يعتبر كتاب «إيران: الثورة الخفية» للباحث الفرنسي تييري كوفيل، واحدًا من أهم الدراسات التي ترجمت إلى العربية عن إيران. ليس هذا لما يتمتع به الكتاب من مادة ثرية جمعها الباحث الفرنسي الذي كرّس جهده لدراسة إيران كنموذج للاقتصادات النفطية، وصدر له عنها عملان قبل هذا الكتاب، وإنما أيضا للأطروحة التي يقدمها الكتاب، والتي تساعدنا على استيعاب بنية ذلك البلد المعقّدة.

يرى كوفيل أن إيران الحديثة تطفو على بحر عميق من المظالم والمشكلات الاجتماعية/الاقتصادية التي تمثل الوقود الحقيقي لثورات إيران المتتالية، والتي تجعل المجتمع الإيراني في حالة ثورة كامنة أو خفية باستمرار. إن البنية الاجتماعية/الاقتصادية لإيران الحديثة والقائمة على النفط وحده مما يعرضها لاضطرابات متتالية تكمن وراء الظاهرات الدينية أو القومية التي تتصدر المشهد للوهلة الأولى، ولا يمكن أن يستقر المجتمع الإيراني دون الإصلاح العميق لتلك البنية.

يمثل هذا الكتاب لذلك معالجة متميزة من منظور جديد لم يطرق من قبل، دفعت قامة فكرية، هي الأكاديمي اللبناني خليل أحمد خليل، إلى تقديمه مترجمًا للقارئ العربي، كنموذج للرؤية اليسارية للحالة الإيرانية.


إيران الحديثة: من ثورة إلى أخرى

عاشت إيران الحديثة بين ثورات متتالية منذ نهايات الدولة القاجارية 1794 – 1925 وإلى اليوم. استهلت الثورة الدستورية عام 1906 سلسلة الثورات الإيرانية الحديثة، وقد اندلعت كنتيجة لحالة الوهن العام التي أصابت البلاد جراء الهيمنة الإقتصادية التي فرضتها كل من روسيا وانكلترا على البلاد، وعجز الحكام القاجريين عن مجابهة القوتين في النصف الأول من القرن التاسع عشر. أثار ذلك الإستعمار الجزئى حنق رجال الدين حيث كانوا في طليعة الحراك إضافةً إلى تجار طهران الذين وجدوا أنفسهم في منافسة غير عادلة مع التجار الروس والانجليز المعفوين من الضرائب والرسوم. وتعتبر هذه الثورة هي اللحظة الأولى لتأسيس إيران الحديثة التي أنهت عمليا دولة القاجاريين التاريخية.

أعقبت ذلك سلسلة من الاضطرابات انتهت بانقلاب 1921 الذي قام به رضا خان، وهو عقيد سابق في الفرقة القوزاقية، حيث استولى على طهران على رأس ثلاث آلاف رجل في فبراير1921. في ديسمبر 1924 طلب رضا خان من جمعية تأسيسية أن تضع حداً للنظام القاجارى وأن تقدم له العرش الملكى، وبعد عام أعلن نفسه شاهاً واعتُبر مؤسس الدولة البهلوية. ثم مع اندلاع الحرب العالمية الثانية أعلنت طهران حيادها حيث استعجلتها لندن وموسكو لاختيار معسكرها فماطل رضا خان، وهو ما استدعى احتلال القوات البريطانية – الروسية لإيران، وإرغام رضا خان على التنحي لصالح ابنه محمد رضا في أغسطس 1941.

ويمثل انتخاب د. محمد مصدّق من قبل البرلمان لمنصب رئيس الوزراء في 1951 اللحظة الأبرز في تاريخ إيران محمد رضا بهلوي. فقد أصدر مصدق قراراً بتأميم الصناعات النفطية، واتسم قراره بالطابع الثورى وصارت القضية قضية استقلال وطنى آنذاك، حيث شكل مصدّق ائتلافا عريضا ضم صغار التجار وعلماء الدين والأُجراء الماهرين الذين كونهم النظام العلمانى؛ وبذلك ضم الائتلاف أحزاباً مختلفة كحزب الشغيلة الإشتراكى الذي يقوده المثقف الماركسي خليل مالكي، وجمعية مجاهدي الإسلام التي يقودها آية الله أبو القاسم كاشاني. خاض مصدّق بهذا الائتلاف حربه التي رفض فيها أي مفاوضات بشأن اتفاق عام 1933 مع شركة النفط الأنكلو-إيرانية (شركة نفطية إيرانية أسسها رجل الأعمال البريطانى ويليام كنوكس عام 1909 بعدما حصل على حق إستثمار النفط الإيرانى).

