رواية «أم ميمي» العمل الروائي الأول لكاتبها بلال فضل، يحصد زخمًا متجددًا على مدار 10 أشهر كاملة فترة صدور الرواية، لتلقى رواجًا نادرًا في هذه الأيام لهذه النوعية من الأعمال بين قطاعات المثقفين في مصر والعالم العربي، وزاد الاهتمام بها مؤخرًا،بسبب برنامج الكاتب اليوتويوبي، الذي يمارس فيه هوايته في الحكي، والذي على ما يبدو جاء كخطوة تالية على تلك الرواية مطلقًا العنان للحكاء الذي يحمل في صدره، ويؤكد أن دور الحاكي الذي لعبه في الرواية، يتشكل لمزيد من الروايات التي يستمر فيها في الحكي، خاصةّ وقد أعلن أن الرواية الأخيرة هي جزء أول من ثلاثية يروي فيها تجاربه ويضع شخوصًا مرّ عليهم أو سمع عنهم في تجارب العيش في الشقق المفروشة بالقاهرة والجيزة.

الكاتب ضمن قائمة المغضوب عليهم في مصر، مما يجعل من أعماله سواء روايته الأحدث أو أعمال سابقة بينها مسلسل تلفزيوني،

ممنوعين

بإجراءات استباقية احترازية من الناشرين، خوفًا من أن ينالهم من البطش جانبًا في حال تعاونوا معه وهو ما يجعل تداول كتابه في مصر عملًا محفوفًا بالمخاطر لأصحاب القلوب الضعيفة، وهو ما يزيد أهميتها هالة من النضالية الحقيقية.

رواية صادقة

من الضروري البدء بحديث عن مدى سلاسة لغة الكاتب وجمالها، في الغوص بأبعاد أفقية ورأسية في شخصيات مصرية حقيقية مكونة لمجموعات حقيقية، ليعرض تشريحًا زمانيًا ومكانيًا ووجدانيًا لتلك الفئة، بمحيطهم اللغوي والفكري والاقتصادي، مع التأكيد على أهمية استخدام حواس الإنسان الخمس لفهم هذه المجموعة من البشر، والظرف الذي أقاموا فيه ينبئ عن ظرف مزر أكثر اتساعًا يحيط بهم، هذه مقدمة وصفية مهمة للعمل، وإن كانت هذه الأوصاف قد ابتذلت خلال عشرات المقالات عن روايات لا تستحق ما جعل الكلمات تنبأ بـ«كليشيهات» مملة ومثيرة للسخرية، لكننا نثق من أن تلك الرواية من شأنها إزالة صفة «الكليشيهية» عنها.

الرواية الصادرة عن دار المرايا العراقية، من 220 صفحة، وكانت ضمن القائمة الطويلة لجائزة الرواية العربية المعروفة باسم البوكر العربية، تبدأ بتحذير ساخر وصادق في آن يبدأ به الكاتب عمله قائلًا:

جمیع الشخصیات والأحداث والوقائع والأماكن والألفاظ الواردة في ھذه الروایة لا علاقة لھا بواقعنا الذي ھو- كما تعلم– أرقى وأطھر وأجمل من أن ترد فیه مثل ھذه الشخصیات والأحداث والوقائع والأماكن والألفاظ.

ثم يخصص الكاتب الفقرة الأولى لزيادة جرعته التحذيرية لأصحاب التوجه المحافظ في إصدار الأحكام على الأعمال الأدبية، متحدثًا عن «ثديين بولنديين»، وإن كان الكاتب لم يستغرق في وصفهما كثيرًا في معرض حديثه واكتفى بوصفهما بالفريدين في البداية وترك مساحة الاستغراق في الوصف لموضع آخر، تلك البداية تعطي نذرًا يسيرًا عما بداخلها، الكاتب يواصل بتحذيره الاعتماد على فلسفته التي دائمًا ما يعبّر عنها: «دع ما يغيظك إلى ما لا يغيظك».

بالطبع كاتب له باع طويل في إشباع فضول المتلقي سواء في الصحافة أو السينما والدراما، يعلم جيدًا أن مثل هذا التحذير وإن كان في السطر الأول فإنه لا يعني تنّفيرًا أو بالمصطلح الشعبي «تطفيش» القارئ، فتلك الخبرة المثقلة واللغة السلسة والهدوء الممزوج ببعض العفوية، كل تلك الخلطة تستطيع أن تكتب أقل من 50 كلمة من شأنها جرّ القارئ لينكب على العمل حتى آخر كلمة.

