التاريخ: 18/12/2019.

الزمان: عقب انتهاء الكلاسيكو مباشرة.

المكان: الفيسبوك، حيث عدد لا بأس به من الجماهير يرى أن رأسية «كريستيانو» في مرمى سامبدوريا قد خطفت الأنظار من كلاسيكو الأرض. مارس «رونالدو» إحدى هواياته المعتادة بتحدي الجاذبية والتحليق عاليًا على

ارتفاع 2.5 مترًا تقريبًا

، والوقوف في الهواء ثم وضع الكرة برأسه في المرمى، مع مراعاة الهبوط سليمًا، وهذه جزئية تستحق الإشادة أيضًا.

لعلك الآن ذهبت لمشاهدة الهدف مرة أخرى، ثم تماديت بخيالك بعيدًا لتخيل «رونالدو» يقفز هكذا بقميص ريال مدريد على ملعب الكامب نو.

بالطبع، يبدو الحديث غير منطقي بل مفرط بالمبالغة، حيث لا يمكن للقطة مهما كانت روعتها أن تسحب البساط من المباراة الأهم بأجندة المتابعين، لكن الحقيقة أن الشغف بالكلاسيكو لم يعد كما كان. ليس لأنه

أول كلاسيكو من 17 عامًا

ينتهي بالتعادل السلبي، لكن لأنه لم يعد يمنحنا مثل هذه اللقطات، وكأنها موضة وانقضت.


لماذا الكلاسيكو؟

تتوقف مشاهدة مباراة برشلونة وريال مدريد لدى كثير منا على أرض الميدان، لكن في الحقيقة هنالك أبعاد أكثر أهمية تحدث خارجه. هذا الكلاسيكو مثلاً كان من المفترض إقامته في

26 أكتوبر/تشرين الأول الماضي

، لكن تم تأجيله لدواعٍ أمنية بسبب المظاهرات بمقاطعة كتالونيا.

تمت الدعوة لهذه المظاهرات بواسطة حركة «تسونامي الديمقراطية» «

Democratic Tsunami

» اعتراضًا على سجن 9 من كبار القادة السياسيين الكتالونيين، بسبب دورهم البارز في تنظيم

استفتاء عام 2017

، الداعي لانفصال المقاطعة عن إسبانيا. دُعيَ للمظاهرات مرة أخرى في موعد المباراة الجديد في عدة أماكن حول ملعب الكامب نو، وقبل بداية اللقاء بـ 4 ساعات، لكن هذه المرة، تم تعزيز الاستعدادات الأمنية حرصًا على إقامة اللقاء.

بالطبع، هذه الأجواء المشحونة لا تعني المشجعين العرب أو المشجعين من خارج الإقليم، لكن هذا لا يلغي وجودها أو تأثيرها. فالكلاسيكو الإسباني لا يمثل منافسة كروية فقط، بل يمثل صراعًا بين هوية كلا الطرفين.

جذور الصراع كانت قد بدأت مع انقلاب «الجنرال فرانكو» في

ثلاثينيات القرن الماضي

. حيث انقسمت البلاد إلى جزئين: مؤيد ومعارض، وكان إقليم كتالونيا مركز المعارضة، ومدينة برشلونة مركزًا لاستقبال المتطوعين للانضمام لهم، مما عرض الإقليم للقصف الجوي المتواصل لـ 3 أيام، والذي طال أيضًا ملعب الكامب نو.

وكعادة جنرالات هذه الفترة، كانت كرة القدم وسيلة جيدة للترويج لهم، وكان

نادي ريال مدريد هو أداة «فرانكو»

. كانت الهزيمة الشهيرة لبرشلونة أمام ريال مدريد في

إياب كأس الملك عام 1943

إحدى أشهر الدلالات على ذلك. عدما فاز ريال مدريد 11-1 رغم هزيمته في الذهاب بثلاثية نظيفة، بفضل تهديد لاعبي برشلونة بواسطة أحد رجالات الجنرال.

ومع مرور الوقت وفي كل مرة يمتلئ الكامب نو بالأعلام الملونة بالأحمر والأصفر، أو يهتز السانتياجو برنابيو بهتافات «تحيا إسبانيا – Viva Espana» – يذكر الجميع أنفسهم بهذه الذكريات آملين في شحذ همم لاعبيهم.

حاضر جديد

في تصريح سابق للسير «

بوبي روبسون

»، مدرب برشلونة في موسم 1996/1997 – كان قد شبه النادي بجيش كتالونيا. لوهلة تشعر أن هذه مبالغة، لكن هذا الرجل إنجليزي وليس إسبانيًا، وفي موسم واحد فقط اكتشف هذه الأجواء الغريبة.

لكن كلاسيكو الذهاب من موسم 2019/2020 قدم لنا صورة مغايرة تمامًا: مباراة عادية على أرض الملعب، بإمكانك تجاوز ما يحدث فيها فنيًا بسبب عبقرية «إرنستو فالفيردي» المعتادة، والتركيز على لقطات أخرى. أبرز هذه اللقطات كانت ضحكات «سيرجيو بوسكيتس» مع لاعبي مدريد بين شوطي المباراة، والتي ارتبطت في ذهني مباشرة بتعليق سابق لـ«روي كين».

ففي مباراة ليفربول ومانشستر يونايتد، كان «كين» حاضرًا بإستديو قناة «

سكاي سبورتس

» وعبر عن اشمئزازه من لقطات الود والأحضان بين لاعبي الفريقين قبل ضربة البداية.

