تختلف قصة عنترة في المخيلة الشعبية، عنها في كتب التاريخ، لكن يجتمع الاثنان على عنترة الذي ولد لأمة حبشية، فاستعبده أبوه ولم يعده ولده، وذاق بذلك شظف العيش ومرارة الجوع، وكان ذلك يقتل عنترة كل يوم، ومنذ طفولته أقسم أنه سيتحرر من تلك العبودية، أخبره الجميع بأنه لا مفر، وأن العبد يظل عبدًا طوال حياته، لكن عنترة لم يرَ نفسه كذلك، وقرر أنه سينهي ذلك يومًا ما.

على بعد آلاف الأميال من الموضع الذي عاش فيه عنترة، ولد روميلو لوكاكو صاحب الحكاية اليوم، في أنتويرب ببلجيكا تحديدًا، لأب وأم كونغوليين، والده كان لاعب كرة قدم متوسط، وفي نهاية مسيرته، وقضى فترة في السجن يقضي عقوبة، وهو ما صبغ طفولته بالأسى والفقر.

قضى لوكاكو الكثير من الليالي جوار أمه وأخيه في الظلام يبكون، حينها قرر روميلو أن حياتهم هذه لابد أن تتغير، وأنه سينتزع ذلك بنفسه، ووعد أمه أنه سينهي كل ذلك.

يتحدث البعض عن الصلابة الذهنية. لقد جعلتني هذه الأيام أقوى رجل ذهنيًا ستراه في حياتك





روميلو لوكاكو

خُلِقتُ مِنَ الجِبالِ أَشَدَّ قَلب                 وَقَد تَفنى الجِبالُ وَلَستُ أَفنى





عنترة بن شداد

كانت كرة القدم هي الطريق الذي اختاره لوكاكو للخروج من تلك الظروف، وأعلن أمام الجميع أنه سيصير أفضل لاعب في بلجيكا بأكملها. ليس من الأفضل، بل الأفضل، وبينما قطع الطريق نحو الوفاء بوعده والكرة في قدمه قطعه عنترة بسيفه في يده.

سأذهب إلى ديديه

لعب لوكاكو كرة القدم لأول مرة في النوادي المحلية قرب محل سكنه. سجل 76 هدفًا في 34 مباراة فقط عندما كان في سن الـ 12، وذاع صيته، حيث كسر كل الأرقام القياسية الممكنة في مراحل الناشئين، واستمر في ناشئي أندرلخت حتى عمر الـ 16، حتى رن هاتفه في يوم لن ينساه روميلو أبدًا:

-روميلو، أين أنت؟

_ذاهب للعب الكرة في الحديقة.

-اترك هذا الآن، احمل حقيبتك وتعالَ فورًا، الفريق الأول يحتاجك.

كان ذلك قبل مباراة الإياب الفاصلة بين أندرلخت وستاندار ليج على الدوري البلجيكي عام 2009. حصل لوكاكو على مباراته الاحترافية الأولى يومها بالفعل، وإن لم تكن الظروف مواتية في ذلك اليوم تمامًا، حيث دخل لوكاكو الملعب في الدقيقة 63، لكن لم يستطع تغيير خسارة أندرلخت.

لم يترك لوكاكو انطباعًا أوليًا جيدًا في ذلك اليوم، لكن مواسمه التالية كانت كافية لإزالة ذلك الانطباع، حيث سجل لوكاكو 32 هدفًا في موسمين، قادهما لتحقيق الدوري، وحقق لقب الهداف، وشارك في دوري الأبطال للمرة الأولى.

جذب ذلك إليه أنظار كبار أوروبا بشدة، ووصلت عدة عروض لأندرلخت، لكن قرار لوكاكو كان محسومًا، سينتقل إلى تشيلسي حيث يلعب قدوته الذي يعشقه منذ كان في مارسيليا: ديديه دروجبا.

في مدينة الضباب

حذر الكثيرون لوكاكو من رحلته نحو تشيلسي، ما زال سنه صغيرًا ولم يخرج خارج بلجيكا قبل الآن. تشيلسي كان مدججًا بالنجوم في ذلك الوقت على رأسهم دروجبا نفسه، ولن يكون بإمكانه أن ينتزع مكانًا أساسيا بسهولة.