بمزيد من الصدق لا يدّعي الكاتب كغيره من الروائيين، أن عمله كله من وحي خياله الخصب الذي يفيض عليه بحيوات كاملة «ساعة عصاري»، كما لم يبذل جهدًا في إخفاء معالم شخصية البطل أو أحداث حياته، فالبطل هو هو وإن كان مجرّد شاهد ومجمع للأحداث والشخصيات والوقائع، لكن البطل هنا ليس مجرد راو ولكنه متورط في القصة ومتأثر بالأحداث، بالطبع التغييرات التي أحدثها الكاتب والإضافات مع البناء الدرامي أعطاها صفة الرواية ونفى عنها «الحقيقة» بالكلية، وهذا ما يمنحها كثيرًا من الصدق لدى القارئ، حتى أنه في فقرات عديدة يشعر وكأن الكتابة الصحافية تلّبست روح الرواية ويلمح فيها مشروع تحقيق استقصائي ربما كتبه البطل كمشروع لتخرجه من الجامعة، وينتظر ليفاجئنا بهذا الـ«Plot twist» في نهاية الرواية، لكن هذا وإن لم يحدث فربما خشي من ذلك أن تلتصق بالرواية صفة صحافية يرفضها.

بحثًا عن الحرية

تبدأ الرواية ببحث مراهق تتفتح زهرة شبابه للتو، عن الحرية، حرية الاختيار، حرية الاستمرار، حرية الخطأ والخطيئة، وحرية رفض الجريمة وإدانتها، مع كراهية واضحة لأن يكون «مغفلًا» وهو بعد ثالث بين الحرية والعبودية.

كتابة بلال فضل التي اعتمدت على مزيج من أسلوب خاص يمكن وصفه بأنه عصارة دمج فصحى العوام، أو فصحى مقالاته الصحافية، مع عامية المثقفين والتي غلفّها أيضًا بأسلوبه الخاص، ينتقل بينها بسلاسة شديدة، سواء في الحوار بين الأبطال أو في استعارتها عند الوصف، أو عند عرض سيل من الشتائم النابية، هذه اللغة أضافت سحرًا من نوع خاص للنص، وجعلت التنقل بين ثلاثية الفصحى والعامية والشتائم- باعتبارها تنتمي للنوعين لأنها في أصلها كلمات فصحى، ولأن استخدامها اليومي جعلها في خانة المألوف من العامية- رشيقًا تصيب القارئ بنوبات ضحك مفاجئة لا يستطيع السيطرة عليها.

يعيش مؤلف الرواية في منفى اختياري في نيويورك، وعلى ما يبدو فهي ضربة قوية سددها من هناك، ضد قيود النشر والرقابة التي عانى منها طويلًا خلال فترة معايشته لعمله الصحافي والفني في وطنه، خاصة وأن أحدهم وهو الكاتب أحمد ناجي سبقه إلى استخدامها بجرعات أقل كثافة فتم سجنه.

لا يمكن الجزم بأن كاتبًا معاصرًا، لم تكن لديه تلك الجرأة في كتابته أو في استخدامه ألفاظًا نابية، ولكنها في كثير من الأحيان لم تكن سوى أكثر من «تطعيم للنص» بلفظ واقعي من واقع الحياة وعادة ما يكون بالفصحى، ويتم حشوه في العمل متواريًا عن الأنظار، ومن دون الخوض في الحديث عن أعمال تراثية تمت «قصقصتها» خلال طباعتها القرن الماضي لتكون ملائمة لروح العصر الجديد مثل «ألف ليلة وليلة»، أو كتب اندثرت طباعتها بالكلية أمثال العديد من كتب الإمام جلال الدين السيوطي، فإن النص يثير تساؤلًا من نوع خاص أي علاقة تجمع بين تلك الألفاظ وحرية تداولها من جهة، وبين محيطها الاقتصادي والاجتماعي من جهة؟

المجتمع كبناء

يظهر من الرواية أن استخدام الألفاظ النابية بتلك القوة والعادية، يندرج ضمن محيط فقير، له من الحرية الاجتماعية أو الطبقية ما يسمح له باستخدامها بتلك الكثافة الواسعة، يجعل معانيها مع الوقت غير مؤثرة بحال مقارب للعادية بالنسبة إلى شخصياتها، ومع ذلك وإذا قارنا ذلك باستخدام المعاني هي نفسها مغلّفة بمصطلحات إنجليزية، فسنجد وقعًا أقل وطأة على القارئ! هذه المصطلحات يستخدمها أيضًا الأغنياء لكن بلكنة أجنبية لإنجليزية قوية، يدفع للتساؤل حول أخلاق الطبقة الوسطى، التي هي في الأساس

المشكّل

الرئيسي لأخلاق المجتمع والحافظ لها.