وفي عام 1953 قامت لجنة سرية تكونت من عدد من ضباط الجيش الإيرانى وجهازي المخابرات الأمريكية والبريطانية بانقلاب للإطاحة برئيس الوزراء محمد مصدق. وقد سهّل ذلك الانقلاب ابتعاد الاخير عن رجال الدين وانتشار بعض الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية خاصةً عندما اقترح مستشاروه حق المرأة في الاقتراع. واستقر الأمر لمحمد رضا شاه مرة أخرى بعد الانقلاب إلى أن قامت الثورة الإسلامية 1979.



كوفيل لا يرى أن الثورة الإيرانية صدمة مفاجأة وإنما هي ثورة أتت من بعيد؛ فإيران التي فوجأ العالم بثورتها شهدت تغيرات ثورية كثيرة في تاريخها المعاصر.

اندلعت الثورة الإسلامية في شباط عام 1979، حيث استقبلها العالم باعتبارها حادثا سيئ الطالع وبزوغا لتيار إسلامي ثوري وظلامي متعصب لمبادئه في الوقت ذاته. لكن كوفيل لا يرى أن الثورة الإيرانية صدمة مفاجأة وإنما هي ثورة أتت من بعيد؛ فإيران التي فوجأ العالم بثورتها شهدت تغيرات ثورية كثيرة في تاريخها المعاصر.

لطالما كان المجتمع هو المستهدف الرئيسي للأنظمة المتعاقبة على إيران قبل الثورة، وبالأحرى نظام الشاه الذي حاول تغريب المجتمع دونما حساب للحاجات الإيرانية الخاصة، وهو ما دفع أغلب الإيرانيين لرفضه وعدم الانخراط فيه. ثم جاءت الثورة ولوحظ تغير المجتمع الإيراني تغيرا لا يمكن تجاهله، إذ أن الدينامية الاجتماعية ترافقت مع عوامل عدة كالطفرة السكانية التي حدثت في معدل المواليد (خفض سن الزواج – زيادة التقييدات المفروضة على عمل المرأة – تشجيع الإنجاب) إضافة إلى رفع المستوى التربوي مع تنمية نظام حماية اجتماعية، ومحاولات التحضّر المستمرة التي شهدها الريف الإيرانى.

كما تُعد الثورة الإسلامية كذلك فاتحة لشهية تطورات القرن الحادي والعشرين المطبوع في أعماقه بالعلاقات بين الإسلام والسياسة. صحيح أن ظهور الإسلام كقوة سياسية لم يكن من صنيع الثورة الإيرانية إذ أن حركة الإخوان المسلمين العرب أو الوهابيين قد سبقت ذلك بوقت طويل؛ لكنها كانت الزاوية الرمزية التي أعلنت عن موجه من الراديكالية الإسلامية.


القومية تأكل الدين: إلى أي حد يمكن وصف النظام بأنه نظام إسلامى؟

للقومية الإيرانية جذور تاريخية عريقة ترجع إلى القرن الثامن عشر ق.م بانتماء الجنس الإيرانى إلى الآريين (مجموعة من القبائل ذات أصل هندي-أوروبي)، ويمكننا القول بأن القومية الإيرانية ارتكزت على عاملين رئيسين:

1- الثقافة الإيرانية

التي تميّزت باللغة الفارسية، وهي عريقة جدا في أصلها؛ فالكتاب المقدس للديانة الزرادشتية كان قد دُون بها في القرن الخامس ق.م. كما مرّت عليها الإمبراطوريات الساسانية والأخمينية، ولم تتبدّل حتى ارتدت شكلها الحالي بعد الفتح الإسلامى الذي فرض الألفباء العربية في القرن الثامن الميلادى.

وجدت اللغة الفارسية طريقها إلى التكيف بين الصبغة الإسلامية المفروضة والعوالم الفكرية الإيرانية. وبرزت فيما بين القرن الحادى عشر إلى القرن الخامس عشر أعمال أدبية فارسية كبرى، نذكر منها كتاب الملوك (الشاهمانة) للفردوسى. وتكونت مراكز أدبية كبيرة في المدن الإيرانية كسمرقند وبُخارى وشيراز، واشتهر العديد من الأدباء والعلماء الإيرانيين كابن سينا الطبيب الفيلسوف والخيام الشاعر وعالم الرياضيات وغيرهم الكثير. وبقيت الفرسية شاهداً ودليلاً على الحضارة الإيرانية بامتدادها.

أضف إلى ذلك مقومات الثقافية الإيرانية الأخرى كالرسم، والموسيقى التي لبست ثوب الصوفية، والشعر، والعمارة التي نراها مثلا في مسجد أصفهان الذي يُعد واحدا من أجمل التحف المعمارية في العالم، وفن السجاد والبساتين.

