بين السهول، الهضاب والجبال العالية، وفي حرب ضروس تنشب يوميًا ضد أشعة الشمس الحارقة التي لطالما تنتصر في النهاية، ينبت حلمٌ خالص في قلوب لا تعرف عن الحياة سوى الحياة ذاتها. وبطبيعة فطرية ينشأ العديد من الأطفال داخل الدول الأفريقية، التي يعاني أغلبها من فقر في المأكل والملبس، بطموح يتجدد في كل نهار بأن تنتهي تلك الحالة وأن ينفتح باب المستقبل -ولو للحظات- بالنور.

الأطفال في أفريقيا لا تعرف عن كرة القدم سوى حكايات تروى أمام أعينهم عن عديد من جيرانهم وذويهم رحلوا من بين ضلوع الجوع متأبطين إياها نحو خزائن المجد في أوروبا وفي آسيا وحتى في شمال القارة؛ لذا يتشبث العديد منهم بها كرفيق درب وعد -سابقًا- فأوفى، من أجل خوض رحلة غير مضمونة النتائج ومليئة بالأهداف الصغيرة التي في الغالب تكون: قميصًا لأحد مشاهير اللعبة أو كرة بالية عبرت قارات عدة من أجل الوصول إليهم كهدية، رخيصة في منشئها، وتساوي ذهبًا لديهم.

الكثير من هؤلاء الأطفال في أحد الدول الفقيرة بالقارة، تُعرف باسم ليبيريا، ذهبوا في أغسطس/آب من عام 2018 خلف رئيسهم، الذي يشبههم كثيرًا، نحو مطارهم الرئيسي لاستقبال أحد الأشخاص الذي دائمًا ما كان يُقدم لهم بكونه أحد مفاتيح المستقبل الذي يتطوقون له، ذلك كان الفرنسي «أرسين فينجر»، في صورة تبدو بروتوكولية دبلوماسية إلى درجة بعيدة، لكنها في قرارة أنفسهم كانت أكبر المحاولات للمس عنان الحلم ولو بالأنامل.


هل شاهدت ذلك المشهد من قبل؟

العلاقة بين كل من «جورج ويا»، الرئيس الليبيري الحالي، ومدربه السابق «فينجر» تعود في الأصل القصصي إلى موناكو بفرنسا، حيث انضم اللاعب «ويا» إلى فريق إمارة موناكو بمنطقة «ريفييرا» في النصف الثاني من عام 1988.

يعتبر الجميع تلك النقطة هي مركز القصة ومنها تتفرع الأحداث حتى تصل بكل منهما إلى ما هما فيه الآن. مرورًا بكرة ذهبية للأول وإنجازات لا تُنكر للثاني، لكن بمزيد من التدقيق في التفاصيل يمكن أن نتوقع بأن للقصة أصولاً أعمق ترجع إلى منطقة أخرى في فرنسا، إلى مدينة «ستراسبورج»، حيث وُلد العجوز الفرنسي الذي قاد أرسنال لـ 22 عامًا متتاليًا.


وُلد الطفل

«أرسين»، لأبوين هما «ألفونس فينجر» الأب، والأم «لويز فينجر»، في الـ22 من أكتوبر/تشرين الأول لعام 1949. وبسبب ظروف العمل،

ابتعد الطفل

عن أبيه طوال فترة طفولته تقريبًا مما أثر بالسلب على تكوينه المجتمعي والأسري. عمل الأب كمدرب هاوٍ للفريق المحلي في مدينة «دوتلينهيم» التي تقع شمال شرق فرنسا بالقرب جدًا من الحدود الألمانية، ولكسر حاجز المسافة بينه وبين أسرته،

قرر بعد عدة سنوات

هجرة الأسرة معه بالقرب من مقر عمله، وهنا بدأت علاقة مختلفة بين «ألفونس» و«فينجر» الصغير.

في ذلك الوقت كان فريق «دوتلينهيم» للهواة، الذي يرأسه الأب، معروفًا بأنه أفضل فرق الهواة تقديمًا لكرة القدم في تلك المنطقة، وبعد أن بلغ الصغير عامه الخامس، كرّس والده ساعات من يومه من أجل تطوير مهارة اللعبة لديه،

فحظي الفرنسي

الصغير بفرصة للتعامل مع أبيه عن كثب لكن في صورة المدرب، فرسخت فيه صورة «المدرب الأب» حتى كتابة هذه السطور.