لم يحظَ لوكاكو بالكثير من الفرص للعب في تشيلسي بالفعل، لكن تعلم هذه الفترة فيها لوكاكو ما يعنيه أن تكون لاعب كرة قدم محترف، وزامل قدوته في غرفة واحدة، لكن إدارة تشيلسي قررت إرساله معارًا إلى وست بروميتش البيون، ليشارك أكثر ويكتسب الخبرة.

شارك لوكاكو أساسيًا رفقة وست بروميتش في موسم 2012-2013، وتألق معهم حيث سجل 17 هدفًا، وصنع 4، وقدم نفسه بصورة رائعة للجماهير الإنجليزية.

عاد لتشيلسي عقب الإعارة، لكنه لم يجد مكانًا هذه المرة أيضًا، شارك في عدة دقائق فقط في مباراة السوبر وأهدر ركلة جزاء حرمت الفريق من اللقب، ليخرج بعد ذلك في إعارة لإيفرتون قبل غلق سوق الانتقالات بدقائق.

في موسمه الأول، شارك رفقة إيفرتون في 24 هدفًا، وظهر بشكل رائع، وهو ما دفع إدارة إيفرتون للتفاوض مع تشيلسي للحصول عليه بشكل دائم بعد انتهاء الإعارة، وقد قبلت إدارة تشيلسي وانتقل إليهم نظير 28 مليون يورو.


شكلت فترة إيفرتون لوكاكو كلاعب كرة قدم، وقدمته بشكل رائع كواحد من أفضل مهاجمي العالم، حيث شارك لوكاكو كمهاجم وحيد، لكن بحرية كبيرة في التحرك للأطراف والمشاركة في بناء اللعب.


طبقًا لجوناثان ويلسون -كبير محرري الجارديان

، فإن لوكاكو يعطي انطباعًا خاطئًا في البداية بأنه مهاجم كلاسيكي، يجيد الحفاظ على الكرة والفوز بالالتحامات، وقوته الجسدية والبدنية تؤكد ذلك الانطباع، ولوكاكو وإن كان يجيد ذلك لكنها ليست نقطة قوته الأساسية.

لوكاكو يبرع كمهاجم سريع، يجيد اللعب على الأطراف، قدراته في التمرير جيدة، وكذلك في الإنهاء، يجيد الانطلاق بالكرة والمراوغة، وكذلك يجيد التحرك داخل المنطقة واللعب بكلتا القدمين.

تطور لوكاكو كثيرًا في فترة إيفرتون، حتى صارت له طرق مشهورة في التسجيل والمراوغة، باتت كعلامة مسجلة باسمه، يشرح أحدها في هذا الفيديو مع جيمي كاراجر.


سجل لوكاكو مع إيفرتون 87 هدفًا وصنع 29، وقدم نفسه لإنجلترا كواحد من هدافي البطولة، وعاد كبار أوروبا مرة أخرى لمحاولة استقطابه من جديد، وعلى رأسهم تشيلسي نفسه، لكن وقع اختيار روميلو على مانشستر يونايتد.

خطوة للخلف

بداية لوكاكو مع اليونايتد كانت جيدة، لكن حاول مورينيو أن يستخدم لوكاكو في الدور الذي لا يجيده بشكل كامل، وهو العمل كمحطة للحفاظ على الكرة حتى يصعد الفريق للأمام، والدخول في صراعات هوائية مع المدافعين للاستحواذ على الكرة، وهو ما حد من انطلاقات لوكاكو وحصره في أدوار لا يحسنها.

دور لوكاكو الجديد جعله ينهي موسمه الأول بـ7 أسيستات، وهو الرقم الأعلى في مسيرته حتى ذلك الوقت، وفي الوقت نفسه سجل قدرًا جيدًا من الأهداف بلغ 16 هدفًا من أصل 15.1 هدفًا متوقعًا.

تزامن ذلك أيضًا مع نمو الكتلة العضلية للوكاكو بشكل ملفت، وهو ما أثر على رشاقته و مرونته، كما عانى خلال تلك الفترة من انتقاد جمهور اليونايتد المستمر، كان يواجه الانتقادات مع كل إخفاق دون أن يكون الشخص الأسوأ.

كنت أفتقد القوة الداخلية لدفع زملائي والفريق للأمام، ولم أكن موجودًا عندما احتاجوا إلي كما تعودت، لكن ربما كنت بحاجة إلى المرور بهذه التجربة المؤلمة لأتطور وأصبح أفضل.



