لعجوزٍ مثلي، التسكع في ذلك السقيع من الليل يُعد أحد المخاطر على الصحة. لكني قد اشتقتُ كثيراً للسير في شوارع المدينة دون مضايقات. وبعد مرور ما يقرُب من خمسين خريفًا على ليلة الواقعة المشئومة تلك؛ مؤكد أن شكلي قد تبدل تمامًا عن ذي قبل، وأحدًا لن يتعرف عليّ بعد أن امتلك ذاك الشيب كافة ملامحي.

رحلت عن هذه المدينة -مرغمًا- منذُ عقدٍ تقريبًا. بعد أن فقدت كُل ما لديّ هنا، قررتُ الذهاب إلى مكان ما هادئ وناء على أطراف البلاد، لا يعرفني فيهِ أحد. هذا كُل ما كُنت أحتاجه لقضاء أيامي الأخيرة في هذه الحياة. فكانت«برايا جراندي» هي وجهتي الأفضل.

بعد ذهابي إلى هُناك بزمنٍ ليس بكثير، جاءني شابان في مقتبل أعمارهما وطلبا مني أن أسمح لهما بكتابة قصة عما مررتُ به في حياتي من مآس نتيجة ما جرى ليلتها. بعد تفكير شعرتُ أن هذا سيساعدني كثيراً في إثبات براءتي -من جريمة لم أرتكبها – للكافة أو على الأقل لمن سيأخذهم الشغف لقراءة الرواية الأصدق لتلك الواقعة على لسان فاعلها؛ فوافقتُ على الفكرة، وشرعنا في العمل سريعاً.

لم أخف عليهم سرًا، واعترفتُ لهم في الجلسة الأولى أنني أعيدُ تمثيل الواقعة في عقلي كل ليلة. ومن هنا، انطلقنا في رحلة عقلية خلال السنين التي قضيتُها من عمري.


أتقصدني أنا؟!

صباح الثلاثاء 20 يونيو/حزيران 1950.

كنتُ قد تلقيتُ دعوة للذهاب لأحد الشواطئ جنوب « ريو دي جانيرو». ابتعتُ صحيفة «إستادو دي ساو باولو» لأصطحبها في طريقي، وصعدتُ إلى القطار.

أثناء الرحلة، اتطلعتُ على كافة الأخبار المذكورة بالصحيفة، كانت كُلها عما حدث قبل 4 أيام. لكن العجيب أن كل ما ذُكر عن الواقعة كان يُدينُني بشكلٍ فردي، الصحافة وكاتبوها قد تنازلوا عن منطقيتهم المطلوبة في المهنة، وقرروا مواكبة مشاعر الجموع التي تتحد ضدي. وأثناء قراءتي فيما رآه الصحفيون عن الكارثة، سمعتُ أحد الجالسين في ذات العربة يُحادث صديقه عني، مؤكداً له أنه لو استطاع الوصول إليّ لا يضمن ما قد يحدث. فتركت الصحيفة على الفور وتوجهت له قائلاً: «هل تود التحدث إليّ؟» فهرول مفزوعاً وغادر القطار عند المحطة التالية.

دخلتُ بعدها في أحد الأيام لأحد المتاجر لأشتري بعض الأغراض. وإذ بي أُفاجأ بسيدة تربِت على كتفِ ابنها قائلة: «انظر يا بني، انظر. هذا الرجل الذي جعل البرازيل كُلها تبكي» وكانت تُشيرُ عليّ.


زيارة إلى مسرح الجريمة

بعد أن أصبحت أوصف بالمُسن، أدركت أن الواقع لا ينتظر أي اقتناع لكي يجري أو يتعطل، وأن اقتناعك وقناعاتك عن أي شيء لن يُبدل في الحقيقة أبداً. هذا ما لم يُدركه أحد الصحفيين الشُبان عندما أرسل ليّ دعوة -شبه رسمية- لأعود إلى مسرح الجريمة -المزعومة- في صباح أحد الأيام. كان يظنُ أنني أملك من الترويّ ما يجعلني أهمل تلك الدعوة أو أُدرك أنها لإيقاعي في أحد الفخوخ. لكن ظناً لم يكن في محله. فلقد سعدتُ جداً بالدعوة تلك، وتخيلت في قرارة نفسي أنها الفرصة الأنسب كي أشرح للموجودين في المكان -وقتها- وجهة نظريّ فيما جرى، وأنني قد نفذت الصواب حتى لو لم أوفق في ذلك. وكنتُ على يقينٍ بأنهم سيقومون بالترحاب بي على أكمل وجه.

اتخذتُ القطار من برايا جراندي إلى ريو دي جانيرو في الصباح على الفور وقلبي تملؤه الأمنيات. وقبل خطواتٍ من أن تطأ قدمي أرضية مسرح الجريمة للمرة الأولى بعد تلك الليلة، احتضنت عصايّ بقوة مُخفياً توتري، قبل أن تقطعها أحد الأيادي المانعة تقدميّ والتي تُبعت بالعديد من المؤيدين لقرار منعي من الدخول.