باعتبار أن الرواية الأدبية الحديثة هي الشكل الأكثر رواجًا للأدب، في هذا العصر،

لأنها

«تلبي احتياجات العصر الحديث ومتطلباته»، ولأن المقياس هنا من ناحية رأسمالية بحتة وهي الرواج والشيوع، أو بتعبير آخر «الأكثر مبيعًا»، فإن متطلبات انتشارها هو الأكثر تناسبًا مع أكبر عدد من القراء، لذلك غلب على الأعمال الأدبية نوعًا من التحفظ مبنيًا على الروح الأخلاقية للبروتستانتية، و

ملخصها

أن الدين علاقة فردية بين العبد وربه لدى كل شخص فيها ترمومتر يقيس به مدى رضا الله من سخطه، فإن كان خيرًا فمكسبًا وإن كان شرًا فخسارة وهو التقاطع الرئيس مع نفعية الرأسمالية كفعل مطلق للربح، تواجه هذه الرؤية، أخرى مضادة ماركسية، تقوم على أن الوعي ليس محددًا لوضع الإنسان الاجتماعي بل العكس.

يردد أحد شخصيات الرواية ويعتبر محرّك رئيسي للأحدث (شعراوي) أفكارًا فيبرية (نسبة إلى ماكس فايبر) بشكل مقلوب، فالرجل الذي يعمل قوادًا، يرى أن تحري رضا الله ينعكس بالخير على حياة الإنسان، وأن إهماله تلك المسألة لها من عواقبها ما هو مذموم، وهو ما بدا أنها أفكار انبنت عليها قناعات أم ميمي نفسها التي يظهرها الكاتب متأثرة بشدة بأفكار زوجها، هذه الشخصيات بتلك الأفكار تعيش حياة يملؤها الفقر والجهل، مع تحول أفكارًا سامية مثل الدين تتحول إلى مادة للأذى، والأمومة إلى مسخ قبيح، في الوقت الذي تحرر فيه السلطة الأبوية من رابطتها الإنسانية لصالح المكاسب ممتزجةَ بقسوة فريدة.

في لحظة ما من الرواية لابد أن تنتج الأحداث لدى القارئ أسئلة مثل: هل توظّف الأسرة قيمها -هنا الأسرة في إشارة لأسرة الطبقة المتوسطة الأوسع باختلاف مداخيلها لكن باشتراكها كلها في رغبة في الترقي ورفضًا للهبوط- لحماية نجلها من التعرض لمستنقع كهذا لأنها تعلم ما به؟ وإن كانت تعلمه فلما تنكر وجوده فضلًا عن مواجهته؟ وهل إن كانت كذلك تصبح متورطة في استمراره أو على أقل تقدير متواطئة مع السلطة في هذا الاستمرار؟

الكاتب اختار بطلًا مضطرًا للعيش بمبلغ مالي ضئيل يكفي بالكاد للبقاء على قيد الحياة، هو فقير أو بالأحرى معدم، طالب لا يعمل بعد، من طبقة اجتماعية ليست بالغنية، ويمكن وصفها بالفقيرة، ويجد نفسه، تقصيه أخلاق هذه الطبقة المتوسطة التي غلفتها قناعات التيارات الإسلامية، إلى تلك البيئة ليجد قدر مساحة نومه فقط.

كل تلك الظروف المادية لا تجعل منه منظّرًا بحال على أخلاق تلك المجموعة وكأنه هبط عليهم من برج عاجي، كما أن هناك ضابط متورط فيما يحدث بشكل مباشر، ولا يبدو أن فقرًا دفع به إليهم، مما ينفي عن الفقر صفة المبرر، لكن مع التأكيد على تواجده كجزء من الأسباب، هذا بالإضافة إلى التأكيد على أن الأفعال المشينة ليست حكرًا على فقراء سعوا من أجل المال، وإنما هناك أغنياء مثل زميل البطل في الدراسة يتورطون بإرادة واضحة وتخطيط دقيق للإيقاع بالفتيات في شباكهم، لكن هذه المرة باستخدام المال.

لم يكتف الكاتب بوضع البطل في تلك الخانة، لكنه جعل الأحداث مهددًا مباشرًا له، بل في أحيان يجعله متورطًا محتملًا حتى ينجو بنفسه، بناء على اختيارات واضحة وصريحة من دون مواربة، مع عدم وجود خيار آخر سوى الاستمرار، ومع كل هذا لا يصدر أحكامًا أخلاقية، وإن كان لا يبرّأ ما يحدث من جرمه، مما ينتج سؤالًا مزلزلًا قد يتبادر لذهن القارئ في أكثر من واقعة «هل من الممكن إصدار حكم على سيدة فعل بجسدها الماء باردًا وساخنًا والزمن ما فعلوا؟»، هل من السهل محاسبة عجوز كهذه؟ هذا السؤال يطال ميمي الجاهل المنفلت الذي يثور غضبه بدلًا من مشاعر بشرية جُبل الناس عليها في مواقف تفعل فيها الحتمية البيولوجية طبائعها، فيحتاج لشرح مبسط لمفاهيم الكون ومرادفاته العادية والتي تقوده وهو «شحطًا» لطرح أسئلة وجودية بمجرد سماع بديهيات.