اعتنى بي مثل ابنه، لم أكن أصدق ذلك. عندما كانت العنصرية في ذروتها، أظهر لي الكثير من الحب.





حديث «جورج ويا» عن أبيه الروحي «أرسين فينجر».

سرعان ما

انضم إلى فريق

وبات أحد أهم عناصره، لكن الغريب كان في منعه من الدخول إلى المرحلة المحترفة من اللعبة بناء على طلبٍ من أبيه،

فظل قرابة

15 عامًا في مرحلة الهواة -بشكلٍ اضطراري-، حتى انضم إلى فريق «آيه سي موتزيج» الذي كان يشارك في دوري الدرجة الثالثة من الدوري الفرنسي.

طوال تلك الفترة من اللعب تعلم لعب الكرة لذاتها لا من أجل المال أو كسب الشهرة أو غيرهما. اعتاد أن يعمل في فترات الفراغ، فكان في الأغلب يبيع السجائر لتغطية نفقاته، ليظل حب كرة القدم خالصًا لذاتها، خاليًا من الشوائب.

في تلك الفترة تقريبًا، وفي جانب بعيد تمامًا من العالم، احتفلت عائلة «عثمان ويا» بوصول المولود الجديد «جورج»، بالضبط في عام 1966 ومن نفس شهر أكتوبر/تشرين الأول، داخل أحد الأحياء الفقيرة جدًا من دولة ليبريا.

اضطر ذلك

الصغير أيضًا أن يعيش دون أبيه، الذي كان قد توفي في وقت سابق. لا داعي بالطبع لذكر صعوبات المعيشة التي يمكن أن يراها أحد الأطفال في حي يقوم معظم من فيه على البلطجة والحروب القبلية والعرقية.

بعد أن بلغ «جورج» عامه الـ15

انضم إلى فريق

«يانج سيرفايفر» المحلي، قبل ذلك كان قد سلك الحياة العملية منذ الطفولة بطبيعة الحال في أحياء القارة الفقيرة، ثم لعب لعدة أندية محلية صغيرة قبل أن ينتشله أحد الكشافين الذي يُدعى «كلاود لا روي». كان سعيد الحظ الجديد الذي يصدق معه وعد كرة القدم وينجح في السفر خارج بلاده نحو منطقة أفضل قليلًا في الكاميرون، لينضم لصفوف فريق «ياوند سايد».

كان «لا روي» مؤمنًا جدًا بقدرات موكله الجديد، فلم يتأخر في

إرسال تقارير

حوله إلى أحد الأندية في أوروبا، ليتفاجأ بوصول مدرب الفريق بنفسه ليلقي نظرة عن كثب على اللاعب. المدرب كان «فينجر» الذي كان يتولى وقتها تدريب فريق موناكو. ما حدث بعد ذلك مباشرة يُسمى: التاريخ.


لماذا يحب «فينجر» الأفارقة؟


مرت السنون بشيء من السرعة، وانفصل عمل «فينجر» وطفله الأسمر «ويّا». ليبدأ كل منهما رحلة جديدة في أرضٍ مختلفة لم ينسَ فيها أي منهما ما قد تعلمه في الأيام الأُوَل. الواضح الجلي كان تأثير العجوز الفرنسي على الأفريقي الطموح والواعد، ذلك ما ظهر في كل تصريحات الأخير في كل المنابر منذ البداية وحتى وصل إلى المقعد الأعلى في بلاده، لكن التأثير العكسي كان خفيًا قليلًا، وهو كيف تأثرت مسيرة «أرسين» -نفسه- بفترته رفقة الشاب الليبيري؟

في أحد اللقاءات الصحفية للمدير الفني لأرسنال، المنصب الذي اعتلاه المدرب المخضرم بعد أن رحل من موناكو، تحدث عن علاقته بكل لاعب أفريقي سبق وأن عمل معه خلال رحلته. أكد أن للجميع منهم تأثيرًا واضحًا عليه وعلى شخصيته وقراراته التدريبية. يعود الدليل في ذلك إلى عام 1996، الموسم الأول لذلك الغريب عن الملاعب الإنجليزية داخل معقل «هايبري»، في ذلك الوقت كان عداد اللاعبين الأفارقة داخل النادي اللندني يُشير بالرقم صفر، ومن هنا جاء دور المدرب الجديد.

