على حساب الإنستجرام الخاص به والذي يتابعه أكثر من أربعة ملايين شخص يتألق «باتريس إيفرا» كل يوم، تارة يرقص ويغني والأخرى يطبخ. يرسل بتحيات إلى أمه ثم يلتقط فيديو بجوار أخيه النائم وصوت شخيره المزعج.

يذكّر الجميع بضرورة أن يجدوا السلام النفسي وأن يحبوا الحياة، على الرغم من ذلك فهو خشن ذو وجه قاسٍ في الملعب، لا يأبه إن كانت رأسه ستطيح بالكرة أم قدم منافسه هي التي ستطيح برأسه.

دعونا نتعرف على مشاهد من حياة باتريس إيفرا ربما لم تلتقطها أبدًا كاميرا الفيديو الخاصة بأحد وربما لن تراها أبدًا على إنستجرام.


المشهد الأول: داكار 1991

عينان تومضان ببريق السعادة والانطلاق، مناسبتان تمامًا لباتريس الذي تسمع ضحكاته العالية أينما وجد،

من بين 25 ولدًا وبنتًا

هم أشقاء جميعًا -نتيجة لثلاث زيجات للدبلوماسي السنغالي لاتيير إيفرا – تستطيع أن تتعرف على باتريس بسهولة.

لكنه اليوم يبدو على غير عادته، يطل على الجميع بنظرات تحمل مزيجًا من الدهشة والخوف، رغم محاولات أمه المتكررة أن تبث داخل قلبه شيئًا من الطمأنينة إلا أن الطفل ذا العشر سنوات لا يستطيع أن يتقبل كل ذلك دفعة واحدة. لقد أتم العاشرة هذا العام منهم سبع سنوات متصلة في فرنسا، وهو ما لم يمنع أباه أن يقرر أن باتريس سيتم عملية ختانه في السنغال طبقًا للطقوس والتقاليد التي يسعى الرجل جاهدًا ألا يفرط فيها.

لا يتذكر باتريس الكثير، عشرات الوجوه التي تحملق في وجهه، رجل شديد النحافة يحمل حقيبة بدائية الصنع من القش أخرج منها شيئًا ما لامعًا تمامًا ثم لا شيء. كل ما يتذكره باتريس أيفرا حينها أنه قرر أنه لن يعود أبدًا إلى السنغال مرة أخرى، قرر حينها أن يكون الفرنسي باتريس إيفرا.

لم تكن تجربة سعيدة، كنت أشعر بالاستغراب، لم أعد إلى السنغال مرة ثانية، كنت أنتظر حافزًا حقيقيًا للعودة.


المشهد الثاني: إيطاليا 1998

هناك في الجنوب الإيطالي غرب جزيرة صقلية وقف الشاب الأسمر ذو الـ 17 عامًا أمام مرآة تكشفه من رأسه حتى قدميه، مرتديًا قميصًا رياضيًا أزرق حصل عليه بعد أن

أصبح رسميًا

لاعب كرة قدم محترف في نادي مارسالا بالدرجة الثالثة بالدوري الإيطالي صباح اليوم، ابتسامة رضا ثابتة وعينان تنظران إلى انعكاسهما ليرى فيهما كيف بدأت الرحلة.

كيف نشأ تلك النشأة الفقيرة في فرنسا بعد الضائقة المالية التي تعرض لها والده بسبب عدد أطفاله؟ كيف قرر أنه سيصبح لاعب كرة قدم؟ كيف طارد حلمه؟ كيف تنقل بين أندية فرنسا عارضًا موهبته دون أن يلتفت له أحد؟ حتى في باريس سان جيرمان قالوا له إنه مهاجم ممتاز لكنه يحتاج لجسم أكبر فتخلوا عنه مجانًا.

منذ أن غادر مقر النادي في الصباح لم يرَ أحد ذا بشرة سمراء سواه، إنهم يلتقطون معه الصور لكونه أول أسود يلعب كرة قدم في المدينة، إنهم ودودون وهو شعر بكونه شخصًا له وجود أخيرًا، لقد أصبح لاعب كرة قدم محترف، ربما حينها صرخ بهتافه الشهير لأول مرة: «كم أحب هذه اللعبة!»


