمفارقة الكوميدية لأن جودي تفعل المثل في ابنتها مونيكا التي تظل على مدار المواسم هدفًا سهلاً لانتقادات الأم في كل شيء، لذا تتحول مونيكا من إضافة لا قيمة لها لأسرة سعيدة لكيس ملاكمة رملي يُمكن للأم أن تعيد فيه تدوير مأساتها مع ماضيها.

تعقد مونيكا صلة صداقة في طفولتها مع الطعام الذي يمنحها لذة غير مشروطة، تستبدل مونيكا شراهتها للحب والتقدير من أسرتها بشراهة الطعام وتستبدل كونها غير ملحوظة في كينونتها بأن تكون ملحوظة ببدانتها، بكوميديا سوداء تتحول مونيكا لمسخ كاريكاتوري نتاج تجربة تربية خاطئة، شخصية شرهة للتقدير لدرجة التنافس في كل مضمار لتظفر به، شخصية شرهة للسيطرة والتحكم والتنظيف والتدقيق خوفًا من إطلالة أمها على عالمها في أي لحظة بأحكامها القاسية، شخصية تعقد علاقة سامة مع لذة بدائية لتعوضها عن عقد صلات حقيقية مع العالم يمكن فيها احتمال الرفض والأحكام، تصير قصة فريندز بأكملها كيف يمكن لإنسان أن يحول حمولة بهذا الثقل المعنوي والحرفي لشيء أكثر جمالًا؟

كيف يمكن استبقاء تلك الفوضى المُدمرة وترويضها في خزانة وحراستها للأبد من أن تتولى الزمام؟

على مدار عشرة مواسم تُعلمنا مونيكا كيف يكون المرء سيد خزانته؟

كيف يصير أجمل نسخة من نفسه؟

وكيف يحرس نسخته الأسوأ من أن تخرج للعالم منتقمة من كل ما جعلها كذلك؟

ألهذا أردتِ أن تكوني طاهية؟ لكي يُحبك الناس!

أول تسامٍ صنعته مونيكا لنفسها هو علاقتها بالطعام، بدلًا من أن يكون لذة بدائية هاربة من الاشتباك مع العالم تحول لنشاط يُلبي كل حاجاتها النفسية الأخرى بشكل سوي.

تناول الطعام يجعل مونيكا بدينة، لكن إعداده يكفل لها العمل في رحاب شيء تُحبه وتلك الاستقلالية المهنية الأولى التي ستدفعها للحياة كفتاة وحيدة في مدينة لا ترحم مثل نيويورك خارج مملكة أبويها، كذلك إعداد الطعام هو النشاط الوحيد الذي يجعل المرء يستضيف الحفل وينتمي لمركز الحكاية.

تُعرف مونيكا نفسها على مدار المواسم أنها المُضيفة، في الحلقة الأولى بلا تردد تستضيف رايتشل صديقة الثانوية التي انقطعت أخبارها منذ سنوات كما استضافت من قبل صديقتها فيبي المُقيمة في الشوارع، الطعام والاستضافة طريقتها لموضعة نفسها في مركز الحكاية، لعلاج الهاجس الخفي أنها لن تكون مدعوة لأي حفل أبدًا لذا الطريقة الوحيدة لتنتمي هي أن تستضيف الحفل.

تعيد مونيكا تدوير علاقتها بالطعام ليتحول من هوس مُدمر لمهنة ونشاط أمومي قادرة به على تجميع من تُحبهم في أفلاكها مثل شمس تحفظ بجاذبيتها توازن المجرة وتغمر كواكبها بالدفء دون حرق كل شيء.

في حلقات تفقد مونيكا تماسكها عندما تفقد شقتها في مقامرة كوميدية، عندما يتأخر أصدقاؤها عن تجمع عيد الشكر، عندما يحاول أحد أن يتولى دور الضيافة، جرح نرجسي يشبه إزاحة كيان من المركز للهامش، أرادت مونيكا أن تكون طاهية لتروض حبها للطعام، لتكون في الحفل دومًا، ليحبها الناس، ولتبذل لهم جمالًا كان ليختفي لو بقيت في الهامش.

* مونيكا ستكون الأمور على ما يرام حتى لو لم تجيدي كل شيء.

* إذن أنت لا تعرفني على الإطلاق.

بالمقارنة مع أخيها روس الذي نال التقدير والحفاوة من الأبوين رغم طلاقه وفشل حياته المهنية في كثير من الأوقات، وبالمقارنة مع رايتشل الصديقة الاعتمادية التي كان جمالها وشعبيتها وثراء عائلتها كافيًا كطبقة واقية لها من تقلبات العالم، كان على مونيكا أن تواجه العالم بمفردها دون الاستناد لأي رصيد تقدير أو تقبل غير مشروط أو جمال وشعبية، لم تملك مونيكا رصيدًا واحدًا يُمكنها من السير في العالم بأمان لذا كان عليها المُنافسة بجنون في كل مضمار، كأن كل تقدير ستحرزه كافٍ لإثبات جدارتها وطمأنتها ولو بشكل مؤقت.