قبل شهور من اعتلائه لمنصب المدير الفني للـ«جانرز»، كان قد

تعرف على

«كريستوفر رايه»، المهاجم الليبيري وأحد أقارب «جورج ويّا» الذي انضم سابقًا لموناكو بناء على طلب المدرب ذاته. وفور تعيين «فينجر» في المنصب بلندن،

سارع في انضمام

ابنه الجديد «رايه» ليكون الأفريقي الأول داخل النادي الإنجليزي، ومنها بدأت رحلة طويلة لأبناء تلك القارة داخل النادي اللندني، بل داخل إنجلترا بالكامل.

«أرسين فينجر»

متحدثًا

عن فرصه المتكررة للاعبين الأفارقة.

لم

يمتلك أي فريق

من الخماسي الكبير في المملكة أي لاعب إفريقي في قوامه للفريق الأول، كان ذلك يعود لأسباب عديدة منها عنصري ومنها لمعلومات مغلوطة عن تلك النوعية من اللاعبين. يمكن الشك في أن الأب الروحي للأفارقة في أوروبا كان لديه نفس الرؤية من قبل، وهو ما يجب أن يدرج تحت تأثير علاقته بـ«ويا» بشكلٍ عكسي.

فبعد أن ضم «كريستوفر» لم يتوقف الأمر عند ذلك الحد، بل بدأت رحلته في التعرف على العديد من الأقارب وذوي لاعبيه وكوّن شبكة من العلاقات داخل القارة السمراء تطورت أكثر لتصبح شبكة تعاقدات مُغرية لأي لاعب للوقوع فيها ولأي نادٍ لتقليدها من جديد.

المعروف عن الفرنسي أنه كان يحسن اختيار العناصر الممتازة بأبخس الأسعار الممكنة، ولا يمكن إهمال آلته التعاقدية، التي أشرف على بناء كل إنش فيها، من تلك المهمة.

بُني فريق كشافي

الأرسنال من 12 عنصرًا داخل المملكة فقط، تكوين كان سريًا إلى حد بعيد للحفاظ على عناصرهم قدر المستطاع واكتشافها في طور التكوين لا طور الانفجار، ومن ثم تشعب ذلك الفريق في كل مكان في العالم ولا سيما داخل القارة الأفريقية.

لقد

أخبر فينجر

يومًا ما «يوروسبورت» أنه يعتقد أن اللاعبين من هذا الجزء في العالم يستفيدون من ميزتين رئيسيتين: الرياضة والقوة الطبيعية، والتعلم الخالص لشئون كرة القدم الذي يتم في الأكاديميات هناك.


ثورة ضد العنصرية على الأفارقة

من الوهلة الأولى له بالنادي أثبت ذلك المدير الفني أنه قادر على قلب العديد من الحقائق التي ظُن أنها مثبتة، النمط الجامد للكرة الإنجليزية غير الممتعة قد انهار أمام فريق أرسنال منذ نهاية التسعينيات، ومن بعدها استمرت ثورات «فينجر» على الثوابت هناك حتى دمر العديد منها تباعًا.

كان أحد أهمها هو المعلومات الراسخة عن اللاعب الأفريقي بأنه مجرد جسد قوي بلا عقل، يمكن استخدامه كمدافع صريح أو خط وسط دفاعي كأفضل تقدير. لكن على صخرة «نوانكو كانو» قد حُطم كل ذلك. أخرج فريق الشباب النيجيري موهبة كبيرة في مركز رأس الحربة.

كان شابًا طويل القامة ومليئًا بالطموح والموهبة، نجح في قيادة منتخب بلاده لذهبية الأولمبياد وللفوز بكأس العالم للناشئين تحت 17 عامًا. جذب بذلك أنظار كشافي فريق إنتر ميلان، فذهب للكشف الطبي هناك والذي

كشف بشكلٍ

مؤكد أن اللاعب لديه مشكلة في القلب. في الغالب تعود تلك الأمراض للطبيعة الصعبة التي تربى خلالها هؤلاء اللاعبون وقت أن كانوا أطفالًا.