2- التاريخ الطويل لإيران في الحرب مع الغزاة والمستعمرين

فلم تنقطع إيران القديمة عن الاصطدام بمعظم إمبراطوريات العالم الكبرى كالرومانية والمغولية والعربية والتركية؛ وهو ما جعل القومية الإيرانية شديدة الانطباع في نفوس الإيرانيين بالتصميم على الكفاح في مواجهة الدول الغربية.

كذلك كان الدين دوما أحد أهم مكونات القومية الإيرانية حتى فيما قبل الإسلام. ففي الحقبة الساسانية جرى تناسق ما بين الدين والدولة، فاستبدلت كل الديانات التي وجدت آنذاك بالديانة الزرادشتية، وجرى فرضها من قبل الدولة لتوحّد الناس عليها، في حين تزعم رجال الدين الزرادشتيين مسار توحيد الإمبراطورية. هذا الاستدماج بين الدين والهوية الوطنية تمادى بعد وصول الإسلام إلى بلاد فارس، وجرى وصف الشيعية في بعض مواطن الغلو بـ ëالإسلام الإيرانى». والإسلام الشيعي، كما يراه كوفيل، مذهب «وطني» «قومي» في أصله، مختلط في جوهره بالسياسة؛ فهو في الأصل حركة عربية مكونة حول مطامح علي وذريته من بعده نحو الخلافة.

وجاء إعلان الخمينى بعد الثورة عن نيته لإقامة حكومة دينية ليفسح المجال للتفكير في أننا نشهد ظهور شكل من الشمولية الروحية -كما وصفها الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو حينها- المنفصلة تماما عن الواقع التاريخى والاجتماعى الإيراني؛ إلا أن الطابع الراديكالي الذي أعلن عنه الخميني في صراعه مع الحداثة المستوردة من الغرب قد مثل بعدا قوميا هاما في بلد كانت تعتبر مشروعها القومى هو محاربة الإمبراطوريات العالمية والهيمنة الغربية على هذا العالم.


اقتصاد مستفيد أم ضحية للنفط؟

يضير الاقتصاد الإيرانى ما يضير الاقتصاديات القائمة بالأساس على تصدير مادة خام وحيدة، وهو ما يعتبر اختلالا وظيفيا بنيويا، كهبوط الأسعار وزيادة المعروض من المادة أو استخدام نظائرها لنفس الغرض؛ فالأزمة النفطية سنة 1986 سُجّل على إثرها انكماش في معدل النماء الإيرانى. والأزمة الاقتصادية التي تمر بها إيران حاليا جرّاء انخفاض أسعار النفط العالمية خير مثال على ذلك.

لطالما أمكننا القول بأن الاقتصاد الإيراني الحديث ولد يوم 26 آيار 1908 عندما اكتشف المهندس الإنجليزي جورج رينولدز أول حقل للنفط الإيرانى، ومنذ ذلك الحين والموارد النفطية تلعب دورا بالغ الأهمية ظهر في جهود رضا شاه لرفع الاقتصاد الإيرانى. ولا أظن أن الصادرات النفطية الإيرانية تغيرت بعد الثورة عما قبل الثورة رغم محاولات بعض السياسيين الإيرانيين كأبي الحسن بني صدر الدفاع عن فكرة الحد منها لإرساء اقتصاد الإيرانى متعدد القطاعات، غير أن الحرب الإيرانية مع العراق اضطرت صانعي القرار للحفاظ على وزن إيران من الصادرات النفطية لتغطية نفقة الحرب.

بات من الملاحظ فى مختلف مراحل الكتاب تأثر تييرى كوفيل الواضح بالتغيرات النفطية وأثرها على الوضع السياسى والاجتماعى الإيراني ولا عجب في ذلك فهى موضوع دراسته كما ذكرنا.


المجتمع الإيراني



وجدت اللغة الفارسية طريقها إلى التكيف بين الصبغة الإسلامية المفروضة والعوالم الفكرية الإيرانية.

بدا المجتمع الإيراني أصلب مما توقع معارضوه واجتاز الاضطربات الثورية والعقوبات الإقتصادية التى فرضتها الولايات المتحدة وحرب العراق وأزمات شتى مع المجتمع الدولى. ربما نفسر ذلك التماسك خلافا للشرعية الدينية والقومية إلى وجود عدة تيارات وتنوعات داخل النظام وخلافا لما توجس منه الخمينى فلم يكن لهذا التنوع مفعول تدميرى على النظام الإيرانى.

وهكذا يرى تييرى كوفيل أن المجتمع الواقع تحت وطأة الضغط الشديد من النظام أصبح في طريق التحديث المحتوم بلا شك وتعاظم المطالب الديموقراطية يتناغم مع التوطد المتصاعد فى قضايا النساء والشباب وهكذا تشهد إيران شكلا من ثورة خفية يصعب استشراف مآلها!