لوكاكو، في حواره مع مجلة vogue

كنت أفتقد القوة الداخلية لدفع زملائي والفريق للأمام، ولم أكن موجودًا عندما احتاجوا إلي كما تعودت، لكن ربما كنت بحاجة إلى المرور بهذه التجربة المؤلمة لأتطور وأصبح أفضل.






لوكاكو، في حواره مع مجلة Vogue


رغم أنها لم تكن فترة جيدة بالنسبة للوكاكو، فإنه ساهم مع اليونايتد في 55 هدفًا في 96 مباراة، وهي حصيلة جيدة لفترة يعتبرها غير موفقة، ومجرد خطوة للخلف، ساعدته في أن تكون خطواته التالية أفضل، حيث كان الاختيار هذه المرة نحو إيطاليا.

محطة سعيدة

كانت هذه لحظة مناسبة تمامًا للوكاكو ليذهب إلى إيطاليا، حيث يتميز الدوري هناك منذ فترة بأنه بيئة مناسبة للتطور، يتواجد العديد من المدربين أصحاب العقول التكتيكية المتميزة، كما يخضع اللاعبون لتدريبات شاقة ومكثفة لا تقارن بتدريبات إنجلترا الأسهل

على حد تعبير لوكاكو

.

بداية لوكاكو في إيطاليا تأثرت ببعض العقبات، استغرق وقتًا للتكيف مع الأجواء، وفهم كونتي، وكذلك واجه بعض المشاكل مع عنصرية الجمهور هناك.

رحلة لوكاكو مع العنصرية ممتدة كذلك، منذ طفولته وفي بلجيكا وحتى بعد ما صار لاعبًا في المنتخب الوطني، ما زالت نظرة الناس هناك لم تتغير.

لقد تعودت على ذلك، حين نفوز فأنا روميلو لوكاكو المهاجم البلجيكي، حين نتعثر، فأنا المهاجم من أصل كونغولي.






لوكاكو


ينادونني في السلم يا ابن زبيبة وعند صدام الخيل يا ابن الأطايب





عنترة بن شداد

نعود إلى إنتر، حيث تخطى لوكاكو كل العقبات سريعًا، وفي موسمه الأول حقق أرقامًا رائعة، وسجل مع الفريق 34 هدفًا متخطيًا الأسطورة البرازيلية رونالدو في مواسمهم الأولى مع إنتر، وقادت أهدافه الفريق إلى المركز الثاني ونهائي الدوري الأوروبي في ذلك الموسم.


في الموسمين اللذين تواجد بهما لوكاكو مع كونتي، ظهر بشكل مغاير تمامًا، خسر وزنه وعضلاته، وتطور في عملية الاستلام والاحتفاظ بالكرة تحت ضغط، وتحسنت لمسته الأولى كثيرًا، كما ساعدت ثنائيته الهجومية مع لاوتارو مارتينيز في منحه فرصة أكبر للمشاركة في اللعب وتطوير الهجمات.


تزامن ذلك مع تحريره من الواجبات الدفاعية، وتركه كمحطة أمامية لشن المرتدات، ويظهر ذلك من معدل لوكاكو المنخفض في الضغط بـ9.1 مرة لكل 90 دقيقة وهو أقل مما حققه شريكه لوتارو مارتينيز 16.8، وزميله الجديد فيرنر 13.1.

كما زادت أرقامه بشكل واضح في عملية التقدم بالكرة سواء بحملها والتقدم بها أو التمرير، ويحتل لوكاكو مكانًا بارزًا كواحد من أفضل لاعبي أوروبا في هذا الجانب.

زيادة أرقام لوكاكو في عملية التقدم بالكرة
زيادة أرقام لوكاكو في عملية التقدم بالكرة

لوكاكو كذلك يشارك في البناء بشكل كبير، وهو في مكانة متقدمة بين لاعبي أوروبا في معدل الـ xg build up، والذي يعني مساهمته في تسلسل الهجمات التي انتهت بتسديدة على المرمى.