يتكرر كثيرًا بشكل كوميدي مشهد اللعب العفوي بين الأصدقاء الذي تفسده مونيكا بتحويل كل لعبة لمنافسة حامية وتقويضها بقواعد لا حصر لها حتى تزول كل متعة ممكنة من اللعبة بسبب تنافسيتها ورغبتها في الربح، ويلي تلك الكوميديا مشهد مُحبب دافئ فيه صديق عاثر يلجأ لمونيكا لترتب له حياته بأكملها وتُعبد له حلولاً خارج مأزقه، في نهاية المسلسل تُخبر رايتشل مونيكا والتي كان المسلسل بأكمله هو رحلتها في التحول من الاعتمادية للاستقلالية أن كل ما صارت إليه هو ما كانت عليه مونيكا من البداية، شخصية مستقلة تواجه العالم دون الاستناد للحائط، تخلت رايتشل عن كل مراكبها الآمنة وباركتها مونيكا لأنها انتقلت للعالم الحقيقي، وفرت مونيكا الدعم لكل أصدقائها عندما احترقت مراكبهم الآمنة لأنها واجهت العالم قبلهم جميعًا خلوًا من تأكيد وتقدير أبوي أو ميزة مبدئية مثل الجمال والشعبية.

من راهنية الاحتياج لبراح الحب

إن الحب الطفولي يسير على مبدأ {إنني أحب لأنني محبوب} أما الحب النرجسي فإنه يسير على مبدأ {إنني أحبك لأنني أحتاج إليك} أما الحب الناضِج فيقول: {إنني أحتاج إليك لأنني أحبك}.





إريك فروم

لم تكن مونيكا شخصية موفقة على الدوام في التسامي النبيل على عيوبها الفوضوية وتحويلها لنظام من حب ودعم لمن حولها، فاضطراب نشأتها جعلها تبذل كل جمال من دوافع خاطئة، تارة لتكون محبوبة ممن حولها، وتارة لخشيتها أن يغادرها أصدقاؤها عند زوال احتياجهم لها عند نهاية الحفل الذي تستضيفه، لذا كان مسلسل فريندز هو رحلة مونيكا لتتأكد من أنها محبوبة لكونها هي، لكونها ما تريده وما تخشاه وما تتمناه لا لشيء آخر.

في حلقة تسرق امرأة بطاقتها الائتمانية وتشترك بها في أنشطة مرحة وتشتري أغراضًا مُمتعة، تشعر مونيكا أن تلك المرأة تعيش حياتها أفضل منها، تصادقها وتندفع وراءها في مغامرات نزقة تنتهي بدخول تلك المنتحلة للسجن وهي تهمس لمونيكا ألا تحاول أن تحيا حياة غير حياتها فالخفة لا تناسبها والانتحال يجعلها أقل جمالًا، هي تختبر الحياة بجمالية الثقل أن تكون مركزًا آمنًا لها ولمن حولها، ليس عليها أن تكون شيئًا آخر لتكون سعيدة.

تتورط مونيكا على مدار المواسم في حُب رجال أكبر منها في السن مثل ريتشارد في إشارة خفية لتوقها لحضور أبوي يمنحها الحب الذي لم تتلقاه من أبيها، تصف مونيكا انفصالها عن ريتشارد لعدم رغبته في الإنجاب من جديد أنه أصعب شيء فعلته على الإطلاق، ربما لأنه الاختيار بين الإخلاص لما تُريده حقًا وهو زواج وأطفال أو قبول ما تمنحه إياها الحياة لتطبيب نقائصها، أب بديل في صورة مُحب يقبل أن تنجب منه لو أرادت ذلك، تحرر مونيكا ريتشارد من الحياة كإضافة لحياتها، كحل مؤقت لاحتياجاتها، تُحرره من أن يكون كل ما تفعله هي للآخرين، تلك لحظة النضج الأساسية التي ستوجه مونيكا فيما بعد لعلاقتها السوية مع تشاندلر، وكمال دورها كامرأة أكثر سلامًا ونضجًا في مخاطبة احتياجاتها.

تتعلم مونيكا أن تكون المضيفة وأن تقدم الدعم والحب لمن حولها، لكن من منطلق الحب وحده لا من منطلق أن تكون محبوبة أو أن تجعل الآخرين في احتياج مستمر لها بل لأنها تحب أن تكون كذلك، تلك التراتبية هي مراحل تحول الحب لنشاط أكثر صحية لدى إريك فروم.

الحب كوصفة أخيرة للانعتاق

إذا استطعت أن أقول لشخص آخر إنني أحبك فيجب أن أكون قادرًا على أن أقول أيضًا إنني أحب فيك كل شخص، أحب من خلالك العالم، أحب فيك نفسي أيضًا.