كابتن مانشستر يونايتد الأسبق كان معروفًا بعدوانيته واندفاعه، ولا يمكن وصف ردود أفعاله سوى بالعنف، لكن تخيله للحظة وهو يعيش أجواء المظاهرات الكتالونية، والشعور بالاضطهاد والقمع، ثم يرى أحد الحرس القديم – بوسكيتس – غير مبالٍ بما يحدث، وغير قادر على مجاراة شعور جماهيره ولو ظاهريًا.


ليس من المفترض أن ينهال اللاعبون على بعضهم بالضرب، لكن هل رأيت في الملعب حماسًا يعبر عن كل ما سردته عن تاريخ كتالونيا ورمزية النادي؟ الأجواء المضطربة، هتافات الاستقلال، الاحتجاج برمي الكرات الصفراء، كل هذا لم يؤثر على المباراة ولم يعطها ذرة حماس زائدة، للدرجة التي جعلت قفزة رونالدو تخطف الأجواء.

قد تكون هذه لقطة واحدة لا يمكن القياس عليها، لكنها استكمال لسلسلة متراجعة المستوى من الكلاسيكو، لأنه وعلى ما يبدو أن الفترة التي بلغ فيها الصراع ذروته بين عامي 2010 و2013، جعلت المشاهدين يرتبطون بالكلاسيكو عبر أفراد -لاعبين أو مدربين- ساهموا برفع مستوى التنافسية بين الفريقين في فترة معنية، ومع زوالهم سيذهب الجميع لمتابعة مباراة أخرى، وبالصدفة هذه المباراة جاهزة بالفعل.

موضة جديدة

كما نوهنا من قبل، فنحن لسنا من مدريد أو كتالونيا لنعبأ بما يدور حول الكلاسيكو خارج الملعب، لذا سنتناوله من منظور كروي خالص. فالفترة التي بلغ فيها الكلاسيكو ذروته، كانت الفترة التي تصدر فيها الفريقان المشهد تكتيكيًا عبر جوزيه مورينيو، وبيب جوارديولا.

حينها كان برشلونة يجني ثمار قرار شجاع من عرابه «يوهان كرويف» بتعيين أحد تلامذته على رأس القيادة الفنية، ومع امتلاك الأدوات المناسبة، قدم برشلونة كرته المميزة التي لاقت استحسان جماهيره الراغبة بالتميز عن إسبانيا.

على الجانب الآخر، كان النادي الملكي مستمرًا في فلسفته التي سماها الصحفي «

أدم باتي

» بفلسفة الفوز، والتي تقضي بأن عناصر الخطة أهم من الخطة نفسها، وعليه يسعى النادي للحصول على أفضل مدرب، وأفضل لاعب وأفضل مهاجم وهكذا «A Galactico mentality for the Galactico club».


ومع وجود الأفضل، أصبح الفريقان يقدمان الكرة الأفضل، ولم ينافسهما سوى دورتموند-كلوب، وبايرن-هاينكس. حاول أن تعيد شريط هذه الفترة في ذاكرتك، وتذكر شكل المقاهي والمشاحنات بين الأصدقاء، كانت كرة القدم بأكملها تدور حول الكلاسيكو.

أما الآن، أصبح كلا الفريقين «outdated» أو قديم الطراز. لم يعد ريال مدريد يمتلك الأفضل، ولا برشلونة يقدم نفس الكرة. وفي المقابل، بدأت أندية أخرى تخطف الأضواء، تحديدًا ليفربول ومانشستر سيتي.

أشار تقرير بموقع «

Statsbomb

» للتحليل والإحصائيات إلى ذلك الأمر، موضحًا قدرة الأندية صاحبة نظم الضغط العدوانية والمعقدة على خطف الأنظار، مع الإشارة إلى توخيل وجوارديولا وكلوب و أياكس-تين هاج وأندية شركة «ريد بول».

قارن التقرير بين معدلات الضغط التي يقوم بها لاعبو وسط وهجوم ليفربول والسيتي، بنظيرها للاعبي ريال مدريد وبرشلونة. بالنسبة لخط الوسط، كانت الأرقام متشابهة للفرق الأربعة وتتراوح بين 15-19 محاولة ضغط «pressure events». أما بالنسبة للاعبي الخط الأمامي: مانشستر سيتي (18 محاولة ضغط للمباراة الواحدة)، ليفربول (20)، ريال مدريد (9)، برشلونة (11). وبناءً عليه كان خط الضغط لقطبي إسبانيا متراجعًا.

بالطبع فإن اختلاف المدارس التدريبية والأفكار هو أهم ما يميز اللعبة، لذلك اقتصار المتعة على من يضغط من الأمام أو من يلعب بشكل معين لا يعد أمرًا صحيًا، لكن ضع في اعتبارك أن الأذواق دائمًا تخضع للمؤثرات الخارجية، وإيقاع الحياة السريع قد يجعل المشاهدين أكثر ميلاً لذلك الشكل البدني الحاد من كرة القدم.

الأرقام السابقة تدعم بشدة ما نراه على أرض الواقع، حيث بات إيقاع مباراة ليفربول ومانشستر سيتي أسرع وأكثر إثارة للمشجعين والمحللين، والأهم أنها تؤكد ريادة كلا الفريقين تكتيكيًا، كما كان قطبا إسبانيا فيما مضى. ليبقى السؤال الأهم مطروحًا: لو استمر كلاسيكو إسبانيا على هذا النسق، وشاءت الأقدار أن يتعارض موعده مع مباراة ليفربول ومانشستر سيتي، ستشاهد أيهما؟ ثم تخيل سخريتك من نفس السؤال لو كان طُرِح عليك منذ 7 سنوات، وتذكر أننا لم نتحدث أبدًا عن شكل الكلاسيكو بعد ميسي.