معدل الـ xg build up للاعب لوكاكو
معدل الـ xg build up للاعب لوكاكو

كل ذلك في الوقت الذي حقق فيه لوكاكو معدلات تهديفية ممتازة، سجل في الموسم الأول بالدوري الإيطالي 23 هدفًا من أصل 20 متوقعة، وفي الموسم الثاني 24 من أصل 22.7 متوقعة وقدم 11 أسيست من أصل 7.8 متوقعة.

في موسمه الثاني قاد لوكاكو الإنتر نحو لقب السكوديتو الغائب منذ 11 عامًا، وصار بذلك البطل المفضل في مدينة ميلان، وخصوصًا في شقها الأزرق، الذي لم يهنأ طويلًا بفريق كونتي، وأجبرتهم الحسابات المالية على تفكيكه، رحل كونتي، وتبعه حكيمي، وجاء الدور على لوكاكو.

لم يتأثر لوكاكو بأفعال العنصرية في إيطاليا كثيرًا، كما لم يفعل في بلجيكا أيضًا، وكان رده في المرتين هو أداؤه في الملعب فقط، فاز بأفضل لاعب في الدوري الإيطالي، وأصبح الهداف التاريخي للمنتخب البلجيكي.


أو أنكرت فرسان عبس نسبتي      فسنان رمحي والحسام يقر لي





عنترة بن شداد

على مشارف الثلاثين

لوكاكو في الـ28 من عمره الآن، ويرى البعض أن ذلك يبدو عمرًا كبيرًا لا تحبذ الأندية الاستثمار فيه، لكن «مايك كالي» محرر espn يرى الأمر بشكل مختلف.


طبقًا لكالي فإن العمر يظل عاملًا حاسمًا

في قرارات الأندية للتعاقد، لكن القرار يعتمد على عدة أمور، حيث يختلف السن الذي يبدأ عنده انخفاض المستوى طبقًا لمركز اللاعب في الملعب وقدراته البدنية وعدة أمور أخرى.

لكنه كذلك من الملاحظ أن هناك مهارات تنمو مع السن ولا تندثر، من بينها التهديف، حيث تزداد خبرة اللاعب ويزداد هدوءه في الإنهاء أمام المرمى، ولذلك فإن الهدافين يستمرون لفترة أطول محافظين على معدلاتهم التهديفية حتى لو انخفضت معدلاتهم البدنية، كما نرى مع كريستيانو رونالدو وزلاتان إبراهيموفيتش على سبيل المثال.

والخيل تعلم والفوارس أنني      شيخ الحروب وكهلها وفتاها

وأنا المنية وابن كل منية         وسواد جلدي ثوبها ورداها





عنترة بن شداد

عمل لم ينتهِ

في أحد الأيام أغارت إحدى القبائل على عبس قبيلة عنترة، وأوشكت عبس أن تنهزم أمامهم، وأقبلوا على عنترة يدعونه ليخرج ويقاتل معهم، فأبى لأنه عبد ولا دخل له بالقتال، فقال له أبوه، «كر وأنت حر» فحمل عنترة سيفه وخرج فقاتل وعادل الكفة لصالح قبيلته، وعادت له حريته ووفى بوعده.

كانت محطة لوكاكو القادمة، في تشيلسي مرة أخرى، حيث طلب توخيل مدرب الفريق من الإدارة التعاقد معه، ورأى فيه القطعة الناقصة لفريقه الذي صنعه وحصد به دوري أبطال أوروبا مؤخرًا، ودفعت إدارة تشيلسي لاستقطابه 115 مليون يورو، جعلته بهم اللاعب صاحب أعلى قيمة للانتقالات في التاريخ متفوقًا على نيمار وكريستيانو رونالدو.


عاد لوكاكو لستامفورد بريدج هذه المرة لكن ليس هو نفسه الفتى الذي دخل إلى هناك منذ 10 سنوات، لقد قطع لوكاكو طريقًا طويلًا منذ هذا اليوم وحقق ما أراد بسنان رمحه دون مساعدة، وهو الآن واحد من أفضل مهاجمي العالم إن لم يكن الأفضل، وقد حقق وعده لأمه كذلك.

على الأغلب لم يقرأ لوكاكو سيرة عنتره ولم تصله معلقته، لكن ربما لو فعل لرأى نفسه فيه، ولصارا صديقين بغير اتفاق الزمان ولا المكان، صديقين في تشابه البداية وفي وعد قطعاه ورحلة طويلة حتى حققا ما تمنياه.