إريك فروم

يقول كُتاب مسلسل فريندز إن علاقة مونيكا وتشاندلر كان يُفترض بها أن تكون المُعادل الأكثر نضجًا لقصة الحب الرئيسية بين رايتشل وروس والتي اتسمت بالدرامية العنيفة ومتسلسلة الانفصال والعودة، بينما يتشارك روس ورايتشل المجيء من أسر مُحبة منحتهم التأكيد الكامل لذواتهم يأتي تشاندلر ومونيكا من أسر صنعت بعناية عيوبهم وجعلتهم أقل أمانًا في مواجهة العالم  وهو ماجعلهم من البداية أصدقاء بسهولة رغم اختلاف الطريقة التي اختارها كلًا منهما لتدوير عيوبه.

بينما مونيكا أحبت واجب الحراسة لعالمها من ميولها الفوضوية وترويض نزوعها للسيطرة والتقدير والمنافسة وتحويله لاحتياجاتها أن تكون طاهية وزوجة وأمًا مُحبة، أن تكون الحلقة الأخيرة في نسل جدات مؤذيات وألا تصدر لأطفالها سوى الحب بدلًا من أن ترث من أمها ما ورثته من الجدة، اختار تشاندلر أن يفر من علاقات الزواج نفسها لأنها لا تنتج سوى أطفال تُعساء مثله وأن يتحصن بالسخرية المبدئية من نفسه والعالم وأن يزايد على الجميع بقصة انفصال أبويه في عيد الشكر فيصير شكره للعالم هو ألا يحضر له المزيد من ذرية بينغ التعساء.

تبدأ علاقة تشاندلر ومونيكا بجنس مختلس في ليلة زفاف أخيها تفرغ فيه إحباطها من وحدتها، يُفاجأ كلاهما أن الحميمية العاطفية لم تحضر لتفسد صداقة قديمة بل جاءت مثل العنصر المفقود في طبخة مثالية، رشة الملح الأخيرة التي منحت الطبق مذاقًا آخر.

يتحول حبهما لبعضهما إلى مصالحة لعيوب كل شخصية ومعاناتها مع ماضيها، تشجع مونيكا تشاندلر على الوقوف وإكمال شجارهما الأول دون الخوف من أن تتركه، تتقدم لخطبته لتخبره أن البشر لا يرحلون دومًا مثل أمه وأبيه وأنه يخفي جمالًا لا يجعل الناس يبقون لأجله وحسب بل يعرضوا عليه أن يبقى هو لأجلهم، تشجع مونيكا زوجها على مصالحة أبويه، تشجع زوجها على هجرة عمله الذي لا يحبه والمخاطرة باستقرار الأسرة بأكمله لمطاردة عمل يحبه.

تمنح مونيكا زوجها كل الدعم الذي افتقدته في نشأتها والذي تمنت أن يمنحه لها أحد بينما في كل مرة تخسر حربها مع السيطرة وتطل دوافعها الفوضوية للسطح يُمرر زوجها ثقل الأمر في دعابة أكثر خفة، يُخبرها أنه يُعاني من هوسها ونزوعها للتحكم في كل شيء لكنه يحب الشغف الكامن وراء ذلك كله، يُحب أنها تقود دفة الأمور لكل شيء ويحب دوره باعتباره الحارس الأمين لثقل شغفها عندما يتحول لهوس.


تنضج شخصية مونيكا في النهاية حد التخلي عن دور المضيفة وقبول أخيرًا عقد مصالحات مرنة مع العالم، أن تهاجر لمنزل أكثر هدوءًا، لم يعد عليها أن تثبت شيئًا للمدينة الكبيرة التي استقبلتها وهي وحيدة أول الحكاية، أن تتقبل أن قلقها من العالم تسرب لرحمها فلم يعد سوى بيئة قلقة لا يمكنها أن تحمل جنينًا فتقرر أن تتبنى طفلاً وتمنح اسم «إيما» الذي قررته منذ طفولتها لابنتها المستقبلية لابنة روس ورايتشل، تتقبل مونيكا أن تتخلى أخيرًا عن دور الحراسة وأن زوجها رأى خزانتها الفوضوية ولم يغادر ورأى هوسها في كل شيء وأخبرها أنه سيقوم بدور الحراسة وأنه يحب ذلك، هي قيمة على حياتهما وهو قيوم على هوسها، يصل تشاندلر ومونيكا في علاقتهما لتطبيب كل عيوبهما فيتحول الحب لاحتفاء ناقصين باكتمال نحو كينونة أكثر سلامًا أو كما يقول فروم أن يحب المرء من خلال حبيبه كل شيء، أن يعقد عبر حبيبه مصالحة مع العالم وماضيه.

ما يجعل مسلسل فريندز أيقونيًا أنه يحوي رحلة نضج لجميع أفراده من ضفة لأخرى، من نقيض لنقيض، ربما ما يجعل مونيكا حالة خاصة أن رحلة نضجها كانت الأصعب لذا كانت ثمارها الأكثر جمالًا، وأن واجب الحراسة خاصتها امتد من أنانية وتنافسية لتصير صمغًا أموميًا جامعًا للمجموعة بأكملها لدرجة أن مُغادرة الأم عشها عنت للجميع نهاية المسلسل بأكمله، لأسباب كتلك تصير مونيكا جيلر حالة فريدة في التسامي نحو نسخة أجمل من النفس.