وفي صباح اليوم التالي، وجدت كافة الصحف تنقل ما حدث بتشفٍ واضح. وقتها فقط أدركت أنني قد وقعت في المكيدة وأن رغبتهم لم تكن في تعويضي عما فات، بل هي أفعال مُدبرة للثأر من مُذنب لم يرتكب أي أخطاء.


تفاصيل الجريمة

لسنواتٍ طويلة بعد الواقعة، احتفظت إدارة المكان بكُل شيء كما هو دون تبدُل. لكن في أحد أصباح عام 1963، قررت الإدارة العليا الاستغناء عن أحد أهم الشواهد على الجريمة ونزعه من محل الحادث. عند علمي بهذا الخبر، تقدمت سريعاً للإدارة بطلبٍ عن طريق أحد الزملاء القدامى، من أجل أن تسمح ليّ الإدارة بالحصول على الخشبات الثلاث تلك. كنت أتوقع ألا تتم الموافقة على طلبي هذه المرة. لكن اقتناعي -كالعادة- لم يُغير في الحقيقة من شيء، ووافقت الإدارة على منحيّ إياهم.

لم أكن أعرف ما يجب أن أفعله بهم بالضبط. ظلّوا أمام عينيّ لساعاتٍ بلا حراك، تمنيتُ ولو للحظة أن تدب فيهم أحد الأرواح ليتمكنوا من الإدلاء بشهادتهم التي رُبما تُساعد في إثبات براءتي. لكن بلا جدوى. فقررتُ أن أقوم بحرقهم علَ ذلك يُساعدني قليلاً على نسيان ما حدث. أضرمت النار فيهم وعُدتُ خطواتٍ للوراء أُشاهد تراقص ألسنة اللهب بغير انتظام. كنت أُشاهد وقائع حادثة السادس عشر من يونيو عام 1950 في كُل ليلة قبل المنام، لكن ليس بالوضوح الذي ظهرت به هذه الوقائع من خلال ألسنة اللهب.

في بداية الأربعينيات، بدأتُ مسيرتي كحارس للمرمى في أحد الأندية الشعبية الفقيرة، تدرجتُ حتى وصلت إلى «فاسكو دي جاما» ومنه بِتُ الحارس الأول لمنتخب البرازيل وحصلتُ معه على بطولة كوبا أمريكا الأولى بعام 1949. وفي العام التالي، كُنا على موعد مع المحفل العالمي الأول لنا. في بلادي، لا نتعامل مع كُرة القدم بالشكل الذي هي عليه في كافة البُلدان الأخرى. شعبي -وأنا- نظن أن الكُرة أكبر بكثير من أن تُحصر في 90 دقيقة. وبطولة كأس العالم تلك كانت في غاية الأهمية بالنسبة لنا، كانت حلمًا شعبيًا لا يقبل النقاش أو التراجع.


http://gty.im/78964185

قدمنا بطولة ممتازة، ولم يتبق على معانقة الذهب سوى دقائق قليلة، دقائق يكفينا فيها تجنب الهزيمة من أجل نيل اللقب. اصطف حوالي مائتي ألف شخص بمدرجات «ماراكانا» وأحلامهم تطوف بلا موانع في أفق السماء. وحتى الدقيقة 78 من عمر المباراة، كان الوضع على خير ما يُرام. لكن بعد ذلك بدقيقة واحدة، تحرك «جيجيا» من الجهة اليُسرى لمرماي، كُل شيء كان يُشير إلى أنه كان سيُرسل كُرة عرضية لا محالة، فتحركتُ خطوتين إلى الأمام من أجل حُسن استقبالها، لكنه قد قرر تسديدها في المرمى ليُعلن الهدف الثاني للأوروجواي والذي أنهى علينا نفسياً في المباراة، وأنهى حياتي إلى الأبد. حتى وإن بقي فيها عُمر.


الهدوء القاتل

الصمت الذي ضرب كافة حاضري «ماراكانا» في تلك الليلة جعلني أكره الهدوء كثيراً. ورغماً عن كافة محاولاتي في السنوات الكثيرة الماضية كي لا أعيش في انعزال، لكني ما زلت أعاني ويلات ذلك الهدوء الذي قارب على بلوغ الخمسين بداخلي. حتى ذلك المُذيع من أمامي، هادئ لحد كرهت معه اللحظة التي وافقت فيها على قطع انعزالي من أجل الجلوس معه.

« مواسير باربوسا حارس مرمى البرازيل في كأس العالم 1950، ختاماً، أترغب في قول شيءٍ ما؟» سألني.

« أتدري! أقصى مدة للعقوبة يمكن أن تحصل عليها في هذه الدولة لا يمكن أن تتخطى الحبس لثلاثين عاماً. أظن أنني قد تعديت ذلك الحد بكثير، شكراً لك». أجبته وسرعان ما غادرت المكان لأعاود سيري في شوارع «ريو» الساحرة.