المشهد الثالث: ألمانيا 2004

ينظر باتريس إيفرا إلى سماء ملعب فيلتنز أرينا الألماني غير مصدق ما حدث، لقد أنهى موسمه مع موناكو دون أي بطولة، ترك إيطاليا وعاد إلى فرنسا عبر بوابة نادي نيس ثم التقطته أعين «ديشامب» لينضم لكتيبة موناكو، 47 مباراة في الموسم بأداء ثابت ومبهر جعله أفضل لاعبي الفريق ثم النتيجة لا شيء، حل موناكو ثالثًا في الدوري واليوم يخسر نهائي دوري أبطال أوروبا أمام بورتو بثلاثة أهداف، ثلاثة أهداف رغم أنهم لم يسددوا على المرمى سوى خمس مرات فقط!

سحقًا هو لا ينتمي لتلك المدينة الناعمة! هو اعتاد أن يكون مقاتل شوارع للرمق الأخير، اعتاد أن يطالب بحقه وأن يمد يديه إلى أقصى ما يستطيع أن ينتزع من هذا الحق، 48 يدًا كانت تمتد علمته أن يكون سريعًا حاسمًا، يضرب الهواء بقبضة يده ويصرخ ثم ينظر حيث يحتفل لاعبو بورتو مع مدربهم ذي الوجه غير المشهور حينئذ، وجه «جوزيه مورينيهو».

سينتظر إيفرا لمدة عامين آخرين حتى يلتحق بأكثر الأندية تناسبًا مع شخصيته؛ نادي مانشستر يونايتد ولكن ذلك مشهد آخر.


المشهد الرابع: إنجلترا 2011

حتى هذا اليوم، كوني لاعبًا محترفًا للمرة الأولى هو أفضل شعور لدي.

أصبح إيفرا أحد أهم لاعبي العالم في مركز الظهير الأيسر، لقد وجد ضالته أخيرًا في مدينة مانشستر. الأمر له علاقة بالقتال وهو مستعد أن يقاتل من أجل الأمل حتى يدمى، الأمر له علاقة بالأب وهو على استعداد تام أن يركض خلف الكرة دون وعي ككلب شرس إذا أمره أبوه فيرجسون بذلك. فباستثناء كأس فرنسية مع موناكو فتاريخ إيفرا كله في نادي مانشستر، خمس دوريات وثلاثة كؤوس ودوري أبطال أوروبا و 4 كؤوس سوبر.

كانت المباراة في الأنفيلد، مباراة أخرى من مباريات الديربي الإنجليزي المحببة لإيفرا، اقترب منه «لويس سواريز» مهاجم ليفربول والأوروجواي وقال له في أذنه: «يا زنجي».

نظر إيفرا في وجه فيرجسون بعد المباراة وهو على وشك البكاء، لقد احتمل كثيرًا دون جدوى.

نفس ما كان يلاقيه طوال عمره وكان يتجاهل الأمر في كل مرة، يذكر عندما لعب في نادي مارسالا الإيطالي وكانت الجماهير التي تقترب من 20 ألف شخص تصرخ عندما يلمس الكرة مقلدة صوت القرود. نفس ما لاقاه من أبناء لونه عندما قرر اللعب للمنتخب الفرنسي، نعتوه بالقرد الذي يتراقص لإرضاء الرجل الأبيض من أجل الأموال.

حتى في إنجلترا تلك ليست المرة الأولى التي يتعرض للعنصرية فقد فعلها لاعب ليفربول «ستيف فينان» من قبل وهو ما

أكده اثنان من الجماهير قارئي الشفاه

ورفض إيفرا التحدث عن الأمر. وفي أبريل 2008 حدث الأمر مرة أخرى على ملعب ستامفورد بيدج. تلك المرة

قرر فيرجسون

أن الأمر سيتخذ شكلاً رسميًا وتم اتهام سواريز بالعنصرية.

هكذا اكتسب إيفرا شخصيته التي يعشقها الجميع من خلال الإنستجرام، فهو يصيح ويخبط على صدره في حماس لأنه بالفعل تعلم القتال في شوارع باريس الفقيرة ويدعو الجميع للتسامح لأنه عانى من ذلك في الكثير، يدافع عن الإسلام لأنه يعرف أن الأديان لا تدعو أبدًا للعنف، هو يعشق العنف على أرض الملعب فينشر صورة لقدمه متورمة وقد تم نقشها بأربع غرز طبية ثم يعلق تعليقه الثابت: «كم أحب هذه اللعبة».