في محاولة للمقاربة، بين هذا العمل الروائي وعمل فني أو أدبي آخر، فإننا لن نجد أقرب من مسلسل «أفراح القبة» بمعالجته النهائية التي قدمها المخرج محمد ياسين عام 2016، البناء الاجتماعي متقارب، العوامل واحدة والظروف متشابهة، ستجد الشخصيات متقاربة إلى حد بعيد، فبدرية وزوجها يمكن إيجاد تشابه بينهما وبين أم ميمي وشعراوي، ستجد سنية وشقيقتيها قريبتان من سامية ورحاب هذه الأخيرة يمكن اعتبارها جمعًا بين تحية وعلية في دوافعها وقيمها وتطلعاتها.

بحسب ما قالت رئيسة وزراء بريطانيا حتى نهاية الثمانينيات، مارجريت ثاتشر: لا يوجد مجتمع وإنما رجال ونساء وأسر، تظهر مجموعة الرواية باعتبارها عرضًا اجتماعيًا، لا يعمم مؤلفها أخلاق تلك الحارة واختياراتها هي مجرد جزء من شارع خلف كازينو إيزيس أشبه بالعرض الجانبي مهمّشًا عند الذكر وفي الذاكرة، لكنه لا ينفي اتصاله بما يحيط به سواء في الحارة نفسها أو في مناطق أخرى، فما يحدث في الطالبية وفيصل ومدينة نصر وغيرها من مدن وشوارع مصر من الاتشاح بالعفاف والطهارة، لا ينفي مسؤوليتها عما يحدث، وإنما تأكيد على أن ما حدث خلف كازينو إيزيس، نتيجة حتمية لوضع عام أكثر قتامة كمسبب وليس كنتيجة، مع عدم اغفال خيار الإنسان كفرد أبرز وأهم العوامل، في أن يكون شريفًا أو غير ذلك، لأن نفي الإرادة عنه ينفي عنه صفته الإنسانية بالتبعية.

بالعودة إلى مسلسل «أفراح القبة»، فالواقع في ستينياته في ظل نكسة عسكرية وديكتاتورية وفساد إداري ومالي، هو نفسه في عام 1991، مع إضافة البعد الثالث الإرهاب ضمن مفارقة عبود الزمر الشهيد وعبود الزمر الإرهابي، كما أن الضابط الفاسد مثل الصحافي الفاسد، الجميع واحد، لكن الراوي هناك غير الرواي هنا، فالبطل لم يُقدم على محاكمة شخصيات روايته، لكنه تمسّك بقيمة إنسانية تحب متعة الخطأ وتكره تحوله لجريمة، كما ينفي في الوقت نفسه صفة الملائكية التي ورد أن تحولت إلى شيطانية في «أفراح القبة»، لن يقتل ولن يخون، يمكن أن يتم «تغفيله» لكن انكشاف الغفلة يعني اختيار المبادئ وحماية قيمه، ليست قيمه المحافظة التي تظهر في مرات عدة، لكن قيمة الإنسان نفسه كأصل، هذا جعل الرواية قصة إنسانية لا رموز، لا ملائكة ولا شياطين وإنما مجرد بشر مخطئين وخطّائين ومجرمين.

في القصتين يحيط بالشخصيات، وضع اجتماعي وديني واقتصادي وسياسي واحد بمفارقة واضحة، بنية 1991 هي بنية 1967، ثم الكاتب في تعليق له على الرواية، يؤكد أن هذه البنية ذاتها بنية زمن كتابة الرواية، أو بتعبير أنتوني جيدنز عالمة الاجتماع البريطانية الشهيرة، فإن الأنساق الاجتماعية مثل المبنى الذي يعاد تشييده بأحجاره نفسها، لذلك فإن ثبات طبيعة تلك الأنساق أو الأحجار يعني بناء نفس المبنى.

لم ينه الكاتب روايته بانتحار البطل في مشهد غامض لهول ما شاهد، كما أنه لم يحاول الانغراس في أي تغيير لواقع عايشه، كما لم يهب في ثورة يبحث عن

سكاكين في مطابخ المدينة

، ولم ينته إلى مشهد رأسي من ميدان التحرير حيث يثور المصريون، هذا يعد اعترافًا واضحًا بفشل الثورة بتجربتها الكاملة في إحداث تغيير حقيقي، لا حل جذريًا يطرحه الكاتب وإنما يجعل الكاتب مهمة البطل مرتكزة على محاولة النجاة الفردية، تاركًا لقارئه فرص بلا حدود للتفكير والنقاش.