وأد ذلك المرض فرصه للذهاب نحو إيطاليا،

فكانت اللحظة

الأفضل للمدرب الفرنسي من أجل قنص لاعب شاب موهوب بسعر لا يقارن. آمن به وانتظره حتى أنهى العملية الجراحية، وجنيا سويًا ثمار تلك العلاقة بأن تغيرت الصورة عن اللاعب الأفريقي تمامًا، وباتت الفرصة سانحة لرؤية أمثال «دروجبا» و«إيتو» و«مروان الشماخ» وغيرهم في مواضع كبيرة في أوروبا وحول العالم.


الكشف عن الذهب الأسود

هل يمكنك تسمية سائق «فورمولا وان» من إحدى الدول الأفريقية، باستثناء جنوب أفريقيا؟ وهل يمكنك أن تتخيل حقيقة أنه لا يوجد شخص واحد في أفريقيا لديه موهبة ليكون بارعًا في هذه الرياضة؟ لماذا ليسوا هناك؟ لأن أحدًا لم يعطهم فرصة.

تلك الأكاديميات لإخراج المواهب في القارة الأفريقية كانت خلية نحل في طريقة عملها. تبحث عن اللاعبين داخل كل موضع ناءٍ في بلادهم الفقيرة، على أمل إيجاد موهبة تجلب لهم بعض المال من بيعه خارجًا، وبالنسبة للمدرب الفرنسي فقد كانت مصدرًا للعسل النقي غير المكلف بالمرة، ولم يتوانَ في التواجد هناك بين حين وآخر كلما وصلته معلومات عن لاعب واعد.

بعد بقائه داخل معقل «هايبري» العظيم ومن بعده إستاد الإمارات لمدة تخطت العقدين، انتهت فترته بعداد يُشير إلى 16 لاعبًا يحمل الأصول والجنسيات الأفريقية، في غير ذلك الكثير ممن هم بأصول أفريقية لكن بجنسيات أخرى على رأسهم «فييرا» و«هنري» بكل تأكيد. كلما كان يُعلن عن اسم جديد ينضم لصفوف النادي الإنجليزي قادمًا من بين جنبات خط الاستواء، كان يُشار إلى إضاءة جديدة في طريق مستقبل هؤلاء الأطفال.


استيقظ أحد الأطفال في أكاديمية لتطوير المواهب من مدينة «أبيدجان» بدولة كوت ديفوار على أحاديث متناثرة عن قدوم «أرسين فينجر» بذاته إلى أكاديميتهم من أجل معرفته بوجود عناصر جيدة بداخلها. كانت تلك الأكاديمية تابعة لـ«جو ماجويل»، أحد أصدقاء الفرنسي دون شك. المفزع بالنسبة لهم لم يكن في قدومه وحسب، بل في أنه من الممكن أن يثق ذلك الشخص تحديدًا في أن من بينهم من يستطيع أن يلعب لأرسنال ذات يوم.

بعد ذلك بساعات اكتشف ذلك الطفل أنه ذلك العنصر الذي قد جاء العجوز من أجله، ذلك الطفل كان «حبيب كولو توريه»، الشقيق الأكبر لـ«يايا توريه» وأحد أفضل المدافعين الأفارقة الذين وصلوا إلى إنجلترا وأوروبا. ذلك الانتقال فتح الباب لـ«يايا» فيما بعد، وليس هو فقط، بل أن كل انتقال بهذا الشكل كان يُحرك في نفوس الصبية هناك شيئًا لا يُقدر بثمن.

كان «أرسين» هو مصباح الخيال الذي ينتشلهم من واقعهم المرير المظلم، كان الوعد الفلسفي بانتصار الخير في نهاية المطاف، الحلم الذي يرجونه كل ليلة في أن ينتهي تعبهم بنجاح تبكي من أجله أعينهم. ما زرعه الفرنسي هناك كان أكبر من نجاح ما يقارب 20 لاعبًا من خلفهم 20 أسرة وأكثر، إنما هو زراعة لفكرة تدب الحياة فيهم، أن هناك فوق كل هذا العبث من حولهم يوجد «أرسين فينجر».